كثيراً ما تُصَدَّرُ مشاريع إصلاحٍ اجتماعيةٌ أو تعليمية أو غيرها بأنها تستند إلى ثوابت البلاد وتحترم المقدساتِ، وقد يبحث الباحث عن صدق هذه الدّعوى في ثنايا المشروع فلا يجد من الثّوابت شيئاً أو قد يجد ما يذرّ الرَّمادَ في العيون، فتكون دعوى احترام الثوابت في ديباجة المشروع وسيلةً لتهدئة النفوس وصرفاً لأيّ اعتراضٍ مفترض..
ولاشك أن ما سُمِّي بالخطة الوطنية لإدماج المرأة صدّره أصحابه والمدافعون عنه بما يُفْهم منه أنه لا يمسُّ بجوهر الثوابت الشرعية، ولكن هذا المشروع بعدما ذاع وانتشر وتناوله المحلِّلون، تبين بما لم يدع مجالاً للشّك أن “الخطّة” لا تبتعد عن الثوابت المذكورة فحسب، ولكنها تُعارضها في كثير من الجوانب، فسقطت عنها الشّرعية وسقطت عنها صفة “الوطنية”.
وما قيل في مشروع إدماج المرأة في التنمية يمكن أن يقال في مشروع إصلاح التعليم، الملقّب بـ”الميثاق الوطني للتربية والتكوين”، ذلك أنه يغلب عليه الطّابع النظريّ والتأمل المفارق للواقع، فهو يريد أن يصوغ عقل التلميذ المغربي صياغةً “كميةً” مكونة من فسيفساءِ معارفَ كثيرة، أغلَبُها يعارض بعضُه بعضاً، ويشحنه بمعلوماتٍ جمةٍ سواء عليه أَسْتوْعبها أم لم يستوعبْها. وأبسط مثال على ذلك إعدادُ التلميذ لتعلُّم اللغة الأجنبية ابتداء من ااسنة الثانية، وإتْباعُ ذلك بتعليمه اللغة الأجنبية الثانية في السنة الخامسة، ثم لهجة من اللهجات المحلية.
والزّعمُ بأن المشروع سَيُعِدُّ تلميذاً متمكناً من لغته الأم تعبيراً وكتابةً، ويُلمَّ بلهجات بلاده المحلّية، وينفتح على أهمّ لغات العالم وأوسعها انتشاراً، أمرٌ نظريٌّ خالصٌ لا انطباقَ له على الواقع التّربويّ الذي يعيش فيه التّلميذ لأمرين :
أ- لأنه سيكون مجردَ تجريب لعيِّنة جديدة من التّصورات البيداغوجية “الكمية” على طفلٍ مثقل بالهموم منذ صغره، محاصرٍ من كل جهة بِسَيْلٍ من المعلومات والتوجيهات والبرامج والمغريات التي تخاطبه وتحرص على جذب انتباهِهِ من كل جانب. فالمعادلة تقتضي أنه كلّما ازدادت المعلومات والبرامج التي يراد للتلميذ أن يتلقّاها، نقصت درجة العمق والتّركيز في الحصيلة التي استقرت في ذهنه، فيكون “كَمُّ” البرامج مراداً على حساب “كيْفها”.
ب- والأمر الثاني أن تمكُّن التلميذ من لغته الأم أمرٌ مشكوك في صحته؛ لأن هذه اللغة العربية لم يعدْ لها في زماننا فصاحةٌ على الألسنة، وذلك للمزاحمة التي تعاني منها ومنافسة لغات ولهجات لها، وأصبح عقلُ التلميذِ اليومَ مشكَّلاً على نحو يستيطع معه أن يفهم ما يوجّه إليه بالعامية أو الدارجة، والمعلوم أن العامية ليست لغة علم أو أدب أو كتابة ولكنها في واقع الأمر لحنٌ اعترى اللغة الفصحى وانحرافٌ أصابها، وكل أدب أو نشاط ثقافي منطوق أو مكتوب، أنجز قسرا بالعامية، إنما هو صورة من انحطاط اعترى اللغة الفصحى، وليس صورة من صور التبسيط لما يُبَلَّغ، بل هو أحط مما كان يدعو إليه سلامة موسى ولويس عوض وأضرابهما من دعاة تبيسط العربية وترقية العامية للحصول على لغة وسطى بين المنزلتين.
