حول بعض مقتضيات الدعوة إلى الله


تجتاز الأمة الإسلامية، كما هو معلوم من المشاهدة والمعايشة بالضرورة، مرحلة جد مهمة وخطيرة في نفس الوقت، مهمة لما تعرفه من تحولات بنسب متعاقبة في درجات الوعي الفردي والجماعي الذي أصبحت تعكسه ممارسات الصحوة الإسلامية، الشيء الذي يخول لنا الحق في الجزم بأن العصر المقبل عصر الدين بعدما أثبت الواقع فشل اطروحات عصر المادة والعلم في تحقيق آدمية الإنسان وكرامته، وخطيرة، كذلك، إذا ما نظرنا إلى الخريطة الإسلامية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا..، في ظل التحولات العالمية الكبرى التي تعصف من حين لآخر بمجموعة من المنظومات الحضارية الراسخة في التاريخ الإنساني، تحت وطأة حمى الصدام الذي أفرزته فلسفة وسياسة العولمة وما بعد الحداثة.

وبموازاة مع هذا الوضع الجديد، الذي من أبرز ما يمكن أن يتصف به كونه مكرساً للارتهان الحضاري، تقتضي الضرورة التاريخية والحضارية الإمساك بكل ما من شأنه التمكين لهذه الأمة وهي تسعى لمعاودة دورها في الشهادة على الناس، لعلمنا الأكيد على أن للتمكين شروطا ذاتية وأخرى موضوعية، لابد من فهمها فهماً يستعين بآليات إدراك السنن الإلهية في الخلق وفق مجموعة من المقتضيات الأساسية التي لن يستقيم الجسم الإسلامي كما ينبغي بدونها، ومن أهمها وأجلها مقتضيات الدعوة إلى الله، التي هي من أولى المسؤوليات الملقاة على عاتق كل فرد ينتمي لهذا الدين، يؤديها بقدر فهمه لها ومعرفته بقواعدها وقدراته الذاتية.

واليوم، والصحوة يكبر حجمها، وتتزايد مطالبها الملحة بتزايد أزمة الانفصام الحضاري الذي تعيشه غالبية أفرادها من جراء الثقافة الاستعمارية، لابد من تعميق الفهم في الدعوة إلى الله، وتبسيط سننها للناس، أفرادا أو جماعات، حتى يكون القائم بها على وعي بكون الإسلام دين الرحمة والإخاء والمساواة والكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، لا دين العنف والسب والشتم والتكفير والتفسيق، ذلك أنه غاب عن كثير من العاملين بداخل حقل الدعوة الى الله على وجه الخصوص الفهم الصحيح لحقيقة الدعوة وآلياتها وقواعدها، الأمر الذي فسح المجال على مصراعيه لبروز التعدد التنظيمي المتصارع، كل حزب بما لديهم فرحون، وكل جماعة، إلا من رحم الله، تنظر إلى نفسها من موقع الفرقة الناجية التي تمتلك لوحدها فصل الخطاب.

من هنا ارتأينا أن نذكر أنفسنا قبل غيرنا ببعض المقتضيات الضرورية في مجال الدعوة إلى الله، خاصة في هذا الزمن الصعب والمعقد بتعقد مكوناته السياسية والاقتصادية والتربوية.. نذكر منها ما ألحت عليه السنة النبوية، تربية للأجيال والرجال العاملين باخلاص :

1- ضرورة الاخلاص لله في السر والعلانية، مصداقا لقوله جل جلاله {فاعْبُد اللّه مخْلِصاً له الدِّين}(الزمر : 2) فهو لب العبادات كلها وأساس قبول الأعمال.

2- موافقة الدعوة لمناهج النبوة وهدي الكتاب والسنة، بحيث لا يقبل العمل إلا إذا كان موافقا للشرع الإسلامي الذي بين القرآن الكريم والسنة النبوية حدوده.

3- أن يكون الداعي إلى الله عز وجل على علم بما يدعو إليه، الأمر الذي يقتضي الاستيعاب والرؤية الشمولية المؤسسة على الفهم العميق لمقاصد الإسلام جملة وتفصيلا، والتي، أي المقاصد، تقتضي بدورها العلم بفقه الدين والدعوة والواقع. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا بالبصيرة : {قُلْ هذه سَبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(يوسف : 108)، كما بيّن أن على المسلم، بصفة عامة، أن لا يقْف ما ليس له به علم {ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا}(الإسراء : 36)، وبهذا وذاك يكون على الداعي إلى الله أن لا تكون دعوته مبنية على الجهل المؤدي إلى البدع الضالة أو المخالفة للدين.

4- أن يدرك معنى الحكمة والموعظة الحسنة، فهما وتنزيلاً، في الدعوة إلى الله عز وجل، لأنها المؤدية إلى القول الحسن مصداقا لقوله جل جلاله {ومَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً، وقالَ إنَّنِي مِن المُسْلِمِين، ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولاَ السَّيِّئَة، ادْفَعْ بالّتِي هِي أحْسَن فإِذَا الذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ الذِينَ صَبَرُوا ومَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ}(فصلت : 33- 36) وقال عز وجل كذلك {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبَّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أحْسن، إنّ رَبَّكَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وهُوَ أعْلَمُ بالمُهْتَدِينَ}(النحل : 125).

5- أن يكون الداعي إلى الله عز وجل عارفا بأحوال المدعوين، النفسية والاجتماعية والثقافية والاخلاقية والاقتصادية، حتى تكون لدعوته ومجهوده الثمار المباركة والطيبة، الأمر الذي يقتضي المعاشرة وطول النفس، إذ لا يمكن تغيير الانسان من حال إلى حال بين عشية وضحاها، إلا من رحم الله برحمته وشمله بعفوه وكرمه.

6- القدرة على الدعوة إلى الله عز وجل، لأنها أمر صعب المسالك، وهو ما يقتضي امتلاك القدرات البدنية والنفسية والثقافية اللازمة، بل ويقتضي بالأساس قاعدة لابد من توفرها والمقصود بذلك علم الخشية إلا من الله جل جلاله يكون خلالها الداعي إلى الله من زمرة من قال فيهم الحق سبحانه {الّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيل، فانْقَلَبُوا بنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}(آل عمران : 173-174).

7- ومن المقتضيات الضرورية كذلك، عدم انتظار النتائج قال تعالى مشيراً إلى ذلك {فَإِنْ أعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاَغ}(الشورى : 48).

8- الفهم العميق لمعنى الصبر في حقل الدعوة إلى الله، قال تعالى على لسان لقمان {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وامُرْ بالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِر على ما أصَابَك إنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(لقمان : 17).

9- الانفاق في سبيل الدعوة إلى الله، وهو من أهم المقتضيات التي ينبغي العمل على اشاعتها في صفوف الناس، عاملين ومنافحين، لما لعامل الانفاق من دور في التمكين للدعوة في نفوس المدعوين، ومغالبة المحن والصعاب التي يلقاها الداعي إلى الله.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>