مع كتاب الله عزوجل التحويل للقبلة تَجسيدٌ لشخصية الأمة الوارثة للملة الحنيفية (1)


مع كتاب الله عزوجل

التحويل للقبلة تَجسيدٌ لشخصية الأمة الوارثة للملة الحنيفية (1)

> ذ. المفضل فلواتي

قال الله عزوجل :

>قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ<سورة البقرة 144].

سنتناول في تفسير هذه الآية النقط التالية :

1) مُقَدِّمَاتٌ ضَرُورِيَّةٌ :

إِنَّ تَحْوِيلَ القِبْلَةِ كَانَ حَدَثاً لَهُ صَدًى وَاسِعٌ، سَوَاءٌ فِي الصَّفِّ الإِسْلاَمِي، أَوْ الصَّفِّ المُنَاوِئِ للِدَّعْوَةِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وَمَازَالَ يُثِيرُ المُنَاوِئُونَ عِدَّةَ شُبَهٍ لإِثَارَةِ البَلْبَلَةِ فِي المُجْتَمَعَاتِ الإِسْلاَمِيَّةِ، القَلِيلَةِ البِضَاعَةِ مِنَ العِلْمِ بِأُصُولِ الدِّينِ وَمَبَادِئِهِ، بِفِعْلِ الغَزْوِ الفِكْرِيِّ المُعْتَمِدِ أَسَاساً عَلَى الإِفْرَاغِ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَالتَّعْمِيرِ وَالمَلْءِ بِعُلُومِ الكُفْرِ والإِلْحَادِ، ولِذَلِكَ كَانَ لاَبُدَّ مِنْ تَوْضِيحِ المُنَاسَبَاتِ والمُلاَبَسَاتِ المُحِيطَةِ بِالمَوْضُوعِ عَلَى الشَّكْلِ التَّالِي :

أ- قصة بناء الكعبة : يقول عزوجل >وَإِذْ يَرْفَعُ ابْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِن البَيْتِ واسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ<سورة البقرة 127] ويروي الإمام البخاري في حديث طويل عن ابن عباس أن ابراهيم عليه السلام جاء مَرَّةً لزيارة ابنه اسْماعيلَ عليه السلام، فوَجَدَهُ يَبْرِي نَبْلاً لهُ -يُسَوِّيهِ ويُهَيِّئُهُ للِصَّيْدِ وَغَيْرِهِ- تحْتَ دَوْحَةِ قَرِيباً من زَمْزَمَ، وبعد الانتهاء من فَرْحَةِ اللقاء قال له : >يَاإسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قال : فَاصْنَعْ مَا أمَرَكَ رَبُّكَ. قال : وَتُعِينُنِي علَيْهِ؟ قال : وَأُعِينُكَ. قال : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِي هَاهُنَا بَيْتاً -وَأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا- فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ اسْمَاعِيلُ يَأتي بالحِجَارَةِ، وابْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، وهُمَا يَقُولاَنِ : >رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ<البخاري، كتاب الأنبياء].

ب- رمزية الكعبة : بمَا أَنَّ الإنْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَى اتِّخَاذِ أَشْكَالٍ ظَاهِريَّةٍ مَحْسُوسَةٍ مُعَبِّرَةٍ عن القُوَى الغَيْبِيَّةِ الخَفِيَّةِ التِي لاَيَسْتَطِيعُ إِدْرَاكَهَا بالمَحْسُوسِ والمَلْمُوسِ، فَإِنَّ اللَّهَ تعالى لَبَّى رَغْبَةَ الإِنْسَانِ وَفِطْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِبِنَاءِ البَيْتِ الحَرَامِ، لِيَكُونَ أَوَّلَ بَيْتٍ للهِ تعالى في الأَرْضِ، يَسْتَعِيضُ بِهِ الإنْسَانُ عَنِ الأَصْنَامِ والأَوْثَانِ، حَيْثُ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ لِيَطُوفَ بِهِ، ويَعْتَكِفَ ويُصَلِّيَ فِيهِ، أوْ يَجْعَلَهُ قِبْلَةً ومُتَّجَهاً فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ بَعِيداً عَنْهُ… علَى أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ، والإعْتِكَافُ، والرُّكُوعُ والسُّجُودُ، وكُلُّ أَشْكَالِ العِبَادَةِ للهِ أَيْ يُؤَدَّى كُلُّ ذَلِكَ طَاعَةً لِرَبِّ العَالَمِين، رَبِّ البَيْتِ، ورَبِّ المَشَارِقِ والمَغَارِبِ، >فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ<سورة قريش 3،4،5] فَاللَّهُ تَعَالَى الذِي لاَ يَحُدُّهُ زَمَانٌ وَلاَمَكَانٌ هُوَ المَقْصُودُ بِالعِبَادَةِ والطَّاعَةِ، وَبَيْتُ اللَّهِ مُجَرَّدُ رَمْزٍ لِتِلْكَ الطَّاعَةِ والعِبَادَةِ.

يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى : >لاَجَرَمَ أَنَّ أَوْلَى المَخْلُوقَاتِ بِأَنْ يُجْعَلَ وَسِيلَةً لاسْتِحْضَارِ الخَالِقِ في نَفْسِ عَبْدِهِ هِيَ المَخْلُوقَاتُ التِي كَانَ وُجُودُهَا لأَجْلِ الدَّلاَلَةِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ، وَوَصْفِهِ بِالكَمَالِ مَعَ تَجَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ مَايُوهِمُ أَنَّهَا المَقْصُودَةُ بِالعِبَادَةِ، وَتِلْكَ هِيَ المَسَاجِدُ التِي بَنَاهَا إبْرَاهِيمُ عليه السلام، وَجَرَّدَهَا مِن أَنْ يَضَعَ فِيهَا شَيْئاً يُوهِمُ أَنَّهُ المَقْصُودُ بِالعِبَادَةِ، وَلَمْ يُسَمِّهَا بِاسْمِ غَيْرِ اسْمِ اللَّه تعالى، فَبَنَى الكَعْبَةَ أَوَّلَ بَيْتٍ، وبَنَى مَسْجِداً فِي مَكَانِ المَسْجِدِ الأقْصَى، وبَنَى مَسَاجِدَ أُخْرَى وَرَدَ ذِكْرُهَا في التَّوْرَاةِ بِعُنْوَانِ “مَذَابِحَ”

وإِذَا كَانَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام أَوَّلَ مَنْ حَاجَّ الوَثَنِيِّينَ بالأَدِلَّةِ، وَأَوَّلَ مَنْ قَاوَمَ الوَثَنِيَّةَ بِقُوَّةِ يَدِهِ فَجَعَلَ الأَوْثَانَ جُذَاذاً، فَلاَ غَرَابَةَ أَنْ يُقِيمَ لِتَخْلِيدِ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ذَلِكَ الهَيْكَلَ العَظِيمَ -الكَعْبَةَ- لِيَعْلَمَ كُلُّ أَحَدٍ يَأْتِي أَنَّ سَبَبَ بِنَائِهِ إِبْطَالُ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَفِيهِ مَزِيَّةُ الأَوَّلِيَّةِ، ومَزِيَّةُ مُبَاشَرَةِ إبْرَاهيمَ بِنَاءَهُ بِيَدِهِ، وَيَدِ ابْنِهِ إسْمَاعِيل، فَهُوَ أَعْرَقُ في الدَّلاَلَةِ على التَّوْحِيدِ، وعَلَى الرِّسَالَةِ مَعاً، فَهُوَ أَوْلَى بِالاسْتِقْبَالِ لِمَنْ يُرِيدُ اسْتِحْضَارَ جَلاَلِ الرُّبُوبِيَّةِ الحَقَّةِ<التحرير والتنوير 2/31،32].

ج- حِفْظُ اللَّهِ تعالى لَلْبَيْتِ وَحِمَايَتُهُ مِنَ الإعْتِدَاءِ : أَغْلَبُ المُسْلِمِينَ يَعْرِفُونَ الجَوَابَ الرَّائِعَ والعَمِيقَ الدَّلاَلَةِ، الذِي تَلَقَّاهُ أَبْرَهَةُ الحَبَشِيُّ -عِنْدَمَا أَرَادَ هَدْمَ الكَعْبَةِ- مِنْ عِندِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، حَيْثُ قال لَهُ : >إِنَّ لِلْبَيْتِ رَبّاً يَحْمِيهِ< وَفِعْلاً حَمَاهُ الله تعالى فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى جُنُودِهِ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأكُولٍ.

