الخطاب حول المرأة بين المنافحة وأزمة المرجعيات المستعارة


-1 خطاب التغيير العلماني العربي بين المنافحة والتبعية :

يكشف الحديث عن قضية المرأة في العالم الاسلامي المعاصر عن صورة شديدة التعقيد والالتباس، تتقاطع فيها المفاهيم والمناهج والتصورات والرؤى والمرجعيات . وإذا كنا على يقين بكون الأسباب المؤدية إلى هذا الواقع غير خافية على أحد، فإننا، في نفس الآن، نعلم علم اليقين أن من أهمها امتلاك الغرب الامبريالي لأداتين خطيرتين، استطاع من خلالهما النفوذ إلى عمق الذات العربية والاسلامية، واقصد بأولهما الأداة الاعلامية المتطورة التي فرضت حصاراً ثقافيا على مجموعة من المنظومات الحضارية العالمية، إلى جانب حصار الغرب السياسي والاقتصادي وبغيه العسكري وحيفه الايديولوجي، الشيء الذي أدى الى تعزيز استراتيجيته في اختراق الهويات وفرض نموذجه ،في الفهم والسلوك والتفاعل،على مجموعة من الشعوب، كان من نتائجها المباشرة ابتعاد قطاع عريض من أبناء هذه الأمة عن أصولها، وقطع الأواصر المشكلة لنسيج هويتها. وأما الأداة الثانية فتتجلى، في اعتقادنا، في إحداث مؤسسات وهيئات ومنظمات بداخل البلدان الاسلامية، العربية منها خاصة، مع الحرص على توفير الطاقات البشرية الحاملة لمشروع التغريب والعلمنة، وقد تم التركيز في هذا المجال على الاطر الجامعية والشخصيات السياسية والحزبية والفعاليات الثقافية والاعلامية، لتمرير خطاب الغرب الاستعماري إلى منظومتنا الثقافية والتربوية. وبدل أن تراهن الأمة على هذه الفئة من المثقفين والأطر العليا في احداث التغيير المطلوب، خرجت هذه الأخيرة للوقوف في وجه الهوية والأصالة والخصوصية، مستمدة دعمها من ثلاثة مداخل أساسية، يتعلق أولها بدعم الحكومات المتعاقبة على الحكم في البلاد العربية، وخاصة تلك المشكلة من قبل الأحزاب اليسارية، بحيث اسهمت هذه الحكومات في تعبيد الطريق أمام خيارات التغيير وفق إملاءات المنظمات الدولية، بحسب ما تقتضيه الأبجديات الحزبية . كما وجدت هذه الهيئات المسماة “وطنية” دعمها، من جهة ثانية، في المؤسسات الدولية، خاصة تلك المالكة لادوات النفوذ السياسي والضغط الاقتصادي، بحيث يمكن الوقوف على مجموعة متعددة من ألوان الدعم، لعل في مقدمتها الدعم على مستوى التخطيط والتنظير، والدعم على مستوى التمويل،. وأما ثالث هذه المداخل، فنراه متمثلا في الدعم غير المباشر للشعوب العربية، والمقصود بذلك دعم السكوت، إذ غالبا ما يتم تمرير المشاريع وسن القوانين في غفلة من أبناء هذه الأمة، الذين شغلوا، عن آخرهم، بأزمات البطالة والحيف الاجتماعي وآفات الأمية.

-2 الخطاب حول المرأة في سياسة الليبرالية المعولمة :

في ظل هذه الوضعية استفادت المنظمات والهيئات المشكلة لنسيج خطاب ما يسمى بـ”المجتمع المدني” من كل الامكانيات للمطالبة باجراء مجموعة من التعديلات القانونية بخصوص مجموعة من الملفات الساخنة، لعل في مقدمتها ملف المرأة، خضوعاً لتوصيات وقرارات المنظمات النسوية العالمية، التي كرست جميع جهودها لضرب الاستقرار الاجتماعي للبلدان العربية،من خلال فتح هذا الملف من داخل مؤسسات حقوق الانسان، ولعل المطلع على وثيقة مؤتمر بكين، سيقف على الأهداف الحقيقية التي تتوخى المؤسسات الاجنبية تحقيقها بداخل هذه البلدان العربية التي،تحت مجموعة من الدوافع، تفتح أبوابها لاحتضان وتنظيم المؤتمرات المشبوهة التي تضرب في العمق آدمية الانسان العربي وكرامته، مما بين بوضوح أن الخطاب حول المرأة في بلداننا لا يعدو كونه جزء من السياسة العامة لمجموعة من الدول التي تسيطر على مجريات الاحداث في المنظمات الدولية، بحيث يسيطر القرار الغربي، ذو النزعة الليبرالية المعولمة،على كل تفاصيلالشأن العام الدولي، وفق الخريطة العامة التي تم رسم تقاسيمها للجغرافية السياسية والاقتصادية والبشرية العالمية؛ وهو في كل ذلك يسعى إلى جر الشعوب المغلوبة على أمرها إلى الانصهار في نسق السلوك الحضاري الذي أرادوه، وبداخل هذه الفعل استغلت قضية المرأة تحت شعارات متعددة لعل من أبرزها شيوعاً (دمج المرأة في التنمية).

