حرية الفرد وحقوق المجتمع في ظل الاسلام


الحرية فطرة فطر الله الناس عليها، نادى بها الإسلام ودعا إليها وحققها تهدف إلى ضمان حقوق الإنسان في أن يعيش سعيدا كريما مساويا لغيره في الحقوق والواجبات، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى فأساس التفاضل عند الله هو التقوى، قال الله تعالى : {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقَاكُمْ}(الحجرات : 13). والحرية في الاسلام تقرر اختيار الانسان لعمله وسلوكه، وهذا ما تيمثل في قوله تعالى : {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا، قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}(الشمس : 8). ثم إنها الحرية التطبيقية الميدانية التي أعلنها الفاروق عمر بن الخطاب بكلمته الخالدة : >متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً<.

والاسلام حينما ألزم الانسان بالعبودية لله تعالى، جعل هذه العبودية أعظم مراتب الحرية، قال الله تعالى : {ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُون}(الذاريات : 56)، والانسان من خلال توجهه لله الذي خلقه ورزقه، وتقربه إليه بالعبادة يتحرر من كل سلطان لا يخضع ولا يسجد إلا لله، ويرفض أن يجعل لله أنداداً، ويتحرر حتى من سيطرة الهوى، وسلطان الشهوة، قال تعالى : {وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى}(النازعات : 42 -41)، وقال رسول الله  : >لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به<.

تلك إذن هي الحرية الحقيقية المتمثلة في صورة العبودية، ولا يمكن للبشرية أن تتحرر إلا بهذه العبودية.

والاسلام حينما كفل للإنسان الحرية باعتبارها حقا من الحقوق، جعل لها قيودا لا ينبغي تجاوزها، فلو انطلق كل فرد حُرّاً يفعل ما يشاء لتعارضت حريات الناس واختل المجتمع ولذلك لا توجد حرية مطلقة لمخلوق، فالحرية المطلقة ليست إلا لمن بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير {لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلْ وُهُمْ يُسْأَلُون}(الأنبياء : 23).

ومع ذلك فهو بحكمته لا يفعل إلا مافيه الخير ولا يختار بإرادته ذات الحرية المطلقة إلا ما فيه الخير، وقد كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وألزم نفسه بأمور كثيرة تجاه عباده مع أنه لا حق لمخلوق على خالقه، ولكنه رتب تبارك وتعالى على نفسه حقوقا لعباده فهو سبحانه على صراط مستقيم(1)، قال الله تعالى : {كَتَب رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أنَّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ، وأصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رحِيمٌ}(الأنعام : 54)، وقال تعالى : {وكَان حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُومِنِينَ}(الروم : 47).

استنادا إلى ما سبق فإن القيود التي وضعها الاسلام لتنظيم الحرية الفردية إنما تستهدف مصلحة الفرد والمجتمع في وقت واحد، وتأكيد الأساس المشترك والمصير المشترك للفرد والجماعة.

ولهذا كان من واجب المجتمع أن يتعاون أفراده على رعاية هذه الحدود فلا يسمحون لفرد منهم بأن يتعداها في نفسه أو في محيطه حماية له ولأنفسهم من عاقبة هذا التعدي، قال الله تعالى : {ومَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون}(البقرة : 229). وقد صور الرسول  هذا المعنى في المسؤولية المشتركة بين أفراد المجتمع في هذا الحديث : >عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله  قال : >مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا<(رواه البخاري).

فالمجتمع تماما كأصحاب السفينة هؤلاء، فإن الذين في أعلى السفينة إن تركوا الذين في أسفلها ليخرقوا في نصيبهم خرقا، وقالوا هذه حرية شخصية لهم، فليفعلوا ما شاءوا فإن النتيجة غرق السفينة وهلاك الجميع، وإن أخذ الذين في الأعلى على أيدي الذين في الأسفل وقالوا لهم ليس الإضرار بالملك العام من الحرية الشخصية فالنتيجة نجاة الجميع.

وهكذا حال المجتمع، فإن أهل الفساد الواقعين في حدود الله يخرقون بمعاول انحرافهم في سفينة المجتمع، فإن أخذ المصلحون على أيديهم، ومنعوهم من الإضرار بالمجتمع نجا الجميع، وإن تركوهم في غيهم، وتخاذلوا عن الإنكار عليهم هلكوا قاطبة.

إن مما لاشك فيه أن الحقوق لها حدود، وأن كل حق متى تجاوز حده خرج من دائرته فكان عدوانا وظلما، فإذا نظرنا إلى موقف الفرد إزاء تصرفاته التي تعتبر من أخص شؤون حياته، ومدى حقه في مارسة حريته الشخصية نجده ليس حرافي أن يمارس حياته على الأسلوب الذي يريد حتى في مأكله ومشربه ونفقته لأنها مقيدة بمصلحته هو أولا، ثم بمصلحة المجتمع باعتباره فردا من أفراده ولبنة من بنائه، وفي ذلك يقول الله تعالى : {وكلوا واشربوا ولا تُسْرِفُوا}(الأعراف : 31)، لأن الإسراف في الطعام والشراب مفسدة للصحة، وقد قيل المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء. ولأن الإسراف في الطعام والشراب يصيب الإنسان بالتخمة والمجتمع الذي يصاب فريق منه بالتخمة لا يكون ذلك إلا على حساب فريق آخر يصاب بسوء التغذية.

