حوار مع الدكتور محمد جميل


المحجة : كيف تنظرون إلى موقع التعليم الأصيل حسب ما جاء في مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟

ذ. جميل : من المؤسف للغاية أن نقول إن التعليم الأصيل ليس له موقع يناسب  تاريخه المشرف في نظام التربية، كما قدمه مشروع الميثاق الوطني للتربية الذي أساء إليه إساءة بالغة، كنا ننتظر أن يرد له الاعتبار. أما موقع التعليم الأصيل  تاريخيا  وقيمة وثمارا فهو وبلا شك موقع متميز ويكفي أنه كان وحده في الميدان ولم يزحزح عن مكانته إلا بعد هجمة الاستعمار للمغرب، كما هو الشأن في معظم الدول العربية والإسلامية. وكان يمثل الوحدة الثقافية لجميع العناصر المكونة للمجتمع إلى أن غزتنا هذه الازدواجية البغيضة التي أساءت إلى نظامنا التعليمي برمته. المفروض أن يكون تعليمنا واحدا ثم يتفرع إلى تخصصات، وإذ حصلت هذه الازدواجية وأصبحت واقعا، فإن التعليم الأصيل يجب أن يكون له اليوم موقع يتسم بالخصائص الآتية :

-1 علو المستوى بالنسبة للمتعلم وبالنسبة للأساتذة.

-2 دقة البرامج وسلامة المناهج وتعدد الفروع.

-3 وفرة الروافد التي تغذيه، حتى لا يلتقط التلاميذ والطلبة هنا وهناك دون مراعاة أي مستوى، كما هو حاصل في كثير من الحالات.

المحجة : أستاذ، لاشك أن للتعليم الأصيل دور هام في استواء الشخصية المسلمة، وأن الإعراض عنه أو تهميشه سيؤدي إلى إحداث خلل في هذه الشخصية وفي المجتمع برمته؟.

ذ. جميل : هذا الخلل الواقع اليوم في الشخصية المسلمة مرده إلى أسباب تتلخص في الإعراض عن الإسلام علما وعملا وسلوكا ودعوة. ومن العناصر المكونة لهذه الشخصية عنصر العلم والمعرفة، وأحسن ما يحقق هذا العنصر العناية بتعليم المعارف المتقيدة بالوحي، ولا يحقق هذه الغاية إلا التعليم الأصيل الذي همش اليوم وما يزال يتعرض لمزيد من التهميش في منظومتنا التعليمية، أو المواد الشرعية التي يجب أن تشكل جذعا مشتركا بين جميع التخصصات في التعليم العصري. ولكن هذه المواد ليست بصورة توفر للتلاميذ والطلبة الرصيد العلمي والمعرفي للشريعة، وهذا هو السبب الأكبر في تردي المستويات الأخلاقية والعلمية لدى أجيالنا، وهو السبب في ازدواجية شخصيتهم، وفي انقسام المجتمع على نفسه، والمجتمع المنقسم لا يعرف للنهوض سبيلا، إن تغييب المواد الشرعية والثقافة الإسلامية أو تقليصها يفضي إلى أن يتحول النظام التعليمي إلى أداة ضعيفة هزيلة تلهث وراء الشغل بمفهومه الاقتصادي ويحلم بالتقنية ويجنح نحو العولمة وينسى تربية الإنسان وربطه بربه فَيَصْلُحُ ويُصْلِح.

المحجة : أستاذ، تعرفون بأن التعليم الأصيل قام بأدوار هامة في الماضي وما يزال، بالرغم من التهميش الذي يتعرض له باستمرار، فكيف السبيل إلى رد الاعتبار له والنهوض به؟

ذ. جميل : إعادة الاعتبار إلى التعليم الأصيل يحتاج إلى جهود كثيرة، يحتاج إلى نضال متعدد الواجهات :

-1 الواجهة الأولى هي الواجهة التقنينية التنظيمية، فالتعليم الأصيل يحتاج إلى نصوص تنظمه من أولى مراحله إلى آخرها. وهنا لابد من إعادة النظر في الحديث الخاص عن التعليم الأصيل في مشروع الميثاق، الذي خصص مادة واحدة من مواد المشروع الـ177 للتعليم الأصيل.

