تعقيب من قارئ غيور على الشروط المبيحة لإفطار المسافر في رمضان. وتعقيب على التعقيب


تعقيب  من قارئ غيور على الشروط المبيحة لإفطار المسافر في رمضان.

وتعقيب على التعقيب :

.ذ. المفضل فلواتي

1- لماذا الاقتصار على المذهب المالكي؟

قد كتب للجريدة أحد القراء الكرام سَمَّى نفسه >بالقارئ الغيور على دينه< يقول : > ذَكَر صَاحِبُ المقَالِ -يَقِصِدُ ماوَرَدَ في العددِ الثالث من الكلام عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ- بِأَنَّ المُسَافِرَ لاَيُفْطِرُ إِلاَّ إِذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ، وَمِنْ بَيْنِهَآ هذَا الشَّرْطُ : أَنْ يَشْرَعَ فِي السَّفَر قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، بِحَيْثُ يُجَاوِزُ البَسَاتِينَ المُتَّصِلَةَ بِالبَلْدَةِ التي يسْكُنُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، واَظُنُّ بِأَنَّ هَذاَ الشَّرْطَ -واللَّهُ أَعْلَمُ- يَتَعَذَّرُ على كَثِير من النَّاسِ فَهَلْ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ أَمْ لاَ؟ وَمَا الفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَنْ خَرَجَ قَبْلَ الفَجْرِ؟ عِلْماً بِأَنَّ عِلَّةَ الفِطْرِ هِيَ السَّفَرُ؟!

وخَتَمَ صَاحِبُ المَقَالِ بَقَولِهِ تعالى >وأَنّ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ<، وهذه الآية لَيْسَتْ نَصًّا للِدَّلاَلَةِ بِهَا هُنَا، لأَنّ الآيةُ مُتَعَلِّقَةٌ بالصِّيَامِ الذِي فُرِضَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ عَلَى الخِيَارِ، ولَيْسَ عَلَى الوُجُوبِ، ولِلأَسَفِ (هَكَذَا بالتَّأَسُّفِ) فَإِنَّ الكَثِيرَ يَسْتَدِلُّ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَكَذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم >لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ<

إِنْ كُنَا نَذْهَبُ مَعَ صَاحِبِ المَقَالِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ؟ ولِماذا الاقْتِصَارُ عَلَى المَذْهَبِ المَالِكِي؟< انتهى كلام الغيور.

التعقيب :

أولا : نَشْكُرُ القارئ الغيور على هذا الإهتمام بالجريدة وبما يُنْشَرُ فيها، وعلى هذه النصيحة التي نَسْأَلُ الله تعالى أن يُثِيبَهُ عليها، ويَجْعَلَها في كتاب حَسَناته، لأنه فَتَحَ بَاباً للمناقشة العِلْمِيَّةِ التي سَنَسْتَفِيدُ مِنها جَمِيعاً، ويَسْتَفِيدُ منْها القُرَّاءُ العديدُون، والفضْلُ يَرْجِعُ للسَّايق إلَى فَتْحِ هَذَا البَابِ.

ثانيا : أَبْدَأُ في التعقيب بالجَوَابِ عن السؤال الأَخِير >لماذا الاقتصار على المذهب المالكي؟<

تمهيدات : وقبل الجواب أُحِبُّ أن أسطِّر “مُسَلَّمَاتٍ” بَيْنَ يدَيْهِ لاَيُنَاقِشُ فِيهَا أَحَدٌ من العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ والتَّقْوَى والدَّعْوَةِ، وهَذِهِ المُسَلَّمَاتِ هِيَ :

1) أنَّ عُلَمَاء المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ قَدْ بَنَوْا مَذَاهِبَهُمْ على أُصُولِ ومَصَادِرَ شَرْعِيَّةٍ في مُقَدِّمَتِهَا الكِتَابُ والسُّنَّةُ، والتَّأْكِيدُ عَلَى هَذَا وَفَهْمُهُ جَيِّداً يَطْرُدُ الكثِير من الظُّنُونِ التي تُرَاوِدُ بَعْضَ النَّاسِ اليَوْمَ في زَمَانِ التَّخَلُّفِ العِلْمِي، فَرُبَّمَا تَذْهَبُ بهم ظُنُونُهُمْ أَنَّ هَؤُلاَءِ العلماء كانُوا يَفْتُونَ بالهَوَى.

