معركة وبطل – طارق بن زياد وفتح الأندلس


توطئة

لقد عرف المجتمع الاسلامي، على غرار مجتمعات المؤمنين السابقة، صورا عديدة من الصراع ضد الباطل والشر، لأنه مجتمع تأسس على العقيدة الاسلامية الصادقة التي أخرجت الانسان من ظلمات الجاهلية إلى نور الحق، ونسخت باقي الديانات الأخرى وقدمت للانسان عامة منهاج عبادة وعمل، يحس من خلاله باآدميته المقترنة بخاصيتي التكريم والكليف. وهذا الصراع سنة من سنن الله تعالى في تدبير شؤون خلقه مصداقا لقوله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس، وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين}1، وقوله تعالى في سورة الحج {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز}2 وقوله جل وعلا {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلو أخباركم}3. فجعل الله عز وجل سنتي التداول والتدافع من سنن التمكن من آليات الصلاح والإصلاح وفق ما أمر به وما نهى عنه.

إن الاسلام ما كان له أن ينتشر في الآفاق لو لم يتصل الجهاد بالإيمان أشد الاتصال إلى درجة الامتزاج والالتنحمام، باع خلالها المؤمنون متاع الدنيا ليشتروا الجنات، بعد أن أحبوا الله تعالى وأحبوا رسوله(ص) وتربوا في المدرسة النبوية. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله(ص) سئل أي  العمل أفضل؟ قال : إيمان بالله ورسوله قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله، قيل : ثم ماذا؟ قال : حج مبرور”4. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله(ص) : مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، فقالوا : ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره”5.

من منطلقات الجهاد اخترنا الحديث عن (فتح الأندلس) وعن (طارق بن زياد) باعتبارهما محطة أخرى من محطات الجهاد في سبيل اعلاء كلمة الحق وصورة حية نقتبسها من تاريخنا لعلها تحيي في قلوبنا عزة المسلمين وقوتهم.

وهذه هي قصة الفتح : “بوصول العرب إلى سواحل المحيط الأطلسي بإفريقيا، في أوائل القرن الثامن الميلادي، بقياد ة موسى بن نصير، مولى عبد العزيز بن مروان، ثم بسط نفوذ الأمويين وانتشر الاسلام في أرجاء المغرب وتمت السيطرة على طنجة، حيث قلد ولايتها طارق بن زياد، الذي يعود له الفضل في قيادة جيش فتح الأندلس وبسط الكلمة الاسلامية فيها، وذلك بعد الحملات الاستكشافية التي تم القيام بها والغارات الاولى لاختبار استعداد المنطقة بجنوب اسبانيا بتحريض من جوليان، حاكم منطقة سبتة وحليف موسى بن نصير.

أرسل موسى بن نصير(طريف بن مالك)، في أربعمائة رجل ومعهم مائة فارس في أربعة سفن، للإغارة على الجزيرة الخضراء، بمساعدة جوليان، فعرفت حملته النجاح حيث عاد سالما غانما في رمضان سنة 91هـ( 710م)، مما حمس الناس على الغزو والعبور إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد في شهر شعبان من سنة 92هـ (711م)، حيث تم العبور في أربع سفن أعدها له جوليان، على رأس جيش ضخم من المسلمين. وأثناء  العبور أخذ طارق بن زياد سنة من النوم، رأى خلالها النبي(ص) وحوله المهاجرون والأنصار، وقد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسى، فيقول له “يا طارق! تقدم لشأنك، ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه”، ثم هب طارق من نومه مستبشرا، ولم يشك في النصر.

ألقت السفن مرساها قبالة الجزيرة الخضراء عند صخرة الأسد التي حملت اسم طارق إلى اليوم فسميت (جبل طارق) ونزل المسلمون في مكان يقال له البحيرة جنوبي إسبانيا، في هذه الأثناء كان ملك اسبانيا (لذريق) مشغولا بثورة “أخيلا” في شمال اسبانيا، وبوصول الخبر إليه جمع جيشا جرارا وعاد إلى الجنوب. كما تعزز جيش طارق بخمسة آلاف مقاتل. وبوصول جيش الملك الاسباني خطب طارق في عسكره، فحثهم على الجهاد التذرع بالصبر وبشرهم بما سيفتحون من البلاد ويصيبون من غنائم، وينعمون به في دنياهم وآخرتهم.

التقى الجيشان على مقربة من وادي بكة، فدارت رحى المعركة الفاصلة التي انتهت بانتصار المسلمين بعد ثمانية أيام سنة 92هـ (711 م).

وقد ساهم في الانتصار انحياز أبناء غيطشة وأنصارهم إلى العرب، حيث كان هؤلاء يرون في لذريق مغتصب العرش منهم بعد موت أبيهم، كما استطاع جوليان استمالة بعض جند لذريق إليه، مما مزق شمل جيشه ورجح كفة المسلمين.

بعد تحقيق هذا الانتصار الضخم، ارسل طارق إلى موسى بن نصير  مخبرا إياه بما فعله وحققه، فخرج هذا الأخير، سنة 93هـ، في عسكر ضخم للحاق بطارق في اسبانيا، وبوصوله إلى اسبانيا اتخذ لنفسه طريقا غير طارق بن زياد، وذلك لفتح المزيد من المناطق على أن يتم اللقاء عند العاصمة طليطلة، حيث تابعا معا الفتح نحو جبال ألبرت في أقصى الشمال حتى بلغا شاطئ بحر الشمال عند حدود فرنسا الجنوبية، غير أن (الوليد بن عبد الملك) كتب إليهما بالرجوع إلى دمشق، فرجعا بعد أن خلف موسى بن نصير ابنه عبد العزيز في أواخر سنة 95هـ (714م) ليستكمل فتح الأندلس.

