صفات المتقين من خلال سورة البقرة


صفات المتقين من خلال سورة البقرة

أ- تعريف مختصر بسورة البقرة :

1) سبب التسمية : سميت سورة >البقرة< لأن الله تعالى ذكر فيها قصة البقرة التي أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يَذْبحوها لتكون آيةً لله تعالى، ومعجزةً لموسى عليه السلام على أنه رسولُ الله، ويأمُرُهُمْ بِأَمْرِ الله تعالى، ولكنَّ اليهود رَاوَغُوا وتحايَلُوا ـ كعادتهم دائما ـ للتخلُّصِ من أمر الله في الباطن، وإعلان الخضوع الزائف في الظاهر، فهي إسمٌ لأعظَمِ سورة في القرآن بِأَبْشَعِ مَوْقِفٍ إِسْرَائِيلِيٍّ من الأوامرِ الإلهية. وأفْظَعِ مَسْلَكٍ عَمَلِيٍّ مع أَنْبِيَاءِ الله ورُسُلِهِ، ليكون الاسمُ كالعُنْوَانِ المختصَرِ لأَبْرَزِ المحادَّاةِ لله ورُسُلِهِ التي يَجِبُ على المومنين حَقًّا في كل وَقْتٍ وحِينٍ أَنْ يَحْذَرُوهَا.

وقد وردت التسمية عن الرسول (ص) فقد ورد في الصحيح أن النبي (ص) قال : “من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كَفَتَاهُ”، وفي الصحيح أيضا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : “لما نزلَتْ الآيات من آخر البقرة في الربا، قرأهما رسول الله ثم قام فَحَرَّمَ التجارةَ في الخمر” انظر التحرير والتنوير.

2) فضل السورة : قال القرطبي رحمه الله تعالى في جامعه : > هذه السورة فضلُها عظيمٌ وثوابُها جسِيمٌ، ويقال لها “فُسْطَاطُ القرآن، وذلك لِعِظَمِهَا وبَهَائِهَا، وكَثْرَةِ أَحْكَامِهَا ومواعِظِهَا، وتَعَلَّمَهَا عُمَرُ رضي الله تعالى عنه بِفِقْهِهَا وماتَحْتَوِي عَلَيْهِ من اثنَتَيْ عَشْرَةَ سنةً، وابنهُ عبد الله في ثماني سنين<.

واذا كان فضلها لا يمكن أن يأتي عليه الحصر، فالإشارة الى البعض تكفي في الدلالة على فضلها، وعظم فضل من حملها وعمل بها، وغُبْنِ مَنْ حُرِمَ مِنْ حِفْظِهَا والاستضاءة بِنُورِهَا، لعل ذلك يكون دافعا للحرص على حفظها وتحفيظها للأبناء والأصدقاء، والنساء والبنات، مع الحث المستمر على التفقه الإيماني العميق بما احْتَوَتْهُ من إشاراتٍ، ودلالاتٍ، وتشريعَاتٍ، وتوجيهات ربانية نحو الغاية المُثْلَى الواضحة التي أوصى بها ابراهيمُ بنيه ويعقوبُ >يابَنِيّ إن الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ< البقرة الآية 132.

ومن فضلها مايلي :

- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : >اقرأوا سورة البقرة، فإنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، ولا يستطيعُهَا البَطَلَةُ ـ السحرة..< رواه مسلم عن أبي أمامة الباهلي.

- وروى أيضا مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >لا تجعَلُوا بيوتَكُمْ مَقَابِرَ، إن الشَّيْطَانَ يَنْفر من البيت الذي تُقْرَأُ فيه سُورَةُ البَقَرَةِ<.

- وقال صلى الله عليه وسلم >إن لكُلِّ شيءٍ سَنَامًا، وسَنَامُ القُرْآنِ سُورَةُ البَقَرَةِ، مَنْ قَرَأَهَا في بَيْتِهِ نهاراً لَمْ يَدْخُلْهُ الشَّيْطَانُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ومن قَرَأَهَا في بَيْتِهِ لَيْلاً لَمْ يَدْخُلْهُ الشيطان ثلاثَ لَيَالٍ< اخرجه ابو يعلى والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي.