2) أن هَؤَلاَءِ العُلَمَاءُ المَتْبُوعِينَ كَانُوا أَقْرَبَ مِنَّا إلى عَصْرِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ، وأَعْلَمُ بِمَذْهَبِ سَلَفِ الأُمَّةِ مِنَّا، لأَنَّهُمْ عَاشَرُوا عَمَلِيًّا مَن كَانَ يَغْتَرِفُ مِنْ مَعِينِ المَصَادِرِ الإسلامية الصَّافِي.

3) لاَيَنْبَغِي أَنْ يُخَامِرَنَا الشَّكُ في أَنَّهُم كَانُوا أَتْقَى مِنَّا وأَكْثَرُ مُرَاقَبَةً للَّهِ تعالى في كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُم مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ فَتْوَى، بَلْ كَانَ يَبْلُغُ بِهِمْ الوَرَعُ إِلَى أَن لاَّ يَقُولُوا هَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا حَلاَلٌ، صَرَاحَةً -فِي غَيْرِمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْرِيمِهِ أَوْ تَحْلِيلِهِ- ولَكِنْ يقولون : >أَسْتَحْسِنُ هَذَا أَوْ أَكْرَهُ هَذَا< خَوْفاً أن يُشَرِّعُوا مَعَ اللَّهِ تعالى ارجع للسورة، وهُمْ أَيْضاً كَانُوا اعلم مِنَّا بِاللُّغَةِ، وأَحْفَظَ لَهَا وأَعْلَمَ بِمَدْلُولاَتِهَا في النُّصُوصِ.

4) أَن المَذَاهِبَ الفِقْهِيَّةَ المَتْبُوعَةَ هِيَ خُلاَصَةُ الجَمْعِ والدَّمْجِ لِعَشَرَاتٍ من المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ لِعُلَمَاءَ مُعْتَبَرِينَ، لَمْ يُكْتَبْ لِمَذْهَبِهِمْ الانْتِشَارُ، فَهَذِهِ المَذَاهِبُ تُمَثِّلُ زُبْدَةَ الاجْتِهَادَاتِ المَسْكُورة التى بَذَلَهَا علماءُ السَّلف رحمهم الله تعالى اخلاصاً لهذا الدِّين وغَيْرَةً عليْهِ، فهي تُمَثِّلُ أَيْضاً أَقْصَى صُورَةٍ مِن صُوَرِ التَّجْمِيعِ والتَّوْحِيدِ لِمُخْتَلِفِ الآرَاءِ والفُهُومِ لِنُصُوصِ الدِّينِ ومَصَادِرِهِ الأَصْلِيَّةِ.

5) الإخْتِلاَفُ بَيْنَ هذِهِ المَذاهبِ كَانَ مَقْصُوراً فَقَطُّ على بعض المَسَائِلِ الفَرْعِيَّةِ وَخُصُوصاً في المُعَامَلاَتِ، التِي لاضَرَرَ مِنْهَا على الدِّين، ولاَتَكُونُ سَبَباً في التَّفْرِقَةِ المَذْمُومَةِ، فَقَدْ كَانَ هَؤُلاَءِ العُلَمَاءُ مُخْتَلِفِينَ فِيمَا بَيْنَهُم في بَعْضِ القَضَايَا، وَلَمْ يَكُونُوا مُتَفَرِّقِينَ ولاَ مُتَعَادِينَ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يُقَدِّرُ الآخر ويَحْتَرِمُهُ ويُجِلُّهُ، ويعظمه ويُحِبُّهُ ويَعْرِفُ قَدْرَهُ ومَنْزِلَتَهُ.