هذه بصفة عامة أحداث فتح الأندلس تحت قيادة المجاهد في سبيل الله طارق بن زياد، اختصرناها لأن ما يهمنا ليس سرد الأحداث بالتفصيل وتقديم الروايات المختلفة، بقدر ما نسعى في هذه الوقفة التاريخية إلى إعادة قراءة مشاهد من الفتح الاسلامي للأندلس، قراءة تعيد للنفوس العزة وتقوي معنوياتها، كما تمكننا من استلهمام الروح الجهادية لمن حملوا السيوف في سبيل الله تعالى وماتوا في سبيل الله تعالى.

وفي هذا الإطار تستوقفنا شخصية طارق بن زياد وخطبته المشهورة، لنعيد قراءتها قراءة تحقق نوعين من النتائج :

أولها أنها تمكننا من معايشة أجواء تجنيد وتقوية النفوس المجاهدة التي نزلت على أرض لم تعرفها من قبل، ووقفت في مواجهة جيش عرمرم، وكيف أثر حرق السفن في هذه النفوس.

وثانيهما انها تمكننا من استلهام الجوانب المضيئة من فلسفة الجهاد الاسلامي عبر التاريخ الاسلامي، عسى الامة أن تستفيد منها وهي تدخل منذ عقود، مرحلة الدفاع عن النفس ومواجهة الفتوحات العلمانية الصليبية الحديثة التي استطاع قوادها امتلاك ما استطاعوا من قوة مادية ومعنوية. ذلك ان الأمة الاسلامية تحتاج إلى من يقوي في نفس أبنائها عوامل النصر ويوقظ قابلية المواجهة، وما ذلك على المسلمين بعظيم.

يعتبر طارق بن زياد من الموالي الذين كان لهم شأن في الفتوحات الاسلامية، وقد أهمل هذا البطل من قبل  المؤرخين وأصحاب السير، حيث ذكر البعض أنه بربري الأصل، ينتمي إلى نفزاوة من بربر افريقية(تونس)، في حين قال آخرون غير ذلك، لكن المؤكد أنه كان من موالي موسى بن نصير، وأن موسى وثق به فقربه إليه وأمره على بعض الجيوش وولاء طنجة ثم ندبه لفتح الأندلس، لقوة شكيمته وصدق عزيمته وشدة بأسه وصلابة عوده، فوق ما امتاز به من فصاحة الكلام والقدرة على التأثير على النفوس والقلوب، كما اشتهر بإخلاصه في الجهاد، وباعتباره بربريا، فإن أغلب جنده كانوا من البربر وهو ما سمح له بالوصول إلى قلوبهم والتأثير في نفوسهم وحسن توجيههم، ساعة يقتضي الأمر كذلك. وفي خطبته الدليل الكافي على هذه المواصفات. حيث قال في خطبته “أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وان امتدت بكم الايام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسهم خذلان هذه العاقبة بمناجزة هذا الطاغية وأن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا.. وقد بغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، الرافلات في الدر والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان(الذهب)، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا واختانا. ليكون حظه منكم  ثواب الله في إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم. واعلموا أني أول مجيب لما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله”.

هذه شذرات من تاريخ فتح الأندلس على يد المجاهد في سبيل الله تعالى طارق بن زياد تعكس بوضوح ملامح الجهاد الاسلامي لاعلاء كلمة الله عز وجل والتضحية بالأموال والأنفس من أجل نشر الدين الاسلامي وتصحيح العقائد وتخليص الانسان المقهور بعبادة الأوثان والخرافات من ربقة العبودية لغير الله تعالى.

فتحت الأندلس وانتشر الاسلام، لكن المسلمين خرجوا منها مهزومين بعد أن استولى على  قلوبهم شهوات الحياة الدنيا.

واليوم، وقد مر على هذا الحدث القرون والقرون، ما أحوجنا إلى من يعيد تخليصنا نحن المسلمين من ربقة ظلم الغرب لنا وتعسفه علينا بل ما أحوجنا إلى من يعيد في نفوسنا الثقة ويجدد  تديننا لنكون بالفعل خير أمة أخرجت للناس، نستطيع خلالها لا الرد على الهجومات فقط، بل إعادة الإسلام إلى مناطق تغتصب على مرأى منا تتصدرها القدس الشريف، وما أحوجنا إلى رجال يدركون تمام الادراك قوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}.

وما أحوجنا ـ في عصر الصحوة ـ إلى أن ندرك أن هذا الدين لا يقف في طريقه شيء، فهذه الأندلس التي خرج منها المسلمون مهزومين يعود إليها الاسلام من جديد فتتأسس فيها مؤسسات ومساجد إسلامية، وترتفع فيها صيحات “الله أكبر” من جديد، وها هي دول أوربا كلها بلا استثناء يدخلها الاسلام بل وهذه الشيشان تهزم أعتى قوة في العصر، وتتحداها ب”الله أكبر” فهل يرتفع القادة إلى مستوى طارق بن زياد، ويمتطوا صهوات الفكر والعلم لينشروا الحق والعدل، أم يرتضون الذل والتبعية حتى يزحف عليهم نور الاسلام فيخنقهم؟؟.

ذ. عبد العزيز انميرات

………………………………..

1- سورة آل عمران.

2- سورة الحج.

3- سورة محمد.

4- صحيح البخاري

5- نفسه

اعتمدنا في سرد الأحداث التاريخية على :

ـ السياسة والمجتمع في العصر الأموي لابراهيم  حركات.

- دراسات في تاريخ الدولة العربية لمصطفى ضيف احمد.

ـ الدكتور حسن ابراهيم حسن في كتاب تاريخ الاسلام السياسي.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>