التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة وترشيد مناهجها (3)


التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة وترشيد مناهجها (3)

وفي نظرنا أن الراجح والأصوب -توفيقا بين الرأيين- هو أن وجوب الحسبة -في إطار الأمر والنهي- على العين يكون في حالة عدم وجود الدولة المسلمة التي تقوم على الشرعية الدينية المتمثلة في قيامها على الإسلام قولا وفعلا، ثم تولي مسؤوليها عن طريق الشورى، ثم استمرار الدولة على الإسلام قولا وفعلا، ففي هذه الحالة يكون كل أفراد المجتمع مسؤولون عن التمكين لدين الله والدعوة له والقيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل أبعادها العقيدية والسلوكية والإلتزامية وفي كل المجالات الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية مع مراعاة الإمكانيات والمرحلية. أما الوجوب على الكفاية فيكون في حال قيام الدولة المسلمة التي تقوم على الدعائم السابقة، فحينئذ يكون الحكام الشرعيون العدول إلى جانب مؤسسة العلماء والدعاة ورثة الأنبياء هم المسؤولين على توعية الجماهير ودعوتهم إلى التدين، الواعي الشامل المؤثر، وهم المسؤولون عن القيام بوظيفة الحسبة في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مقيد بحصول الكفاية في الدعوة والقيام بالأمر والنهي وشمول ذلك الداني والقاصي من أفراد المجتمع بحيث لا تبْقَى مَنْ لا تَصِلُهُ الدعوة والأمرُ والنهْيُ في المجتمع، فإذا لم تحصل الكفاية بهذا المفهوم انتقَلَ الحكمُ من الكِفاية إلى الْعَيْنِ.

ومن خلال ما تقدم يمكن استخلاص ما يلي :

1) إن رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتجاوزُ أمرَ الحكَّامِ وَوُلاَّّةِ الأمورِ، إذْ لاَ يُشْتَرَطُ في ذلك إِذْنُهُمْ، اللهم إلا إذا كانتْ الدولةُ الإسلامية الشرعيةُ قائمةً، وخَصَّصَتْ لهذا الميدان مؤسَّّّّّّّسَةً تضم العُلَمَاءَ المخْلِصينَ الصالحينَ المصلحينَ القائمين بكل وَاجِبَاتِ الأمرِ بالمَعْروفِ والنهي عن المنكرفي المجتمع، فحينئذٍ يَسْقُطُ الأَمْرُ والنَّّهْيُ عن الباقينَ بِذَلِكَ وَفْقَ القَيْدِ السَّابِقِ، ففي هذه الحالة قد يجوزُ تَقْنِينُ وَظِيفَةِ الحِسْبَةِ اسْتِصْلاَحاً إذا كان في ذلك مَصْلَحَةٌ للأمَّةِ يقدِّّّّرُها العلماءُ المشاورون في مؤسَّّّستهم الشَّرْعِيَّة.وقد اشترط قومٌ إذْنَ الإمامِ أو الوَالي في القيامِ بِرِسالةِ الْحِسْبَةِ، وقد أَنْكَرَ هَذَا الرَّأْيَ ابْنُ قِدَامَةَ وغَيْرُهُ حَيْثُ قال : “وهذا فاسِدٌ لأن الآياتِ والأخبارَ عامَّةٌ تَدُلُّ على أن كلَّ من رأَى مُنْكَراً فَسَكَتَ عَنْهُ عَصَى، فالتخصيصُ بإِذْنِ الإمامِ تَحَكُّّّّّمٌ” وهذا رأيُ مُتَّجَهٍ سَدِيدٍ لأنه لا يمكن أن ننتظر من الأئمة الفسَّاقِ والظالمين أن يرخِّّّّصوا للعلماءِ والدُّعَاةِ الأخيار، ولأهل الغيرة على الدين في القيام بوظيفة الحِسْبَةِ في أطار الأمْرِ بالمعْروفِ والنهي عن المنكَرِ لِأَنَّهُم هُمْ أَوَّلُ من يُسْتَهْدَفُ بذلك.

2) إن المراد برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إقامة الدين في كل أبعاده الفردية والجماعية، السياسية والإجتماعية وغير ذلك، حتى يصبح المجتمع آمنا سالما من كل الفتن والمهلكات، وقدقرر هذا العلماء، فهذا ابن قدامة يقول في ذلك : “اعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القُطْبُ الأعظم في الدِّينِ، وهو المُهِمُّّّّ الذي بعث الله به النبيين، ولو طوي بساطه، لاضْمَحَلَّتْ الديانة، وظَهَرَ الفَسَادُ وخربت البلاد”(2)

3) إن من أهم أسباب الفساد والإنحراف والتخلف الحاصل في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم هو غياب الدَّوْرِ الرسالي لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنْعُ أهل الخير والصلاح من الإصلاح والتغيير، وبالمقابل فَسْحُ المجال للهيئات والمؤسسات غير الشرعية العلمانية والصهيونية لتمييع الناس وتضْليلِهم وإبعادهم عن هُوِيَّتِهم الحضارية، هذه المؤسسات التي حلت محل المؤسسة الشرعية للعلماء المخلصين ورثة الأنبياء.

4) إن القيام برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على اختلاف مراتبها ودراجاتها في التفاوت أو التساوي تحتاج إلى رفق وحلم، ولهذا قال بعض السلف : “لا يَأْمُرُ بالمعروف إلا رفيقٌ فيما يأْمُرُ به، رَفيقٌ فيما يَنْهَى عَنْهُ، حليمٌ فيما يأمُرُ به، حليم فيما يَنْهَى عَنْهُ، فقيهٌ فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه”(3) وقد أشار ابن تيمية إلى هذا المعنى حيث قال : “والرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل : “ليكُنْ أَمْرُكَ بالمعروف بالمَعْرُوفِ، ونَهْيُكَ عن المنكر غَيْرَ مُنْكَر”(4)

هذه بعض المعالم والأسس المنهجية والعلمية التي تشملها قاعدة ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هذه القاعدة الفقهية الدعوية التي تُبْرِزُ بوضوح أهمِّّّيَةَ التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة والحركة والواقع، وكذلك في ترشيد المناهج الدعوية التي يجب أن تقوم على هذه المعالم الأساسية.

(1)منهاج القاصدين : 124. (2)نفسه : 123.

(3)نفسه : 123.  (4)الإستقامة : 2/210.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>