معنى الحياة في القرآن : (1)


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله (ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علما، الله افتح لنا أبواب الرحمة وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة.

1- هذه نظرة في مفهوم الحياة في القرآن :

أيها الإخوة الكرام، هذه الكلمة هي ليست دراسة بالمعنى الصحيح للكلمة، لمفهوم الحياة في القرآن الكريم، وما كان للمقام أن يتحمل الدراسة الأكاديمية لهذه الكلمة ولهذا المفهوم وإنما هي نظرة في مفهوم الحياة للقرآن الكريم.

2- البلاء الذي أصبنا به هو بسبب الضعف الداخلي :

نحن أيها الإخوة حضاريا نعيش مرحلة في غاية الخطورة والصعوبة، نعيش مرحلة أشار إليها رسول الله(ص) في الحديث المشهور “يوشك أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها” حديث القصعة وحديث الغثاء على طوله، يحدد في الحقيقة ملامح الواقع، يحدد الداء ويصف الدواء، يحدد الداء في الوهن ويصف الدواء في عكسه، يحدد الداء في حب الدنيا وكراهية الموت، ويحدد الدواء في خلاف ذلك.

من أين أويتنا فوصلنا إلى  ما وصلنا؟ هناك عامل داخلي وهناك عامل خارجي، الاهتمام كثير بالعامل الخارجي، وليس هناك اهتمام بالعامل الداخلي. إذ لم نستعمر إلا وفينا قابلية للاستعمار، وإلى ذلك تشير الآية في عموم هذا الموضوع وفي غيره {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلت أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}(سورة آل عمران)

إن تسليط غير المسلمين على المسلمين إنما هو من البلاء الذي يعاقب به المسلمون على خلل فيهم.

القرآن الكريم به أخرجت الأمة إلى الناس وبه صارت خير أمة أخرجت للناس، وبه كانت، وحضرت في التاريخ، وفعلت ما فعلت من خيرات. فهل هو الآن في المكان اللائق به؟.

3- الضعف الداخلي سببه فساد التصور لمفاهيم ألفاظ كتاب الله عز وجل :

ما الذي حدث فلم تبق الأمة في موقعها من الشهادة على الناس، وتدحرجت من موقع الشاهد إلى موقع المشهود عليه؟ ما الذي حدث؟ إن خللا ما وقع في الصلة بينها وبين القرآن، وإن خلاصة ذلك، هي أن كتاب الله عز وجل لألفاظه مفاهيم، ولمجموع تلك المفاهيم نسق عام يمثل صورة الإسلام بكاملها ولا يمكن أن يتم التمكن من ذلك إلا بدراسة هاته المكونات لذلك النسق  العام، ولتلك الصورة الكاملة.

لا يمكن الفهم إلا بهذا الفهم، فهم لأجزاء ثم فهم الكل تبعا لفهم الأجزاء، ولا سبيل إلى  صنع واقع قبل صنع تصور صحيح لما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع، إن فسادا في التصور السليم لمفاهيم ألفاظ كتاب الله عز وجل قد ساد، والحاجة ماسة الآن إلى تجديد فهم هذه الألفاظ، ماذا يريد بها الله عز وجل منا : أفرادا، ومؤسسات، وأمة؟

4- التصوران المختلفان لمعنى الحياة :

من ذلك لفظ الحياة في كتاب الله عز وجل هذا اللفظ له تصوران مختلفان في القرآن :

أ ـ التصور الكفري للحياة :