إن الناظر في مسلسل التغيرات ومسار الاحداث العالمية الراهنة، سيسجل لا محالة عدة ملاحظات بخصوص القضية موضوع الحديث الساخن في الآونة الراهنة، فمنذ انشاء الأمم المتحدة ، دخلت المنظومات الدولية في مسار محدد من العلاقات التي يحكمها منطق القوة والغلبة، وقد استطاعت الدول ذات النفوذ بداخل هذه الهيئة الدولية تمرير خطابها،وتحقيق استراتيجيتها في زعزعة استقرار الشعوب، باستعمال مجموعة من القنوات والآليات كأن من أبرزها وسيلة (الدفاع عن حقوق الانسان) في العالم، وحماية الأقليات والاجناس والثقافات، بل وارغام باقي الدول على الخضوع للمواثيق الدولية في هذا الشأن مما كرّس من سياسة الاستعمار غير المباشر، ولعل قساوة هذه الغلبة والقوة تزداد حدة كلما استحضرنا حالة الارتهان الخطير الذي أصيبت به غالبية الدول المنتمية للجغرافية الإسلامية.وقد استطاعت المنظمات الغربية، المدعمةلاستراتيجية الاستعمار الجديد باسم العلمانية المعولمة، استغلال الوضع العام للانسان بداخل باقي المجتمعات، بما فيه الوضع المتردي للحالة الاجتماعية للمرأة، مما شجع على احداث هيئات ومنظمات بداخل البلدان العربية تتخذ من الدفاع عن المسألة النسائية قضيتها الأولى، ولعل خطورة المخططات العالمية التي تدافع عنها هذه المنظمات المحلية، تأتي من عالميتها، إذ من الصعب، في كثير من الأحيان، ايقاف تأثيراتها الخطيرة، فهي لا تعترف بالحدود، ولا بالقيم والعادات والديانات. وقد استطاعت النفوذ إلى كل الأقطار لما تملكه من وسائل التأثير المعروفة.

-3 قضية المرأة بين الرغبة الذاتية في التغيير والمقترحات الدولية :

إن الخطاب حول المرأة في العالم الاسلامي لايمكن قراءته إلا وفق الفهم العام لجدلية الغالب والمغلوب، جدليةيتراوح الخطاب فيها بين المنافحين عن مشروع العولمة والعلمانية، في الثقافة العربية المعاصرة ،وبين المدافعين عن هوية هذه الثقافة، وأصالة الانسان، وخصوصية انتمائه. وقد تبين من خلال المتابعة المستديمة والعميقة لسياسات الاختراق الحضاري أن هذا اللون من الخطاب يتم عبر قناتين خطيرتين : قناة تدمير الهويات والغاء الخصوصيات بترسيخ مجموعة من مفاهيم كونية الخطاب حول المرأة، كجزء من الخطاب حول قضايا الانسان، وقناة إلزام الدول بتنفيذ ما ثم التصديق عليه من مواثيق ومعاهدات بدون إبداء التحفظات، وهو ما نلحظه بشكل جلي في دعوات المنظمات النسائية المغربية. فبدل الالتزام بما في الأصول والدفاع عن هوية المغاربة والوقوف في وجه حملات الاختراق الاستعماري، تدافع هذه المنظمات عن المواثيق الدولية مما يجعلنا نشك في وطنيتها وانتسابها للهوية العربية الاسلامية.

-4 التجديد باسم الاسلام يقتضي مبدئيا الانقياد كليا لشريعته :

إننا ونحن نصدر عن هذه الرؤية الخاصة بعلاقة الذات بالغير، لا نقف موقف المناهض لاية خطة وطنية ترمي إلى اصلاح الفرد والنهوض بالمجتمع وتحقيق كرامة الانسان وآدميته، ولكننا نقف اليوم موقف الرفض للخطة الوطنية لادماج المرأة في التنمية لاعتبارات أربعة تترجم المداخل الحقيقة التي ينبغي أن نقرأ من خلالها هذه الخطة، ويتعلق الأمر بالمرجعية والمضمون والوسائل والغاية.