والوَاقِعُ أَنَّ مُخْتَلِفَ النُّصُوِصِ القُرْآنِيَّةِ، والتَّارِيخِيَّةِ، والأَدَبِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ شِعْرِيَّةً أَمْ نَثْرِيَّةً، تُعْطِي عُرْفاً رَاسِخاً مُتَوَارَثاً في أَذْهَانِ العَرَبِ واليَهُودِ قَبْلَ الإِسْلاَمِ، يُشْبِهُ العِلْمَ اليَقِينِيَّ : أَنَّ الكَعْبَةَ وَمَا يُحِيطُ بِهَا، بَلَدٌ آمِنٌ، مَحْفُوظٌ مِنْ أَيِّ بَغْيٍ أَوْ اعْتِدَاءٍ دَاخِلِيٍّ أَوْ خَارِجِيٍّ، ولِهَذَا كَانَتْ مَكَّةُ فِي الجَاهِلِيَّةِ لاَ تُقِرُّ فِيهَا ظُلْماً ولاَ بَغْياً، ولاَ يَبْغِي فيهَا أَحَدٌ إِلاَّ أَخْرَجَتْهُ، ولاَ يُرِيدُهَا مَلِكٌ يَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا إِلاَّ هَلَكَ مَكَانَهُ، بَلْ يُقَالُ إِنَّ مَكَّةَ مَا سُمِّيَتْ بِبَكَّةَ إلاَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُكُّ -تَكْسِرُ- أَعْنَاقَ الجَبَابِرَةِ.

وفِي هَذَا الصَّدَدِ يَذْكُرُ ابْنُ اسْحَاقَ أَنَّ تُبَّعاً عِنْدَمَا كَانَ في طَرِيقِهِ إلى اليَمَنِ، الْتَقَاهُ نَفَرٌ مِنْ قَبِيلَةِ هُذَيْلٍ فَقَالُوا لَهُ >أَيُّهَا المَلِكُ ألاَ نَدُلُّكَ علَى بَيْتِ مَالٍ دَائِرٍ، أَغْفَلَتْهُ المُلُوكُ قَبْلَكَ، فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ واليَاقُوتُ والفِضَّةُ؟ قال : بلى. قالوا : بَيْتٌ بِمَكَّةَ، يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ، وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الهُذَلِيُّونَ هَلاَكَهُ بِذَلِكَ، لِمَا عَرَفُوا مِن هَلاَكِ مَن أَرَادَهُ مِن المُلُوكِ، وبَغَى عِنْدَهُ، فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا، أَرْسَلَ إلى الحَبْرَيْنِ -عَالِمَانِ مِنَ اليَهُودِ كَانَا يَصْحَبَانِهِ- فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالاَ لَهُ : مَاأَرَادَ القَوْمُ إِلاَّ هَلاَكَكَ، وَهَلاَكَ جُنُودِكَ، مَا نَعْلَمُ بَيْتاً للَّهِ اتَّخَذَهُ في الأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، ولَئِنْ فَعَلْتَ مَادَعَوْكَ إلَيْهِ لَتَهْلَكَنَّ ولَيَهْلَكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعاً، قالَ : فَماذَا تَأْمُرَانِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ؟ قَالاَ : تَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ، تَطُوفُ بِهِ، وتُعَظِّمُهُ وتُكْرِمُهُ، وتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ، وتَذِلُّ لَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ< فَفَعَلَ كُلَّ ذَلِك، ونَحَرَ، وأَطْعَمَ، وكَسَا البَيْتَ. السيرة النبوية لابن هشام 1/23،24].

د- قِبْلَةُ أَهْلِ الكِتَابِ : قَالَ الطّاهِرُ بن عاشور رحمه الله تعالى >إِنَّ شَرْطَ اسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ< هَذَا بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِقِبْلَةِ اليَهُودِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ فَيَقُولُ >واعْلَمْ أَنَّ اليَهُودَ يَسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ، وَلَيْسَ هَذَا الاِسْتِقْبَالُ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ، لأَنَّ بَيْتَ المَقْدِسِ إِنَّمَا بُنِيَ بَعْدَ مُوسَى -بِمَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ- بَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِمَا السلام، فَلاَ تَجِدُ في أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ الجَمْسَةِ ذِكْراً لاِسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ في عِبَادَةِ الله تعالى، ولَكِنَّ سُلَيْمَانَ عليه السلام هُوَ الذِي سَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ المَقْدِسِ< وبعد ماذَكَرَ قِصَّةَ ذَلِكَ، قال > وهذَا لاَ يَدُلُّ على أَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ المَقْدِسِ شَرْطٌ في الصَّلاةِ في دِينِ اليَهُودِ، وقُصَارَاهُ الدَّلاَلَةُ عَلَى أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ هَيْئَةٌ فَاضِلَةٌ، … فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عَادَةً عِنْدَهُمْ تَوَهَّمُوهُ مِنَ الدِّينِ وتَعَجَّبُوا مِنْ مُخَالَفَةِ المُسْلِمِينَ في ذَلِكَ<التحرير والتنوير 2/8،9،10،32].

