تعدد الزوجات : الحُكم والحِكمة


الضجة المقامة حول التعدُّد الآن هي ضجة مفتعلة، ليس المقصود منها الغيرة على مصلحة المرأة -كما يقولون ويزعمون- ولكن المستهدف الحقيقي هو ثوابت الأمة في عدة مجالات على رأسها الأسرة بجميع مقوماتها، لأن التعدد أصبح الآن نادراً، والنادر لا حكم له فلماذا هذه المندبة؟؟

حكم التعدد :

التعدد مباح في الشريعة الإسلامية، والمباح ما استوى طرفاه، أي يجوز فعله كما يجوز تركه على حد سواء، ودليل ذلك قول الله تعالى : {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (النساء : 3). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان بإمساك أربع من عشر وفراق الباقي، وقد انعقد الإجماع على جواز التعدد، وكونه مباحا، فالتعدد -إذن- مشروع بهذه الأدلة التي اتفقت كلمة المسلمين على أنها أصول الشرع وأدلة الأحكام، وهذا ما درج عليه المسلمون منذ عصر الرسالة إلى اليوم، فعدد الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة وعامتها، وخصوا موضوع التعدد بأبواب في كتب الفقه والحديث، وتحدثوا عن أحكامه ومسائله. ولذلك كان القول بعدم جوازه أو الأمر بمنعه وحذفه ردّاً صريحا لنص قرآني قطعي الثبوب بيّن الدلالة، واعتداء صريحا على الشريعة الإسلامية، وطعنا خفيا في عدم صلاحيتها لكل عصر، وملاءمتها لكل مصر، وتطاولا فاحشا على هذه الأمة، وإبطالا لهذه الأدلة المحكمة، نقضا لهذه الأصول المجمع عليها، ولاشك أن فعل ذلك، أو بعضه، ضلال مبين. ولعل قائلا يقول : إن للإمام أن يمنع المباح إذا رأى في ذلك مصلحة للأمة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أمر الزواج بالكتابيات، والجواب : أن أحدا من علماء الأمة لم يقل بهذه القاعدة، أي أن للحاكم أن يمنع المباح رعاية للمصحلة. بل الذي ثبت عن ابن الخطاب، وقاله العلماء : أن للإمام أن يُقَيِّدَ المباح لمصحلة راجحة، وفرق بين التقييد والمنع، فالتقييد أمر إجراء تقنيني، أما المنع فهو إبطال للنص، وتبديل للشرع بل هو اعتراض على الشرع، ثم إن من شرط المصلحة أن لا تكون معارضة لنص صريح، وأن تكون مبنية على قصد الشارع، وغير مخلة بأصل من الأصول الشرعية، وإلا عادت بالإبطال على النصوص وتضاربت معها، وذلك ما ليس له وجود في المصالح المعتبرة ولا في النصوص الشرعية فالتعارض إنما يقع بين المصالح الموهومة، أو النصوص المحتملة، وللأخذ بالمصالح ضوابط تنظر في مظانها من كتب أصول الفقه، ومع ذلك فإن الذي يحق له النظر في هذه الأمور هو المجتهد، الذي يملك آلات الاجتهاد، ويحصل أدواته، وتكون له في الفقه ملكة راسخة، وإلا كان الناظر في ذلك متطاولا على ما لا يجوز له، ومدعيا ما لا يحسنه، وما أوتي الناس إلا من هؤلاء وأمثالهم في كل العلوم والفنون.

شرط التعدد :

لقد اشترط القرآن الكريم لجواز التعدد شرطا عظيما عليه تقوم الحياة الإنسانية الرشيدة، وبه قامت السماوات والأرض، وبتحقيقه تستقر الأسرة، ويصلح حالها في العاجل والآجل، وبالإخلال به تفسد الأسرة، ويختل نظامها وتضطرب أحوالها، إن هذا الشرط هو العدل بين الزوجات ومثله العدل في سائر الحالات، يقول العلامة ابن عاشور : وقد حددت الشريعة الإسلامية ما كان مطلقا، لأن العدل لا يستطيعه كل أحد، وفي كل الحالات، واشترطت العدل، لأن التعدد إذا لم يقم على قاعدة العدل بين الزوجات اختل نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عن ذلك عقوق الزوجات لأزواجهن، وعقوق الابناء لأبنائهم، واضطرب أمر نظام الأسرة، فيضطرب باضطرابه نظام المجتمع..

المراد بالعدل في هذا المقام :

المراد بالعدل الواجب تحقيقه هنا : هو ما يقدر عليه الزوج ويدخل تحت طاقته، ويكون في دائرة الممكن، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالعدل المادي، وله صور ذكرها الفقهاء ونبَّهوا عليها، وجعلوا العدل فيها بين الزوجان واجبا، منها :

-1 المبيت : فلا يجوز أن يبيت عند إحداهن ليلة، وعند الأخرى ليلتين مثلا.. أما الجماع، فمتى حصل الاعفاف سقط الوجوب.