تصور يقصر الحياة على الدنيا فقط لا ينظر إلى ما قبل ذلك ولا ينظر إلى ما بعد ذلك، ولا ينظر إلى ما مع ذلك. إذ مع الحياة التي ترى وتشاهد كائنات وحياة أخرى لا ترى ولاشاهد. هناك التصور الذي تشير إليه الأية الكريمة محددة له « وَقَالُوا مَا هِيَ  (بالحصر)إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ»-سورة الجاثية-، فهنا حصر لمفهوم الحياة في هذه الدنيا فقط دون أن يلحظ وأن يعتبر ما سبق، وما سيلحق، وما هو كائن الأن. ويقول الله تعالى : «قاغرض من ولی ممن ذكرنا ولم يرة ” إلا الحياة الدنيا ذلك مبلهم من العلم»-سورة النجم-، أقصي درجات العلم لديهم لا تجاوز هذا السطح من الحياة الدنيا ، لا تجاوز هذا المحسوس المشاهد، فكل ما ليس بمحسوس هو غير قابل لأن يعلم.

تأصيلا لهذه النظرة التي يمكن أن تسميها نظرة كفرية، لأنها نظرة الكفار للحياة الدنيا ، فجميع ما يترتب عليها هو فهم الكفار لهذه الحياة التي تثمر وتنتج أنشطة وأعمالا تنسجم مع التصور الكفري للحياة. وهذا ليس هو العلم، ولذلك نفى الله عز وجل العلم عنهم فقال :

ولكن اكثر الناس لا يعلمون » وأثبت لهم العلم الظاهري بالحياة «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم في الآخرة هم اللون »-سورة الروم-، هذا يشبه الأية الأخرى «ذلك مبلهم من العلم»..

وهذا التصور الكفري أنتج أمور وتصرفات كثيرة بناء على العلاقة التلازمية بين التصور والسلوك وذلك مثل :

- حب الحياة الدنيا ، والافتتان بزينتها .

- الإطمئنان والرضا بالحياة الدنيا ، والحرص عليها مهما كان الثمن.

كثير من المظاهر وصور السلوك نسبها الله عز وجل إلى الكفار ونفاها عن المسلمين وهذه الأمور وقعت بسبب هذا التصور للحياة، أي حين ينطلق الإنسان من أنه لا يملك إلا هذه الحياة الدنيا ، وحين يتصور الإنسان أنه لا يملك إلا فترة عمره فقط ، فلا شك أنه سيكون حريصا جدا على الاستفادة من هذه الحياة ، كحال اليهود الذين قال فيهم الله تعالی : «ولجدثهم أخرص الناس على حياة» – سورة البقرة -، أي حياة؟ كيفما كانت، حين ينطلق الإنسان من هذا التصور فعلا يؤثره على سواه لأنه يوثر شيئا بين يديه على شيء لا يومن به فلذلك يقدم العاجلة لكونها عاجلة على الآجلة التي قد تكون وقد لا تكون حسب تصزره الكفري.

ب – التصور الإيماني للحياة:

وهو تصور آخر للحياة، هو أننا حياة ممدودة، ممتدة، لا نهاية لها في الزمان البعدي، ولا نهاية لها في الامتداد الآني، الآن لا نهاية لها. الحياة الآن ليست فقط لهذا الذي يُرى، ولكن هناك كائنات حية مؤثرة في هذه الحياة، هي الموكول إليها ضبط أمر هذه الحياة نفسها تأمل قول الله عز وجل {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} بعدها مباشرة {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}(سورة ق) وتأمل قول رسول الله(ص) : “أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موطئ قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع” أو كما قال(ص) . إن كائنات كثيرة تحيط بنا وهي التي وكل إليها حفظنا وحفظ ما يتعلق بهذا الكون مما لا نطيق نحن حفظه، قال الله تعالى {وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما…} (سورة البقرة) هذا الحفظ الله سبحانه عز وجل خلق جنودا له في السماوات والأرض لحفظ السماوات والأرض وما بينهما.

هذا الايمان بوجود كائنات حية بجانبنا لا تُرى هو من صميم ما يدخل في مفهوم الحياة في هذه الدنيا لان الانسان عندما يتصور أنه وحده في الكون يكون له سلوك، وعندما يتصور أن معه أحياء لهم دور يكون له سلوك آخر.

