مسؤولية الكلمة : ((“”ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))


إن المتدبر لآيات القرآن الكريم، يجده قد أعطى العناية الكاملة للكلمة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو خاتم الأنبياء والرسل إلى البشر- اهتم بها وأعطى لها نفس العناية والأهمية. فالقرآن الكريم مثل الكلمة بمثالين في غاية الأهمية، قال تعالى : ((ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين))(ابراهيم : -26 29).

وفي صحيح البخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((… ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) وسواء كانت الكلمة مكتوبة أو منطوقة فهما في المسؤولية سواء، بل قد تكون الكلمة المكتوبة أخطر لسعة انتشارها وتداولها بين الناس، فالأقوال والكلمات التي تجري على لسان الإنسان تشكل جانباً مهماً تناط به المسؤولية أمام الله تعالى وبين الناس، لذا وجب على الإنسان المسلم -ذكراً كان أو أنثى- أن يكف لسانه عن الهذر والطيش في كلامه، لأن ذلك يؤثر بشكل كبير في علاقته مع الناس، فمن أجل ذلك اهتم القرآن الكريم بهذا الجانب، فحذرنا من السقوط فيما يعتبر انحرافاً عن السلوك القويم، كالقول بالغيبة والنميمة والكذب والغمز واللمز في أعراض الناس. قال تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب))(الحجرات : 11). وقال تعالى : ((ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن ياكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله))(الحجرات : 12).

والرسول صلى الله عليه وسلم أشار في عدة مناسبات إلى خطر الكلمة التي يتلفظ بها الإنسان، حتى عجب منه بعض الصحابة، وسأل عن أثر ذلك. ففي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، حينما أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم في نهاية حديثه : ((… ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) فقلت : بلى يا رسول الله. قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ثم قال له : ((كف عليك هذا)) قلت : يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : ((ثكلتك أمّك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟))(رواه الترمذي).

ومن هنا فإن الإنسان محاسب على كل ما يلتفظ به، وكل ذلك محسوب له أو عليه، قال تعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد))(ق : 18). وفي الحديث : ((رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم))(رواه البيهقي).

فالكلمة أمانة ومسؤولية، لا عبث فيها ولا لهو ولا استخفاف بها، فهي تفصح عن مكنون المرء، وتبين شخصيته ومراده. والكلمة الطيبة كما وصفها القرآن، تصدر من أفواه المتقين، وتنشرها أقلام صادقة مؤمنة نزيهة، بأيد نظيفة متوضئة، متواضعة مخلصة، وقلوب سليمة لا تحمل حقداً ولا ظغينة لأحد، والكلمة الخبيثة تلوكها ألسنة

التتمة ص 7>>>>

المتنطعين المعاندين، وسرعان ما ينكشف أمرها، ويتوارى أصحابها. فأصحاب النفوس العالية (أولو الألباب) هم أصحاب الكلمة الطيبة، وأما أصحاب النفوس الوضيعة (المبطلون) هم أصحاب الشهوات وأصحاب الكلمة الخبيثة، خاصة إذا كانت هذه الكلمة تمس عقيدة الأمة وتشكك فيها، وتنال من تعاليم الشريعة، وتحول الأفراد والجماعات عن الاستمساك بدين ربها وسنة نبيها، وتسعى هذه الكلمة الخبيثة إلى تفريق الجماعة وبث الفتنة فيها قال تعالى : ((والفتنة أشد من القتل))(البقرة : 190).

فالكلمة تعتبر حرباً باردة استعملها أعداء الإسلام لمحاربته والتشنيع به، فرب كلمة عابرة تقال عبر وسائل الإعلام المرئية، أو تنشر في صحيفة مثلا لا يحسب قائلها حساباً لما وراءها، تترك في نفسية الفرد والجماعة آثاراً سلبية قاتلة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))(رواه البخاري).

يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم، أن نتحدث بما يجري على ألسنة الناس فيقول : ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))(رواه مسلم). وعلى العاقل ألا يخوض فيما لا يخصه ولا يهمه. ففي الحديث : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))(أخرجه الترمذي وابن ماجه).

قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ((ليس كل ما يعلم مما هو حق، يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم : منه ما هومطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص))الموافقات ج .189/4

الاسلام علم المسلم ألا يطلق للسانه العنان في أعراض الناس، وأشخاصهم، وألا يتجرأ بالخوض في الشريعة بغير علم ولا هدى، وألا يقول إلا حقاً، ولا يتكلم إلا صدقاً ولا ينشر خبراً إلا إذا تأكد من صحته وصدقه، قال تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً))(الإسراء : 36). وقال تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين))(الحجرات : 6).

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن سلامة لسان الإنسان تحقق له وصف الإسلام، ففيما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال : ((من سلم المسلمون من لسانه ويده))(متفق عليه).

قال سيد قطب رحمه الله : ((إن الكلمة الطيبة -كلمة حق- كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة؛ ثابتة لا تزعزها الأعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى عليها معاول الطغيان، وإن خُيّل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان، سامقة متعالية تطل على الشر والطغيان من عل، وإن خُيل إلى البعض أحياناً أن الشر يرجمها في الفضاء، مثمرة لا ينقطع ثمرها لأن بذورها تنبث في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن. وإن الكلمة الخبيثة -كلمة الباطل- كالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى، وتتشابك ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة وتظل جذورها في التربة قريبة لكأنها على وجه الأرض لا قرار لها ولا بقاء)) في ظلال القرآن م4 ص .2098

مسؤولية الكلمة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>