-2 النفقة : فالواجب أن يستوين في مقدار النفقة، فيكون لاحداهن مقدار ما يكون للأخرى، من المؤن، بلا حيف ولا جور.

-3 الكسوة : وهي مثل النفقة سواء، بل هي وجه من أوجه النفقة.

-4 السكنى : كذلك لا يجوز أن يسكن إحداهن في قصر فخم والأخرى في بيت من بيوت الصفيح.

-5 البشاشة وحسن العشرة : فلا يكون مع إحداهن طلق الوجه، ضاحك المحيا، ومع الأخرى عبوسا قمطريرا وشرا مستطيرا.

أما الميل القلبي فليحاول المرأ جهده، أن يحقق فيه العدل أيضا وهو على كل حال غير قادر على تحقيقه، لأنه أمر باطني لا يملكه، ومن منا يتحكم في عواطفه، ونوازعه، وذلك هو المراد بقوله تعالى : {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} (النساء : 129) ولا معنى لما يتقوله البعض، زاعما أن القرآن اشترط العدل، ثم ذكر عدم القدرة علىه، ليخلص في النهاية إلى إبطال التعدد بالقرآن، وضرب النصوص بعضها ببعض شأن أهل الزيغ والأهواء، لأن العدل في الآية الأولى مادي وهو مقدور عليه في الجملة، وهو في الثانية باطن، وهو غير مقدور عليه في الجملة، ثم إن الآية الأخيرة، تنهى عن كل الميل : أي الانسياق مع العواطف، والحرب مع النوازع، مما يؤدي إلى ضياع العدل في جانبه المادي، ويبدو أن هؤلاء أفقه في القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة الأعلام أستغفر الله وأتوب إليه، روى الأربعة وصححه ابن حبان عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)).

الحكمة من التعدد :

لم يشرع الله للناس شيئا إلا وفيه من الحكم البالغة والمصالح العظيمة الشيء الكثير.

وقد شرع الإسلام تعديد النساء لحكم نشير إلى جملة منها، مع العلم أنها ليست هي كل الحكم، وقبل ذلك نقول لا يخلو أي مجتمع من حيث العدد الإجمالي للسكان من أحد أمور ثلاثة :

-1 أن يتساوى رجاله ونساؤه في العدد، فيكون لكل رجل امرأة ولكل امرأة رجل، فلا مكان للتعدد في هذه الحال.

-2 أن يكون النساء أقل عددا من الرجال، فالتعدد كذلك غير ممكن وعلى الذين لا يجدون نكاحا أن يصبروا ويستعفوا، امتثالا لأمر الله تعالى : {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} (النور : 33) ولا حاجة بنا إلى التعليق على قول من يقول : بجواز تعدد الأزواج، قياسا على تعدد الزوجات، لبيان بطلانه ظهور فساده، لما يؤدي إليه من اختلاط الأنساب، وضياع الأحساب، ونشر الرذيلة بين العباد، وهو على كل حال مذهب قديم سبقت الاشارة إليه في سياق حديث نكاح الجاهلية، قال الله تعالى : {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل، هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر : 29).

-3 أن يكون النساء أكثر عددا من الرجال، وهذا هو الواقع البشري، وهو أمر سيكثر كثرة فاحشة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك : ((إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)). فإذا ما قل الرجال، وكثر النساء، كما هو واقع الحياة الانسانية، فإن ذلك يضعنا أمام معضلة اجتماعية خلقية، تتعلق بالمرأة أساسا، وبحق من حقوقها الفطرية الغريزية، وحل هذه المعضلة لا يعدو أحد  أوجه ثلاثة :

أ- أن تحكم على العدد الزائد من النساء بالعنوسة الدائمة فنكون قدحرمناهن من حق من حقوقهن الأساسية، وأدخلناهن في رهبانية من رغبة، يرفضها الدين والعقل والغريزة.

ب- أن نفتح لهن باب الزنا على مصراعيه، ونبيح تعدد الخليلات وتنوع العاشقات، فنكون بذلك قد أشعنا الفاحشة في المجتمع، وذلك منكر فظيع في نظر الاسلام، ونكون -أيضا- قد أهنا الأنثى، وقضينا على كرامتها، وجعلناها تلهث وراء فلان اليوم وعلان غدا، فإذا ما أكلت الذئاب البشرية شبيبتها، وذبل جمالها ألقينا بها في قارعة الطريق متسولة أو حولناها إلى وسيطة “قوادة” تفسد البقية الباقية من فتياتنا وفتياننا وكفى بذلك ضياعا للمرأة والمجتمع معا.