والآن ما ذا بعد الموت؟؟ هل حقا ينتهي الانسان حتى قبل البعث؟؟، هل يوجد موت بمعنى الفناء التام؟؟.

5- حقيقة الموت في التصور القرآني:

الموت في الحقيقة هو مجرد انفصال بين عنصرين اثنين مؤسسين للانسان وهما كما قال الله تعالى : {إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(سورة ص) فآدم في الأصل مسوى من عنصر أرضي خالص هو الطين، وفيه عنصر غير أرضي هو من أمر الله {ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي..}(سورة الإسراء)  الإنسان هو ذرية آدم، بعد آدم يحكمه نفس المنطق، يمكث الإنسان في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، هذه الازدواجية في الخلق تجعلنا نفهم أن حال الموت لا يؤدي إلى إنهاء الطرفين، وإنما يؤدي إلى الفصل بينهما، فيرجع ما أصله التراب إلى التراب، وتصعد الروح إلى بارئها، وهو ما يسمى بالحياة البرزخية وقد نص على الحياة في هذه المرحلة بالنسبة إلى نوعية معينة نهانا القرآن عن أن نسميهم أمواتا {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا، بل أحياء}(سورة البقرة). هذا النص يدل على أن المجاهدين أحياء، ولكن حياة السعداء في المنهج القرآني هي الحياة. أما البعث بعد الحياة البرزخية فيعتبر الخلق الثاني قال تعالى {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده}(سورة الروم) هذه الإعادة هي على نفس الأصل الأول يعود العنصر الترابي للالتقاء بالعنصر الروحي، فتكون حياة جديدة.

فإذن حتى المرحلة الوسطى المسماة بالحياة البرزخية لا تختفي الحياة فيها بالمعنى الكامل، وإنما تختفي الحياة فقط المعنى الدنيوي.

6- الموت بداية لتلقي ثمار الغرس الصالح :

وتبقى حياة لها طبيعة خاصة تتلقى آثار الحياة الأولى المشار إليها في قوله تعالى {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم}(سورة يسن). وكأن الانسان بعد مغادرته بالموت لهذه الدنيا كأنه يفتح له حساب في الدار الآخرة، في الحياة البرزخية، فالأعمال التي لا تنقطع بالموت تستمر، تدخل حسناتها في حسابه. مثلما تستمر المداخيل الدنيوية تدخل في الحساب، هذا مجرد تمثيل بالبنوك الدنيوية التي تفتح فيها الحسابات، وهو تمثيل للتوضيح فقط، قال(ص) : “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” ـ أو كما قال(ص) الحديث واضح الدلالة في أن حسنات هاته الأعمال يستمر إنتاجها ويستمر استقبالها، وحسابها، وكتابها، نعم، تكتب أيضا، قال تعالى : {ونكتب ما قدموا وآثارهم}.

7- الدعوة إلى دين الله وهداه أكبر مورد للحسنات :

وعلى رأس تلك الآثار أجر الدعوة للهدى قال رسول الله(ص) “من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا” بهذا المنطق نفسه الذي يشير إليه هذا الحديث يمكن فهم المدد المستمر للحسنات والذي لا ينقطع بالموت، ومصدر ذلك الأعمال الصالحة المخلدة، وعلى رأسها الدعوة للهدى، كما يمكن أن ندرك أن رسول الله(ص) أعظم المسلمين أجرا لأننا جميعا ندخل إلى كتابه حسناتنا، لأنه الداعي الأول إلى هذا الخير، إلى هذا الهدى. فمن تبعه، ومن تبع من تبعه ـ والأمر ماض إلى يوم القيامةـ يستفيد هو (ص) من كل ذلك. وكل من تبعه ودعا بدعوته يستفيد من أجور من استجابوا له، وهكذا دواليك، لا ينقطع مدد الحسنات عن الرسول والتابعين له.

أ.د. الشاهد البوشيخي

———————-

نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور الشاهد البوشيخي ببلدية ازواغة ـ فاس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>