كلمات : الكلمة العاشرة    -4- مبحث الحشر ((فاَنْظُرْ إلى آثَارِ  رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وهُوَ على كلِّ شَيْءٍ قَدير)) (الروم : 50)


هذه اثنتا عشرة صورة تؤكد أن هناك محكمة كبرى حقا، ودارا للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن.

الصورة الثامنة

تعال، لأتلو عليك هذه الأوامر الصادرة من السلطان. انظر، إنه يكرر وعده ووعيده قائلاً : لآتينّ بكم إلى مقر سلطنتي، ولأسعدنّ المطيعين منكم، ولأزجَّنَّ العصاة في السجن، ولأدمرنّ ذلك المكان الموقت، ولأنشأن مملكة أخرى فيها قصور خالدة وسجون دائمة.. علماً أن ما قطعه على نفسه من وعد، هين عليه تنفيذه، وهو بالغ الأهمية لرعاياه. أما إخلاف الوعد فهو منافٍ كليا لعزته وقدرته.

فانظر أيها الغافل : إنك تصدق أكاذيب أوهامك، وهذيان عقلك، وخداع نفسك، ولا تصدّق من لا يحتاج إلى مخالفة الوعد قطعاً، ومن لا تليق المخالفة بغيرته وعزته أصلاً، ومَن تشهد الأمور كافة على صدقه.. إنك تستحق العقاب العظيم بلاشك، إن مثلك في هذا مثل المسافر الذي يغمض عينيه عن ضوء الشمس، ويسترشد بخياله، ويريد أن ينير طريقه المخيف ببصيص عقله الذي لا يضيء إلا كضياء اليراعة (ذباب الليل).

وحيث إنه قد وعد، فسيفي بوعده حتماً، لأن وفاءه سهل عليه وهين، وهو من مقتضيات سلطنته، وهو ضروري جداً، لنا ولكل شيء.

إذن هناك محكمة كبرى وسعادة عظمى.

الصورة التاسعة :

تعال، لننظر إلى رؤساء -يرمز إلى الأنبياء والأولياء- من هذه الدوائر، قسم منهم يمكنهم الاتصال بالسلطان العظيم مباشرة، بهاتف خاص. بل قد ارتقى قسم آخر وسما إلى ديوان قدسه.. تأمل ماذا يقول هؤلاء؟ إنهم يخبروننا -عن طريق الوحي- جميعاً أن السلطان قد أعدّ مكاناً فخماً رائعاً لمكافأة المحسنين وآخر رهيباً لمعاقبة المسيئين. وانه يَعِد وعداً قوياً ويُوعِد وعيداً شديداً، وهو أجلّ وأعزّ من أن يذلّ الى خلاف ما وعد وتوعد. علماً بأن أخبار المخبرين قد وصلت من الكثرة إلى حد التواتر ومن القوة إلى درجة الاتفاق والاجماع فهم يبلغوننا جميعاً : بأن مقر هذه السلطنة العظيمة التي نرى آثارها وملامحها هنا، انما هو في مملكة اخرى بعيدة -في الآخرة-، وان العمارات في ميدان الامتحان هذا بنايات وقتية، وستُبدّل الى قصور دائمة، فتبدل هذه الأرض بغيرها. لأن هذه السلطنة الجليلة الخالدة -التي تُعرف عظمتُها من آثارها- لا يمكن أن تقتصر هيمنتُها على مثل هذه الأمور الزائلة التي لا بقاء لها ولا دوام ولا كمال ولا قرار ولا قيمة ولا ثبات. بل تستقر على ما يليق بها وبعظمتها من أمور تتّسم بالديمومة والكمال والعظمة.

فإذن هناك دَارٌ أخرى.. ولابد أن يكون الرحيل إلى ذلك المقر.

الصورة العاشرة :

تعال يا صاحبي، فاليوم يوم عيد ملكي عظيم-يرمز إلى يوم العرض على الله تعالى وانهيار الدنيا..- ستحدث تبدلات وتغيرات وستبرز أمور عجيبة.. فلنذهب معاً للنزهة، في هذا اليوم البهيج من أيام الربيع إلى تلك الفلاة المزدانة بالازهار الجميلة.. انظر! هاهم الناس متوجهون إلى هناك.. انظر! هاهنا أمر غريب عجيب، فالعمارات كلها تنهار وتتخذ شكلاً آخر! حقاً إنه شيء معجز! إذ العمارات التي انهارت قد أعيد بناؤها هنا فوراً، وانقلبت هذه الفلاة الخالية الى مدينة عامرة! انظر.. إنها تريك كل ساعة مشهداً جديداً وتتخذ شكلاً غير شكلها السابق -كشاشة السينما- لاحظ الأمر بدقة لترى روعة هذا النظام المتقن في هذه الشاشة التي تختلط فيها مشاهد بكثرة وتتغير بسرعة فيه مشاهد حقيقية يأخذ كل شيء مكانه الحقيقي في غاية الدقة والانسجام، حتى المشاهد الخيالية لا تبلغ هذا الحد من الانتظام والروعة والاتقان، بل لا يستطيع ملايين الساحرين البارعين من القيام بمثل هذه الأعمال البديعة.. إذن فللسلطان العظيم المستور عنا الشيء الكثير من الأمور الخارقة.

فيا أيها المغفل! انك تقول : “كيف يمكن أن تدمّر هذه المملكة العظيمة وتعمّر من جديد في مكان آخر؟|.

فها هو ذا أمامك ما لا يقبله عقلك من تقلبات كثيرة وتبدلات مذهلة، فهذه السرعة في الاجتماع والافتراق، وهذا التبدل والتغير، وهذا البناء والهدم.. كلها تنبئ عن قصد، وتنطوي على غاية، اذ يُصرف لأجل اجتماع في ساعة واحدة ما ينفق لعشر سنوات! فهذه الأوضاع إذن ليست مقصودة لذاتها، بل هي أمثلة ونماذج للعرض هنا. فالسلطان يُنهي أعماله على وجه الاعجاز، كي تؤخذ صورها، وتُحفظ نتائجها وتُسجل كما تُسجل وتحفظ كل ما في ميدان المناورات العسكرية. فالأمور والمعاملات إذن ستجري في الاجتماع الأكبر وتستمر وفق ما كانت هنا. وستعرض تلك الأمور عرضاًمستمراً في المشهد الأعظم والمعرض الأكبر. أي أن هذه الأوضاع الزائلة تنتج ثماراً باقية وتولّد صوراً خالدة هناك.

فالمقصود من هذه الاحتفالات إذن هو بلوغ سعادة عظمى، ومحكمة كبرى، وغايات سامية مستورة عنا.

الشيخ بديع الزمان

سعيد النورسي

ترجمة: ذ. إحسان قاسم

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>