ج- أن نقبل بحكم الله وشرعه فتتزوج هذه المرأة رجلا بعقد شرعي، سماه القرآن ميثاقا غليظا، وتكون لها حقوقها كاملة، وعليها واجباتها تامة، إلى جنب أخت لها في العقيدة والإنسانية والأنوثة، يتقاسمان الآلام، ويشتركان في المسرات والآمال، في ظل قانون ضابط، ونظام محكم، وقبل ذلك وبعده إيمان عاصم من الظلم والعدوان، لأن المسلم والمسلمة يقرآن في كتاب الله في موضوع العلاقة بينهما {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (البقرة : 229) ذلك مقصد عام التعدد، وحكمة شاملة وإلى جانب ذلك نذكر حكما فرعية منها :

-1 تكثير الأمة، وجعلها أمة مرهوبة الجانب، قوية الشكيمة قال تعالى : {فالان باشروهن، وابتغوا ما كتب الله لكم} (البقرة : 187) أي من الولد على رأي، وفي الحديث المخرج في بعض كتب السنن : ((تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة))، ولقد بدأ الناس اليوم يشعرون بمشكل انخفاض الولادات، وبدأت الشيخوخة تضرب في كيان شعوب تقود العالم المادي اليوم، وشرعت هذه الشعوب في حملة تشجيع الولادات، ورصد المكافآت لمن يستجيب لذلك، وأمتنا والحمد لله أمة شابة فتية وفيها من الطاقات ما يجب استغلاله، والعمل على تكثيره والتعدد باب من أبواب ذلك.

-2 كفالة النساء، فالمرأة أكثر استفادة من الرجل في هذا الباب في الجملة، وليس من الدين، ولا من المروءة، والعقل في شيء، أن تحرم امرأة من حقوقها، اعتمادا على خوف ضرر متوقع، وعلى فرض تحققه، فإن ما يترتب على عدم زواج المرأة الثانية من مفاسد، أعظم مما يترتب على كونها زوجة ثانية وإذا تعارضت مفسدتان، ارتكبت أخفهما، مع العلم أن الضرر إنما يقع إذا لم يلتزم الأطراف بالشرع في أصله وفرعه، وذلك أمر عام لا يقتصر على موضوع التعدد.

-3 لقد حرم الإسلام الزنا، وقطع كل سبيل يؤدي إليه، ولم يترخص في حالة من حالاته، وقرنه بقتل النفس في مواضع من القرآن والحديث، وتقرر في الفقه الإسلامي بأن الزنا كالقتل لا يجوز فعله تحت الإكراه أبدا، وقد علم الله تعالى وهو الذي خلق الخلق ويعلم ما يبدون وما يعلنون أن من الرجال رجالا يقوى شيقهم، وتشتد غلمتهم، فتكثر حاجتهم إلى النساء، كما علم سبحانه أن كثيرا من النساء لا يستطعن طبعا أو  وضعا مجاراة الرجال فيما هم بحاجة إليه، وأن المرأة قد تعاف الرجل كلية في حالة الوحم، وأنها تحيض كذا وكذا من يوم، وقد يستمر بها النفاس أياما وأياما، فكان من الحكمة العظيمة واللطف الرباني بالمرأة والرجل أن شرع التعدد ليكون متنفسا في مثل هذه الأوضاع، وأباحه لتستقر الحياة الأسرية.

-4 تقليص الطلاق، ومحاصرته، الإسلام ينظر إلى الطلاق على أنه استثناء، ولذلك حرص حرصا عظيما على استمرار الحياة الزوجية، ووضع لذلك تدابير كثيرة، خلقية وقانونية، واجتماعية تبحث في كتب الفقه والآداب، وإن من أسباب الطلاق الخفية، ما يمكن أن نسميه بالخصومة الفراشية، فكثيرا ما يطلب الرجل امرأته إلى الفراش فلا تستجيب لسبب أو لآخر، وقد يكون بعض تلك الأسباب معقولا، وبعضها غير ذلك فتثور ثائرة الرجل، ويقف في موقف حرج، قد يؤدي إلى الفراق إن لم يكن هناك منفذ آخر لتصريف الشهوة، وقضاء الوطر، وقد تكون الزوجة عاقرا، وللرجل رغبة في الولد، ولا يستطيع فراق زوجته، ولا هي ترغب في ذلك.. وقد تكون الزوجة مريضة لا تقدر على القيام بمسؤولياتها، ولا يرغب زوجها في تركها تضيع في مجتمع لا يرعى ذمما.. وقد وقد.. فكان في التعدد حفاظ على الحياة الزوجية المستقرة، وإنقاذ امرأة ثانية أو ثالثة أو رابعة، مما اشرنا إليه من قبل.

وبعد -أيها القارئ الكريم- فإن التعدد ليس واجبا، وأن المرأة المسلمة لها كامل الحق أن تختار أن تكون زوجة ثانية أو لا تكون، وأن للأولى الحق في رفع الضرر إن أحست بضرر يلحق بسبب التعدد، وأن دين الله يسر، وأن الضرر يزال، وأن الله أعلم بمصالح العباد من أنفسهم {والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم} (البقرة : 220).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ذ. محمد العمراوي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>