فالقارئ للخطة، مع العلم أن القراءة ينبغي أن تكون في النص الفرنسي، سيسجل عدة ملاحظات تخص هذه المداخل الأربعة، تبين في مجموعها أن مشروع هذه الخطة تسهر عليه المنظمات الغربية المحكومة بالايديولوجية الصهيونية، التي استطاعت بما تملكه من وسائل وامكانيات ونفوذ، تصدير مشاريعها التخريبية إلى الدول غير الغربية، وخاصة منها الاسلامية، لتفكيك بنائها الاجتماعي والحضاري كخطوة ضرورية لاستدامة تبعيتها للغرب الامبريالي ،مع العمل على تصدير نموذج الانحلال الأسري والانهيار الاجتمعي الذي وصله الغرب المعاصر، إلى بلداننا والتوسل، لتحقيق ذلك، بمجموعة من المنظمات والهيئات المحلية التي تتميز بصفتين متلازمتين ،أولهما :معاداتها الصريحة للمرجعية الاسلامية وحركاتها، وثانيهما تمثلها للفلسفة الميكيافيلية القاضية باتباع أي وسيلة لتحقيق الغاية المنشودة، وذلك مع نلمسه في التيارات المشكلة لنسيج المنظمات والهيئات التي صاغت هذه الخطة. فبالاضافة إلى معاداتها الصريحة للمرجعية الاسلامية وحركاتها ايديولوجيا ،نجدها لاتدافع اليوم ،عن حق المرأة بالانطلاق من خصوصياتها العقدية والوطنية ،ولكن عن ترسيخ وتمرير خطابات المنظمات الدولية، وبالتحديد مخططات مؤتمر بيكين.

والغريب في الأمر- ونحن نتحدث عن موضوع الوطنية في هذا الخطة- إنه إلى جانب اقصائها لمجموعة من القوى الحية والفاعلة والوطنية بالمغرب، بل والتي لها علاقة بالموضوع مباشرة، تصادم هذه الخطة المرجعية الأولى التي ينص عليها دستور هذا البلد : المرجعية الاسلامية، وذلك بالعمل على استبدالها بالمرجعية الغربية. كما أن أصحابها يرضخون رضوخ السيد للعبد. من خلال تبينهم لمقررات والمواثيق الدولية بدون قيد أو شرط، مقابل تمويلات مالية ستنتهي بانتهاء الغاية، وبذلك تتكرس بداخل المنظمات المدافعة عن الخطة، فلسفة “الغاية تبرر الوسيلة”، وهو ما نلحظه بشكل مؤسف حقا، حينما نرى كيف تغيرت الملامح السياسية والايديولوجية لمجموعة من الشخصيات المحسوبة سابقا على التيار الماركسي المغربي، الذي وقف إلىعهد قريب جداً في وجه اطروحات الزحف الامبريالي الأمريكي، لكنه غَيَّرَ ملامحه الايديولوجية كما تُغَيَّرُ الملابس، بانتهاء الايديولوجية الماركسية العالمية، وهو ما يبين بوضوح أزمة مرجعية هذا التيار البئيس الذي لم يتربّ بعد على المفهوم الحقيقي للالتزام الايديولوجي.

غير أن الذي نريد التأكيد عليه في نهاية هذا الحديث، هو خطابنا الملح إلى أصحاب هذه الخطة على ضرورة تحديد مرجعيتهموالإلتزام باختيارهم الايديولوجي من ودن الركوب على موجات من مثل نضالهم من داخل الاسلام، ودفاعهم عن المرأة والوطن من خلال فتح باب الاجتهاد؛ الشيء الذي يدفعناالى أن نقول، بكل ايجاز، أن الذي يريد أن يتحدث عن الاسلام، أو باسمه أو من داخله ..، عليه، أولا، أن يكون ملتزما بالاسلام التزاما شموليا، أما ونحن نعرف تمام المعرفة انتماءات أصحاب هذه الخطة وعداءهم المكشوف للاسلام، وضعف بضاعتهم بخصوص ما يتصل بالاسلام، فإن الذي ينبغي لهم أن يعرفوه جيداً هو أن المرجعية الاسلامية مقدمة على ما سواها من المرجعيات المحلية أو الدولية. ولهؤلاء نقول بكل اختصار أن الاسلام معناه الانقياد والاستسلام والاذعان لحكم الله وأوامراه ونواهيه، مصداقا لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم}(الحجرات : 1) وقوله كذلك : {وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}(الأحزاب:36).

وإذا ما تحقق عدم معرفة أصحاب هذه الخطة بالاسلام قدر معرفتهم بالعلمنة، وانتمائهم لايديولوجيات معادية أثبتها التاريخ والواقع المعيش على كافة الأصعدة، فإنني أقول لرافضي هذه الخطة بأن يردوا على هذا المشروع بما تقتضيه أدبيات الحوار العلمي الرصين، وأدبيات الدعوة الى الله، وأن نجادلهم بناء على مرجعية انتمائهم، قال تعالى وهو يقَعِّد، جل جلاله، للمسلمين، منهاج مجادلة أهل الكتاب ومن هم في ملتهم : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.(النحل:125)

وإذا كان من خاتمة جامعة أختم بها قولي في هذا المقام، فإنني اخترت لذلك بيتا للشاعر الذي أنشد يقول :

أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم

قد ضل من كانت العميان تهديه

 

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>