وبِالإضَافَةِ إلى كَوْنِ بَيْتِ المَقْدِسِ قَدْ بُنِيَ بَعْدَ مُوسى عليه السلام بِقُرُونٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْغَزْوِ والتَّدْمِيرِ مِرَاراً وتِكْرَاراً، فَقَدْ غَزَاهُ بُختَنْصَرُ مَلِكُ أَشُورَ ثَلاَثَ غَزَوَاتٍ، سَنَةَ 606 قبْلَ المِيلاَدِ، وسنَةَ 598 قبل الميلاد، وسنَة 578 قبل الميلاد، وفي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ يَنْهَبُ المَسْجِدَ ويُدَمِّرُهُ، ويَسْبى جَمْعاً مِن بَنِي إسْرَائِيلَ، وفي السَّبْي الثَّالِثِ أَحْرَقَ المَسْجِدَ الأَقْصَى، وجَمِيعَ المَدِينَةِ، وَسَبَى جَمِيعَ بَنِي إسْرَائِيلَ، وانْقَرَضَتْ بِذَلِكَ مَمْلَكَةُ يَهُودَا، وفي سنَة 79 قبل الميلاد غَزَاهُ طِيطَس الرُّومَانِيُّ الذِي أَحْرَقَ التَّوْرَاةَ، وخَرَّبَ بَيْتَ المَقْدِسَ، حَيْثُ بَقِيَ مُنْذُ ذَلِكَ التَّارِيخِ مُخَرَّباً إلى أَنْ بَنَاهُ المُسْلِمُونَ. انظر التحرير والتنوير 1/679 والجامع لأحكام القرآن 2/77 وغيرهما].

أَمَّا بالنِّسْبَةِ للَنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقَعْ في إنْجِيلِهِمْ تَغْيِيرٌ لِمَا كَان علَيْهِ اليَهُودُ، ولَكِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُو الرُّومَ يَجْعَلُونَ أَبْوَابَ هَيَاكِلِهِمْ مُسْتَقْبِلَةً لِمَشْرِقِ الشَّمْسِ، بِحَيْثُ تَدْخُلُ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا مِن بَابِ الهَيْكَلِ، وَتَقَعُ على الصَّنَمِ “صَاحِبِ الهَيْكَلِ” المَوْضُوعِ في مُنْتَهَى الهَيْكَلِ، عَكَسُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا أَبْوَابَ الكَنَائِسِ إلى الغَرْبِ، وبِذَلِكَ يَكُونُ المَذْبَحُ إلى الغَرْبِ والمُصَلُّونَ مُسْتَقْبِلِينَ الشَّرْقَ، وذَكَرَ الخَفَاجِي أَنَّ بُولْس هُوَ الذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ. فهَذِهِ حَالَةُ النَّصَارَى في وَقْتِ نُزُولِ الآيَةِ، وإِنْ كَانُوا تَرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَاخْتَلَفَتْ مَذَابِحُهُمْ واتِّجَاهَاتُ كَنَائِسِهِمْ. انظر التحرير والتنوير 2/10].