كان ينبغي لمشروع الميثاق أن يفكر في إعداد التلميذ إعدادا سليما صحيحا، وذلك بتكوين الأساس اللغوي المتين عنده، قبل التَّطْوافِ به في سوق اللغات واللهجات؛ لأن الأساس اللغوي المتين هو تمكينه من تعلُّم لغته الأم لعدة سنوات قبل الولوج به في لغات أخرى، وتمكينه من تلقّي لغته الفصحى نطقا ورسما وبناء.
ولعل المشروع مطالب -بناء على احترام ثوابت الأمة والعمل بمقتضياتها- بإكرام اللسان العربي الذي هو لسان البلاد الرسمي، إكرامه نطقا ورسما وبناء.
فإكرامه نطقا تجويد أصواته صفاتٍ وأداء،ً وإكرامه بناء حسن تبليغه وبيانه وإقامةقواعده وتسليمه من اللحن، وإكرامه رسما تغيير الخط والعودة إلى الرسم المغربي الأصيل للحروف، وشكل الحروف بالحركات التَّامة، وتعويد التلاميذ على تعلُّم العربية المُعرَّبَة.
إن التلاميذ اليوم في حاجة إلى إحداث مادة لغوية جديدة في المستويات الدِّراسية كلها، وتنشئتهم عليها، وهي القراءة الناطقة للنُّصوص الفصيحة أو ما يمكن تسميته بمادة “القراءة السليمة”، وهي وسيلة طبيعية لاستخراج طاقات الطفل اللغوية وقدراته الكامنة وملكاته الفصيحة المركوزة في نفسه … وذلك في مقابل الثقافة الكتابية الصامتة التي تُسقط عن اللغة كثيرا من قيمها الجوهرية وعلى رأسها الأصوات والقراءة الناطقة، وما يترتب على ذلك من تقويم اللسان وتصحيحه وحمله على الالتحاق بمستوى الفصاحة التي أصبحت مهددة بانتشار الدّوارج واللهجات، واستعمالها في التواصل.
وإن مادة “القراءة السليمة” في حاجة إلى تخريج أفواج من المدرِّسين الذين يحملون همّ اللغة العربية الفصحى، نطقا وكتابة، بعد تدريبهم على حسن أداء الأصوات بصفاتها من مخارجها (كما يفعل الإنجليز في تلقيننا لغتهم)؛ لأن جزءا هاما من الانحرافات الصوتية في أداء التلاميذ للأصوات العربية مستمدٌّ من أداء المدرِّسين الأوائل الذين لقنوهم، ثم من جاء بعدهم في مستويات التدريس المختلفة.
إن إهمال اللغة العربية الفصحى وقصْرها على الكتابات الرسمية والرسائل والبحوث العلمية والأدبية والفكرية، وعلى نخبة المثقفين والكُتّاب ليُصيبها بالضُّمور والعطب، ويُصيب الملكات بالنقص والعجز، ويصنع الحواجز النفسية بين اللغة والمتكلمين، وهذا أمر طبيعي وقانون كوني تخضع له جميع المخلوقات والأحياء، فما من عضو يستعمل باطِّراد إلا وينمو وينتعش ويتطور ويصير قادرا على مقاومة العوائق وتحدي المصاعب، وما من عضو يُهمَل إلا ويصير عُرضة لتشوُّه الخلقة والانقراض من الوجود بالمرة، وهذا شأن اللغة العربية وكل اللغات على الألسنة، تُستعمل فتنمو وتنتعش، أو تهمل فتموت وتنقرض، واستعمالها رهين بوجود الحوافز والمنبهات التي تَحُثُّ على تحريكها على الألسنة وتعلُّمها والتخاطب بها، حتى تصير لغة الخطاب اليومي. وصيرورتها كذلك يمكن أن تكون على مراحل يتدرج فيها الاستعمال اللغوي، فيجري استعمال اللغة في المدارس والمؤسسات التعليمية والندوات والمحافل الرسمية والمنظمات وغير ذلك، ثم ينتقل شيئا فشيئا إلى تجمعات بشرية أخرى في المجتمع حتى يتاح للغة أن تصير مألوفة جارية على الألسنة.