الوفاء بالالتزامات الدولية من المنظور الإسلامي


كثيرا ما تختلف القوانين الدولية، مع الشريعة الإسلامية، وكثيرا ما تتعارض أحكامها وتتصادم، وهو نتيجة طبيعية لاختلاف مصدرهما وأهدافهما والمشرِّع لهما، فالشريعة الاسلامية من وضع الله العليم الحكيم، ومصْدَرُهَا الوحيُ المعصوم من الخطأ، والمنزَّهُ عن النقائص والشوائب، وهدفها اسعادُ الانسانية، وتطهيرُ المجتمعات من الظلم والفساد، ونشْرُ المحبة والإيخاء بين الناس، بينما القوانين الدولية من وضع الإنسان بصفة عامة، وتتحكَّمُ في صياغتها جهاتٌ تمتلك القوة والنفوذ، يُهِمُّها تحقيق مصالحها وحمايتها، ولا تبالي بالدمار الذي تُلحقه بغيرها، ولا تراعي خصوصيات غيرها، ولا تحترم ديانته وكرامته، بل تتعمد في كثير من الأحيان إلى الإساءة ومحاولة طمس الهوية الاسلامية، ودفنها أو مسخها.

والسؤال هل للمسؤولين المسلمين حريةالمصادقة على هذه المواثيق والالتزام بها؟ وهل من حقهم الوفاءُ بها رغم مخالفتها للشريعة الاسلامية؟ وهل لهذه المواثيق قوة إلزاميَّةٌ من وجهة نظر الشريعة الاسلامية؟

أسئلة ما كان أغنانا عن طرحها وإثارتها أو مناقشتها، إذ المسلم الصادق يخجل من ذكرها، وتتملكه الحيرة والدهشة عند سماعها، ولا يسعه إلا أن يقول : من نحن؟ وأين نحن؟ وإلى أين نسير؟ حتى تطرح هذه الأسئلة نفسها علينا، ألسنا مسلمين تاريخيّاً وواقِعِيّاً ودستورياً، ونعيش في بلد مسلم، يقوده ملك مسلم هو أمير المومنين؟؟ فلماذا هذه الأسئلة؟ وما مكانها وموقعها في حياتنا وواقعنا؟.

أجل لا مكان لهذه الأسئلة في أوساط المسلمين، ولا مجال لطرحها في مجتمعهم، ولكنَّ إصرارَ البعض على الولاء الكامل لكُلِّ ما هو علماني وغير إسلامي، وانهزامَ البعض الآخر أمام العناوين الضخمة للقوانين البشرية، والهالات المصطنعة لمواثيق الدولية، وتَوَاطُؤُ هؤلاء وأولئك على ضرب الشريعة الاسلامية وتَهْمِيشِها أو دفنها للأبد، واستعدادهم جميعا للتضحية بها، وتقديمها قربانا للالتزامات الدولية أملا في نيل رضا الأسياد، والتمتع بخبائث فُتَاتِ الموائد، هذا الاصرار والعناد والتعصب للدخيل هو الذي دفعنا إلى كتابة هذه الكلمات، وطرح هذه التساؤلات، ونحن نعلم مسبقا أن المسلمين جميعا يعرفون الجواب عنها، ولا يختلفون في المبادئ المعلومة عندهم من الدين بالضرورة، وهي :

ü أنه لا يحق لأي مسلم أن يوقِّع على ما يمَسُّ بشريعته أو عقيدته مهما كانت الظروف والأسباب، وكيف ما كان موقعه.

ü أنه لا يجوز له الوفاء بهذه الالتزامات المنافية للشريعة الاسلامية.

ü أن هذه الالتزامات المخالفة للشريعة الاسلامية الْتِزَامَاتٌ باطلةٌ بقوة الشريعة غير قابلة للتنفيذ ولا يترتب عليها أثرها.

وهذا شيء مُجمَعٌ عليه معلومٌ من الدين بالضرورة، غني عن الاستدلال له، والاحتجاج عليه، ولكن لابأس بتذكير من لا يومن بهذا حتى تقوم عليه الحجة، ويهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة.

فقد عاقد الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المعاهدات مع الكفار تعطيهم بعض الحقوق المخالفة للشرع أو تقرهم عليها، وهم بعقد معاهدات أُخْرى مثلها، ولكن الله تعالى أبطلها ونهاه عن الوفاء بها وحذره من الوقوع في مثلها، والتنازل لاعداء الله عن حكم من أحكام الله مهما كانت الظروف والاغراءات أو التهديدات.

من ذلك على سبيل المثال :

ü أنه صالح كفار قريش بالحديبية على رَدِّ مَنْ جاءه مسلماً بدون إذن ولِيِّه، فأبطل الله ذلك في شأن النساء، ونهاه عن رَدِّهِنَّ إذا تأكد من صدق إسلامهن، ونزل في ذلك قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المومنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مومنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن..}(الممتحنة : 12).