6) إنَّ الذينَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَوَّرُوا أَنَّ باسْتِطَاعَتِهِمْ البَدْءَ مِنْ جَدِيدٍ في التَّعَامُلِ مَعَ النُُّصُوصِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ الرُّجُوعِ إِلَى تُرَاثِ السَّلَفِ دِرَاسَةً وفَهْماً، وتَعَمُّقاً في أُصُولِهِ ومَوَارِدِهِ، واطِّلاَعاً على مَآخِذِ هَذَآ واعْتِرَاضَاتِ ذَاكَ… إَنَّ هَؤُلاَءِ وَاهِمُونَ، وفي حِبَالِ الجَهْلِ يَفْتِلُونَ بِدُونِ شُعُورٍ، لأَنَّ دَلِكَ عَمَلِيّاً مُسْتَحِيلٌ، ولاَ يَدَّعِي ذَلِك إِلاَّ مَغْرُورٌ، يهدم الدين عن غير قصد، أو عَمِيلٌ مَأْجُورٌ يَهْدِمُ الدِّينَ عَنْ قَصْدٍ، فَالاجْتِهَادُ في عَصْرِنَا هَذا لاَيُمْكِنُ أَنْ يَتِمًّ إلاَّ بِنَاءً عَلَى مَعْرِفَةِ مَاقِيلَ أَوَلاً في المَسْأَلَةِ المُجْتَهَدِ فِيهَا وتَمْحِيصِ ذَلِك، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الاجْتِهَادُ بالتَّرْجِيحِ أَوْ التَّعْدِيلِ، أَوْ العُدُولِ، أَو الاسْتِنْبَاطِ، بِنَاءً على مُعْطَيَاتٍ جَدِيدَةٍ، تُثْبِتُهَآ التَّحْقِيقَاتُ العِلْمِيَّةُ أو التَّغَيُّرَاتُ العُرْفِيَّةُ، أو الزَّمَانِيَّةُ… إلى غير ذلك من الاسْبَابِ التي تُؤَثِّرُ في تَغْيِيرِ الفَتْوَى التي لاَتَمَسُّ الأُصُولَ.

7) إِنّ الفَتْوَى بِمَذْهَبٍ مِنْ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ شَيْءٌ مَعْمُولٌ بِهِ مَاضِياً، وحَاضِراً، ولاَغِنَى عَنْهُ مُسْتَقْبَلاً، والذِينَ يَثُورُونَ على المَذَاهِبِ هُمْ فِيهَا وَاقِعُونَ عَمَلِيًّا، فالذِي لاَيُفْتِي بِمَذْهَبِ الإمام مالكٍ مثلا، سَيُفْتِي بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ لاَمَحَالَةَ، لأَنَّ كُلَّ مَاسَيُفْتِي بِهِ قَدْ قَالَهُ أَحَدُ العُلَمَاءِ السَّابِقِينَ بِدُونِ شَكٍّ، إلاَّ في القَضَايَا الجَدِيدَةِ في عَصْرِنَا، والتي لم تُعْرَفْ إِلاَّ فِيهِ، لأَنَّ الفُقَهَاءَ رحِمَهُم الله تعالى، كانُوا يَتَتَبَّعُونَ القَضَايَا المُسْتَجَدَّةَ في عَصْرِهِمْ، وكَانَ المُسْلِمُونَ يُلاَحِقُونَ العلماء، بالسُّؤَالِ عَنْهَآ لِيَعْرِفُوا كَيْفَ يَتَصَرَّفُونَ، فَمَنْ يَتَصَوَّرُ أَنَّهُ سَيُفْتِي بِفَتْوَى جَدِيدَةٍ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا في القَضَايَا المُثَارَةِ سَابِقاً، إِنَّمَا هُوَ إِنْسَانٌ لاَ يَزِيدُ علىْ رَفْعِ رَايَةِ جَهْلِهِ، وَفَضْحِ نَفْسِهِ أَمَامَ النَّاسِ، وعَلَى هذا فَإِمَّا أن نُفْتِي بِمَذَاهِبَ فِقْهِيَّةٍ مؤصلةٍ مُقعَّدَةٍ، مَحْصُورَةٍ، وَإِمَّا أن نَفْتَحَ البَابَ على مِصْرَاعَيْهِ للْفَوْضَى وتَقَبُّلِ مَذَاهِبَ لاَحَصْرَ لَهَآ ولاَعَدَّ، ولاضَوَابِطَ لَهَا وَلاأُصُولَ وَمَنَاهِجَ يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فِي الاسْتِنْبَاطِ للْحُكْمِ والفَتْوَى.

وفي الحلقة المقبلة : لماذا اختيار المذهب؟

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>