2) المعنى :

ّيُسْتَنْبَطُ مَن مُخْتَلَفِ الرِّوَايَاتِ المُتَعَلِّقَةِ بِمَوْضُوعِ القِبْلَةِ، أَنَّ المُسْلِمِينَ في مَكَّةَ كَانُوا يَتَوَجَّهُونَ إلى الكَعْبَةِ مُنْذُ أَنْ فُرِضَتِ الصَّلاَةُ -ولَيْسَ في هَذاَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ- وأَنَّهُمْ بَعْدَ الهِجْرَةِ وُجِّهُوا إلى بَيْتِ المَقْدِسِ بِأَمْرٍ إِلَهِيٍّ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم- يُرَجَّحُ أَنَّهُ أَمْرٌ غَيْرُ قُرْآنِيٍّ -ثُمَّ جَاءَ الأَمْرُ القُرْآنِيُّ الأَخِيرُ >فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ< فنَسَخَ الأَمْرَ الأَوَّلَ. انظر الظلال 1/125]

وإِذَا كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَطَاعَ -بَعْدَ الهِجْرَةِ- أَمْرَ رَبِّهِ في التَّوْجُّهِ لِبَيْتِ المَقْدِسِ، وتَبِعَهُ المُسْلِمُونَ رَاضِينَ بِمَا اخْتَارَهُ الله تعالى قِبْلَةً ومُتَّجَهاً، فَإِنَّ الرَّسُولَ والمُسْلِمِينَ بَقُوا دَائِماً رَاغِبِينَ في التَّوَجُّهِ لِلْبَيْتِ الحَرَامِ، رَغْبَةً شُعُورِيَّةً دَفِينَةً، لاَيُفْصِحُونَ عَنْهَا، تَأَدُّباً مَعَ الله تعالى في تَنْفِيذِ الأَوَامِرِ، وَمُمَارَسَةِ الطَّاعَاتِ، يَدُلُّ على هذِهِ الرَّغْبَةِ الصَّامِتَةِ غَيْر المُفْصَحِ عَنْهَا >فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا< إذْ يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ كَانَ طَاعَةً وامْتِثَالاً صَادِقاً، وإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ رِضَا واطْمِئْنَانٍ، ولِهَذَا كَانَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم يُقَلِّبُ وَجْهَهُ في السَّمَاءِ، بِدُونِ أَنْ يُفْصِحَ عَنْ حُبِّ المُوَافَقَةِ لإِبْرَاهِيمَ، وحُبِّ المُخَالَفَةِ لِلْيَهُودِ. ويَدُلُّ على ذَلِكَ الحَدِيثُ الذِي رواه البُخاري عَن البَرّاء >أَنَّ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم صلًّى إلى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وكَانَ يُعْجِبُهُ أن تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ…< وعلى هذَا يَكُونُ المَعْنَى :

يُعْلِمُ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ وَهُوَ يُقَلٍّبُ وَجْهَهُ انْتِظَاراً لِوَحْيٍ يُؤْمَرُ فِيهِ بِاسْتِقْبَالِ الكَعْبَةِ بَدَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، إِذْ هِيَ أَوَّلُ قِبْلَةٍ وأَفْضَلُهَا، فَبِنَاءً على ذَلِكَ >فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ< واجْعَلْهُ مِنَ الآنَ فَصَاعِداً قِبْلَةً لَكَ ولأُمَّتِكَ إلى يَوْمِ الدِّينِ، بِحَيْثُ عَلى المُسْلِمِينَ جَمِيعاً أًنْ يَتَّجِهُوا إِلَيْهِ في صَلَوَاتِهِمْ، في أَيِّ زَمَانٍ أوْ مَكَانٍ كَانُوا، قِبْلَةٌ وَاحِدَةٌ تَجْمَعُ هَذِهِ الأُمَّةَ وتُوَحِّدُ بَيْنَهَا عَلَى اخْتِلاِفِ مَوَاطِنِهَا ومَوَاقِعِهَا، وأَجْنَاسِهَا وأَلْوَانِهَا.

وأَهْلُ الكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ هُوَ بَيْتُ اللَّهِ الأَوَّلُ الذِي رَفَعَ قَوَاعِدَهُ إبْراهِيمُ وإسْماعِيلُ، ويَعْلَمُونَ أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ حَقٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ لاَشَكَّ فِيهِ، ولَكِنَّهُمْ مَعَ هَذَا العِلْمِ سَيُكَابِرُونَ في الحَقِّ ويُعَانِدُونَ، فَلاَ تَهْتَمَّ أَنْتَ ولاَ المُسْلِمُونَ بِشَأْنِهِمْ، فَاللَّهُ تعالى هُوَ الكَفِىلُ بِرَدِّ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ >وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ<

في الحلقة المقبلة : الحكمة من تحويل القبلة والمستفادات من الآية

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>