ü وهم بمصالحة كُفار ثَقِيفٍ على شروط وامتيازاتٍ تَمَسُّ ببعض أحكام الشريعة إرضاءًا لَهُمْ وطمعًا في إسْلاَمِهِمْ بعدما عجزَتِ الحربُ عن إخضاعهم، وكتب وثيقة الصلح، ولم يبق إلا توقيعها، فنهاهُ الله عن إمْضَاء ذلك، والتنازل لهُم عن شريعة من شرائعه، أو حكم من أحكامه التي أوحاها الله إليه، ونزل قوله تعالى : {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غَيره، وإذاً لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}(الإسراء : -73 75) عتاب شديد وتهديد مخيف.

قال ابن عباس في تعليقه على هذه الآيات : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوما، ولكن هذا تعريفٌ للأمة ليَلاَّ يَرْكَن أحدٌ منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.

ü وتكرر نفس الشيء مع أشراف المشركين وقادتهموزعمائهم، طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم طرْد فقراء المسلمين من مجلسه وابْعَادَهُم عنه عند مجالسة الزعماء والقادة وهمَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالاستجابة لطلبهم رغبةً في إسلامهم وتأليفهم ودعا بعلي رضي الله عنه لكتابة العهد ولكن الله تعالى لم يَرْضَ عن هدا الاتفاق المنافي لروح الاسلام والقائم على ما فيه من المساس بشعور الفقراء فنهاه الله تعالى عن الوفاء بهذا الوعد بالرغم مما يمكن أن يترتب عليه من إسلام القادة والزعماء الذي من شأنه أن يُعَجِّل باسلام العامة، وانتهاء الصراع، أو توقُّفه بين المسلمين والمشركين، ونزل قوله تعالى في سورة الأنعام : {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليكم من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين..}(الأنعام : 53) كما نزل قوله تعالى في سورة الكهف : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا..}(الكهف : 28).

ü وحاول اليهود وأحبارهم تكرار التجربة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاولوا استدراجه للتنازل لهم عن حكم من أحكام الله الرحيم، ووعدوه الاسلام والايمان به واتباعه، فأنزل الله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}(المائدة : 51). فنهاه عن التنازل عن البعض، والبعض فقط، واعتبر ذلك فِتْنَةً في الدّين، وفي هذا يقول ابن كثير :> ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّمُ سواه في قليل ولا كثير)) تفسير ابن كثير .85/2

ü وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمنع المشركين من دخول مكة والحج إليها، وأرسل من ينادي في موسم الحج: لا يحُجَّنَّ بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فتخوف المسلمون من عواقب هذا الحكم، وتأثيره على علاقتهم الخارجية مع المشركين، وتخوَّفُوا بالخصوص من نتائجه السلبية على السياحة والتجارة وقالوا من أين نعيش؟ وقد مُنِعَ المشركون من دخول مكة والحرم فلم يعبأ الله بمخاوفهم، وأكد عليهم تطبيق الحكم والالتزام به، ووعدهم بفتح أبواب أخرى في وجوههم ونزل قوله تعالى : {ياأىها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتهم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم}(التوبة : 28). فأعطى الله تعالى الأولوية للجانب الديني على الجانب المادي المالي.

وهكذا، ومن خلال هذا الوقائع المتعددة والتجارب المتكررة انبثق مبدأ من المبادئ الاسلامية الثابتة التي لا تقبل المساومة، وهو الوَلاَءُ المُطْلَقُ للشريعة الاسلامية في المقام الأوَّل، ووجوب الالتزام بها، والتقيد بأحكامها، واعطاؤها الأسبقية في التطبيق والتعامل مع الاجنبي وعدم التفريط في بَنْدٍ من بنودها عند الاتفاقات الدولية والثنائية مهما كانت الظروف الاقتصادية والعسكرية.

وقد توالت آيات وأحاديث زادت هذا المبدأ ترسيخا وهيمنة على سلوك المسلم في حياته كلها، وهكذا جاء قوله تعالى : {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}(آل عمران : 84)، والإسلام عقيدة وشريعة وأخلاق، ومن رفض بعضه فقد رفضه كله وخرج من ساحته. يؤكد ذلك قوله تعالى : {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك}(هود : 17)، والكفر به شامل للكفر بقرآنيته، والكفر بما فيه من شريعته، كُلاّأو بعْضًا كما في قوله تعال : {ومِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}(الرعد : 37)، وقوله : {أفَتُومِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ}(البقرة : 84)، والآية خطاب لليهود الذين تركوا العمل ببعض كتابهم المنسوخ، فهل يمكن أن ينكر الله تعالى على اليهود تَرْكَ العمل بكتاب منسوخ ولا يُنْكِرُ ذلك على من يعَطِّلُ أَشْرَفَ الكُتُبِ المنزَّلَةِ من الله تعالى على خير نبي لِخَيْرِ أُمَّةٍ؟؟، بلى؟؟، ولعل هذا الهَوَانُ والذُُّّل الذي يعيش فيه مليار مسلم هو تصديقٌ لهذه الآية، {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا} وجاء في السنة قوله صلى الله عليه وسلم : >كُلُّ شَرْط لبس في كِتَاب الله فهُو بَاطِلٌ وإن كَان مِائَةَ شَرْطٍ)). كما قال : >المسلمون عند شُرُوطٍهِمْ إلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً)).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>