- وأخرج أبو عبيد، وأحمد، والبخاري في صحيحه تعليقا، ومسلم، والنسائي عن أسيد بن حضير قال : >بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ إِذْ جَالَتْ الفَرَسُ، فَسَكَتَ، فَسَكَتَتْ، ثم قرأ فجالت الفرس، فَسَكَتَ، فَسَكَتَتْ، فانصرف الى ابنه “يحيى” وكان قَرِيبًا منها -أي الفرس- فأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ الى السماء، فإذا هو بمثل الظُلَّةِ ـ ما يُظَلِّلُكَ من شَجَرٍ أو مِظَلَّةٍ ـ فيها أَمْثَالُ المَصَابِيحِ عَرَجَتْ الى السماء حَتَى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله >أتدْرِي مَاذَاكَ؟< قال : لا يَارَسُولَ اللهِ، قال : >تِلْكَ المَلاَئكةُ دَفَّتْ لِصَوتِكَ، ولو قرأتَ لأصبحتْ تَنْظُرُ اليها الناسُ، لا تَتَوَارَى مِنْهُم ْـ لا تختفي ـ< 1\28 فتح القدير للشوكاني.

ومن فضل حملتها ما يلي :

اخرج الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان، والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : >بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثاً فَاسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ< ـ يعني ما مَعَهُ من القرآن ـ >فأتى على رَجُلٍ من أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فقال : ما مَعَكَ يَافُلاَن؟ قال : معي كذا وكذا وسُورَةُ البَقَرَةِ، قال : أَمَعَكَ سُورَةُ البقرة؟ قال :  نَعَمْ. قال: اذْهَبْ فَأَنْتَ أَمِيرُهُمْ<-المرجع السابق-

وفي كتاب الاستيعاب لابن عبد البر: وكان لبيد بن ربيعة من شعراء الجاهلية، ادرك الإسلام فَحَسُنَ إسلامه، وتَرَكَ قَوْلَ الشعر في الإسلام، وسأله عُمَرُ في خلافته عن شعره، واسْتَنْشَدَهُ ـ طلب منه أن يُسْمِعَهُ بعض أَشْعَارِهِ السابقة ـ فقرأ سورة البقرة، فقال عمر : انما سألتُكَ عن شِعْرك، فقال : ما كنتُ لأقُولَ بَيْتًا من الشعر بَعْدَ إِذْ عَلَّمَنِي الله البقرةَ وآل عِمْرَانَ، فأَعْجَبَ عمرَ قولُهُ، وكان عَطَاؤُه أَلْفَيْنِ، فَزَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ. 1\151 الجامع لأحكام القرآن.

وجاء في كتب السيرة أن المسلمين لما انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم “حنين” إلا قِلَّةً قليلةً ثبتت مع النبي، قال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس ـ وكان جَهْوَرِيَ الصَّوْتِ : >اصْرُخْ يا مَعْشَر الأنصار، ياأهل السَّمُرَةِ ـ شجرة البيعة في الحديبية ـ ياأهل سورة البقرةِ، فانْعَطَفُوا كَمَا تَنْعَطِفُ البَقَرُ على أَوْلاَدِهَا، وهم يَقُولُونَ : لَبَّيْكَ لَبَّيْك يا رسول الله، أَبْشِرْ.

3) سورة البقرة مدنية إلا آية 281 ” واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ” فإنها آخر آية نزلت بِمِنًى في حَجَّةِ الوَدَاعِ وآياتها 286، فهي من أوائل مانزل من السُّوَرِ بعد الهجرة، وهي أطول سُوَرِ القرآن على الإطلاق.