وصيغت هذه المادة 88 بعبارات مقتضبة غامضة جعلت الحديث عن التعليم الأصيل نشازا في ركام طويل للحديث عن التعليم بصفة عامة.

-2 الواجهة الثانية هي الواجهة الدراسية التحليلية، أي واجهة استعراض المشاكل التي يتخبط فيها التعليم الأصيل عن طريق اللقاءات والندوات والأيام الدراسية والمقالات المنشورة والكتابات التربوية الهادفة، لأن مثل هذه الدراسات هي التي تكشف عيوب المناهج التربوية المطبقة في التعليم الأصيل حتى اليوم، وهي الكفيلة باعادة النظر في هذه المناهج على ضوء تقويم الحصيلة العامة، لهذه المرحلة الماضية، وبناء على هذا التقويم يتم إعادة الاعتبار إلى التعليم الأصيل.

-3 الواجهة الثالثة هي الواجهة السياسية التي هي واجهة التعريف بأزمة التعليم الأصيل لدى الشخصيات الفاعلة في المجتمع التي ربما لا تحيط علما بالأخطار التي تلف بالتعليم الأصيل، بل ربما لا تحيط علما بالتعليم الأصيل نفسه. فأغلب البرلمانيين والمستشارين وأعضاء الحكومة لا يعرفون قيمة التعليم الأصيل ولا أهمية المواد الشرعية في حماية أطفالهم من غول الانحراف الذي يلتهمهم في كل حين، كما لا يعرفون المشاكل التي يتخبط فيها التعليم الأصيل.

-4 الواجهة الرابعة هي الواجهة الشعبية، فلابد أن يفسر للناس مدى أهمية التعليم الأصيل في حماية أبنائهم وبناتهم وأنه هو الكفيل بربط الأجيال بدينهم والكفيل بتعريفهم بالقيم الدينية والخلقية والوطنية التي نرددها اليوم دون أن يكون لها معنى حقيقي يذكر.

-5 الواجهة الخامسة هي الواجهة الوظيفية، وأعني بها أنه لابد أن تفتح مجالات وظيفية متعددة لخريجي التعليم الأصيل تأهلهم دراستهم وتخصصهم لدخولها، كالقضاء، والمحاماة والتوثيق.. والنتائج التي حققها رجال التعليم الأصيل على هذه المستويات تؤكد قدرتهم على المسايرة والعطاء في تفان وحب لمهنتهم، ونتائجهم المرضية منذ الاستقلال إلى اليوم تؤكد هذه الحقيقة، وإن كانت النتائج تراجعت بتراجع التعليم الأصيل في نظرة المجتمع اليوم.

-6 الواجهة السادسة هي الواجهة التكوينية بحيث ينتقى التلاميذ الذين يلتحقون بالتعليم الأصيل انتقاء مبنيا على معايير علمية خاصة، وينتقى المدرسون الذين يدرسون في شعب التعليم الأصيل انتقاء مبنيا على معايير علمية وتربوية خاصة كذلك.

لكن هذه الملاحظات تتوقف كلها على أمرين اثنين :

- الأمر الأول :

هو أن ينطلق الجميع من حسن نية ومن الإيمان بمدى أهمية هذا التعليم في حياة الأمة، أما أن نردد الشعارات بأن التعليم الأصيل هو الذي أعطى وهو الذي فعل وهو الذي فعل.. لكن الجانب العملي يكذب ذلك، وكذلك الجانب التربوي والجانب الوظيفي والجانب التقني والجانب السياسي.. كل هذه الجوانب إذا اتجهت اتجاها فلا تنفع هذه الشعارات التي نسمعها هنا وهناك بأن القرويين هي الجامعة العالمية الأولى.. مادمنا لم نعد للقرويين وللتعليم الأصيل الاعتبار الحقيقي. فالصعيد العملي هو الذي يؤكد حسن النية أو سوءها.

- الأمر الثاني :

هو الانطلاق في تنفيذ مشاريع إصلاحية في مجال التعليم الأصيل، وإذا نظرنا اليوم إلى الميثاق نظرة فاحصة، فسيتجلى مع أسف بالغ أن قيمة التعليم الأصيل تدهورت بشكل فضيع لا يمكن أن يقبل ولا يمكن أن تكون نتائجه إلا مرة يحس مرارتها المجتمع والتلاميذ والمؤسسات.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>