وقد يظن الانسان أنه حر في ماله ينفقه كيف يشاء وأنه ليس لأحد أن يحاسبه على ذلك أو يمنعه من التصرف في ماله حسبما يشاء، وهذا ظن خاطئ لا يقره المجتمع فإن مثل هذا الإنسان الذي لا يحسن التصرف في ماله فهو ينفقه في غير وجوهه المشروعة يفقد أهليته وتسقط حريته، ويقرر المجتمع الحجر عليه ووضعه تحت وصاية من يرعى ماله ويصون مصالحه.

والغني الذي يمتنع عن أداء زكاة ماله أو يتأخر في إخراجها يحمل بعض الفقراء على التردي في بعض الخطايا سرقة أو استجداء أو احتيالا.

والتاجر الذي يحتكر سلعة من السلع يخفيها حتى تشتد حاجة الناس إليها فيبيعها بالثمن الباهظ الذي يفرضه، مثل هذا الرجل يقول فيه الرسول  : >من احتكر الطعام أربعين يوما برئ من الله، وبرئ الله منه<(رواه أحمد والحاكم). والشخص الذي يدخن يبذر ماله، وينهك جسمه، ويفسد صحته، ويؤذي الناس برائحة دخانه الكريهة، ويفسد الجو من حولهم، ولا يخفى على أحد ما تسببه آفة التدخين من أمراض خطيرة أقل ما يقال عنها أنها أمراض فتاكة تنتهي غالبا بوفاة أصحابها.

والذي يشرب الخمر أو يتناول المواد المخدرة ليهرب من مواجهة الحياة فيقع في غيبوبة يفقد معها ماله وصحته وكرامته، إنما يخسر بذلك نفسه ويخسره المجتمع، وقد كان جديرا به أن يكون انسانا سليم الجسم والعقل، قوي الارادة ليتمتع بحياة كريمة، ويؤدي دوره في إسعاد نفسه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه(2).

ومن أمثلة الذين ينْحرفُون بمعاول الانحراف في سفينة المجتمع الفتي الذي يفسق ويفجر وينجرف في تيار الشهوات مدعيا أنه حر في تصرفاته، إنه بسلوكه هذا يسير في طريق التمرد والعصيان، ويهتك بذلك حقوق المجتمع.

الفتاة المستهترة التي تخرج عن حد القصد فيما تلبس لتكشف عما ينبغي أن تستر من أعضاء جسمها مندفعة وراء التقليد الأعمى لكل ما تصدره المجتمعات المنحلة من أساليب الفتنة والاغراء، قد كان جديرا بها أن تتمسك بما يفرضه عليها الدين والخلق، وان تشيع من حولها الحياء والاحترام.

وحين يغش الطالب في الامتحان والطبيب والمهندس والموظف.. ويصبح الغش قاعدة وحَمْلُ الأمانة بصدقٍ واخلاص استثناء، فلا جرم يذهب المجتمع أسفل سافلين، ولذلك فإن المسؤولية المشتركة تتأكد بين أفراد المجتمع في جميع نواحي الحياة،فهم مسؤولون عن إقامة موازين العدل والمساواة بين الناس، ومحاربة الظلم والاستغلال والفساد.

وهنا تحدد القيم الدينية الطريق لحمل هذه المسؤولية وأدائها على وجهها الصحيح، وتحذر من عواقب التراخي أو التواطئ في أداء هذه الأمانة، قال الله تعالى : {لُعِنَ الذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إسْرَائِيلَ علَى لِسانِ دَاوُدَ وعِيسَى بن مَرْيم ذلك بِما عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لاَ يتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوه لَبِيسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(المائدة :79 -789) وقال سبحانه : {والعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلاَّ الذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بالحَقِّ وتَوَاصَوْا بالصَّبْر}(سورة العصر).

والرسول  المبعوث بالحق هدى ورحمة للعالمين حذرنا من ترك المفسد وكأن أمره لا يعنينا، أو أن ضرره لن يصيبنا، وأمرنا بمقاومة المنكر وتغييره فقال : >من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان<(رواه مسلم).

بذلك يتضح أن مصلحة أي فرد ليست هي مصحلته وحده وشأنه بمفرده، بل هي مصلحة الناس جميعا، وكل ضرر هو ضرر يصيبهم جميعا، ولا يستطيع أحد أن يتخلى عن مسؤوليته في هذا السبيل(3).

وقد يُتصور أن الإنسان غير مسؤول إلا عن خاصة نفسه، ولا شأن له بانحراف غيره مادام هو ملتزما جانب الحق، وقد صحح أبو بكر الصديق ] مفهوم الآية، من قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُم أنْفُسكُم لا يَضُرُّكُمْ مَن ضَلَّ إذاَ اهْتَدَيْتُم}(المائدة : 105) فقال يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وإني سمعت رسول الله  يقول : >إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده<(رواه أبو داود والترمذي)، فعلينا أن نتقي الله في كل أقوالنا وأفعالنا، وأن نحذر منشر الوقوع في الفتن. قال الله تعالى : {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة}(الأنفال : 25) ذلك لأن الفتنة أو البلاء حين يحل بمجتمع نتيجة تعطيل الحدود، وشيوع المنكرات لا يقتصر على المخالفين الذين كانوا سببا في وقوع هذا البلاء، وإنما يعم الصالح والظالم والحسن والمسيء.

نعوذ بالله من ضلال الرأي، وزيغ القلوب، ونسأله الهدى والتقى إنه سميع مجيب.

——-

-1  الوجيز في الأخلاق الاسلامية، عبد الرحمن حبنكة ص 187.

-2 القيم الدينية والمجتمع، محمد كامل حته ص : 28، سلسلة اقرأ ع 386.

-3 قبسات من الرسول، محمد  قطب  ص 168.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>