4) موضوعات السورة ومحتوياتها :

قال سيد قطب رحمه الله تعالى >هذه السورة تَضُمُّ عِدَّةَ مَوْضُوعَاتٍ، ولكن المحورَ الذي يَجْمَعُهَا كُلَّهَا مِحْوَرٌ وَاحِدٌ مزدوج يترابط الخطان الرئيسيان فيه ترابطا شديدا… فهي من ناحية تدور حول موقف بني إسرائيل من الدعوة الإسلامية في المدينة، واستقبالهم لها، ومواجهتهم لرسولها وللجماعة المسلمة الناشئة على أساسها… وسَائِرُهَا يَتَعَلَّقُ بهذا المَوْقِفِ، بما فيه تلك العَلاَقَةُ القوية بين اليهود والمنافقين من جهةٍ، وبين اليهود والمشركين من جهة أخرى..

وهي من الناحية الأخرى تدور حول موقف الجماعة المسلمة في أول نَشْأَتِهَا، وإِعْدَادِهَا لِحَمْلِ أمانة الدعوة والخلافة بعد أن تُعْلِنَ نُكُولَ بني إسرائيل عن حَمْلِهَا، ونَقْضِهِمْ لِعَهْدِ الله بِخُصُوصِهَا، وتجريدِهِمْ من شَرَفِ الإنتسابِ الحقيقيِّ إلى ابراهيم عليه السلام صَاحِبِ الحنيفيَّةِ الأُولَى، وتَبْصِيرِ الجماعة المسلمة وتحذِيرِهَا من العثَراتِ التي سَبَّبَتْ تَجْرِيدَ بني إسرائيل من هذا الشَّرَفِ العظيم< 1\28 الظلال.

وهكذا كانت السورة “تُعْنَى ـ كغيرها من السور المدنية ـ بالتشريع المُنَظِّمِ لحياة المسلمين في المجتمع الجديد بالمدينة، مَجْتَمَعِ الدِّينِ والدَّوْلَةِ مَعًا، فلا ينفصل أحدهما عن الأخر، وأنما هما متلازمان تلازم الجسد والروح، لذا كان التشريع المدني قائما على تأصيل العقيدة الإسلامية، ومَبْدَؤُهَا الإيمانُ بالله، وبالغيب ، وبأَنَّ مَصْدَرَ القرآن هو اللهُ عزوجل، والاعتقادُ الجازم بما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وعلى الأنبياءِ السابقين، وبأن العَمَلَ الصالح تُرْجُمَانُ ذَلِكَ الإيمانِ، ويتمثَّل العمَلُ بِعَقْدِ صِلَةِ الإنسان مع رَبِّهِ بِوَاسِطَةِ الصلاة، وبتحقِيقِ أُصُولِ التَّكَافُلِ الإجتماعيِّ بواسطةِ الإِنَْفاِق في سبيل الله< 1\68 التفسير المنير د: وهبة الرحيلي.

فتضمنتْ أصولَ التشريع للعباداتِ والمعاملاتِ من إقامةٍ للصلاة، وايتاءٍ للزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت والجهاد، والإنفاق، والوصية للوالدين والأقربين ومعاملة اليتامى، وتنظيم شؤون الأسرة في الزواج والطلاق والرضاع، والعدة، والإيلاء، وإيجاب القصاص في القتلى، وتحريم الخمر والمَيْسِرِوالرِّبَا وأَكْلِ أموال الناسِ بالباطل، كما تضمنَتْ تَبْيِينَ كيفيةِ توثيقِ الدُّيُونِ بالكتابة أو الرهان أو الإشهاد عليها من الرجال والنساء، إلى آخر ما تَضَمَّنَتْهُ من وجوبِ أداء الأمانات والودائع، ومن تحريم كتمان الشهادة.

وخُتِمَتْ بتعليم المومنين كيفية الإنابة والتضرع إلى الله تعالى بالدُّعَاءِ الجامع المشتمل على طلب اليُسْرِ والمغفرة والرحمة والنُّصْرَةِ على القوم الكافرين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>