إن من يقوم بعملية استقرائية لمجريات الأحداث في العالم العربي، منذ أن زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي، وما حبلت به من مكائد ومؤامرات، وما تأسس في خضمها من مفاهيم وأطروحات، ونسج عبر مساربها من تحالفات وعلاقات، وما انتهت إليه على المستوى النفسي والحضاري من مشاعر ومواقف وسلوكات، يتأكد لديه بأن ذلك السيل من الأحداث والتفاعلات، كان يهدف وفق خطة مدروسة وبعيدة المدى إلى أن ينسج في نفوس الناس ويزرع في عقولهم فكرة “إسرائيل المقدسة” و”إسرائيل التي لا تقهر”! ولئن كانت هذه الخطة قد أصيبت برجة خلال معركة رمضان 1391 (أكتوبر 1973) بعد تحطيم “خط بارليف” أو بالأحرى “جدار بارليف” بالتعبير القرآني، فإن الأيادي الشيطانية سرعان ما تحركت لتوقف الزحف العربي الذي استلهم نفحات شهر الصبر والجهاد، وتعوقه عن الوصول إلى منتهاه، بل لتحول الانتصار الظافر والفتح المبين إلى حصار مشين، ولتؤدب بعد ذلك قادته وأبطاله المخلصين الذين كان لهم فضل إزالة آثار هزيمة، أو بالأحرى فضيحة يونيو 1967 والإعفاء على ظلالها القاتمة. ومن يومها والأحداث توجه والمواقف تشكل لتصب كلها في مجرى الواد الحار الذي يسقي فكرة “إسرائيل المقدسة”، فكان أن فتحت أبواب اصطبل داود (كامب ديفيد) على مصاريعها ليلجها السادات آيبا تائبا مما اقترفت يداه في جنب “إسرائيل المقدسة”، فكانت زيارته الجريئة لإسرائىل صدمة قوية صعق لها العالم العربي وضجت لها شعوبه وعمها الذهول، فوجد كل ذلك ترجمته وتعبيره في تحرك جامعة الدول العربية، التي أبت أن تظل رابضة على تراب بلد خان زعيمه العرب وتنكر لآمالهم وجرح كبرياءهم، فكان أن نقلت إلى تونس “الخضراء” لتتنفس الصعداء، ولتنعم بجوار “المجاهد الأكبر”، فكان أن أثمر تحرك الجامعة الغاضب قطع الدول المنضوية تحت لوائها لعلاقاتها مع النظام المصري الذي أصبح يومها ملوما محسورا، مهجورا من العرب، محبوبا مرضيا من أمريكا وإسرائيل.
ولم يكن هناك بد من ذلك الغضب ولو على سبيل التظاهر والاصطناع، لأن ما حصل يكاد يكون طفرة بغير إرهاص. وقدٍ احتاج الأمر إلى مدة زمنية كافية لتدرك الدول العربية الغاضبة أنها كانت “خاطئة وحالمة” في نفس الوقت، بعد أن داخلها الإحساس بأن السادات قد قدم روحه قربانا للسلام لتذوب على دمائها الفوارة جبال الجليد التي فصلت بين العرب و”أبناء عمومتهم” اليهود. وهكذا عادت الدول العربية إلى “صوابها” فأعادت الاعتبار لنظام مصر، وأعادت شد الحبال المتينة التي تربطها بها الواحدة تلو الأخرى، لتعود المياه إلى مجاريها في اتجاه تكريس فكرة “إسرائيل المقدسة”، وتكثر الجامعة العربية من الاستغفار عن هذه الخطيئة التي سودت بها صحيفتها، وتدخل غمدها، وتجلس لتتفرج على الأحداث “راضية مرضية”، فتشهد مراسيم مؤتمر مدريد وماتلاه من محطات نصبت لذبح “قضية فلسطين” إلى مؤتمر “أوسلو” الذي أشهر فيه “عرفات” “سلام الشجعان، كيف لا وهو السلام المعقود مع من قاموا بتكسير عظام شباب فلسطين على مرأى ومسمع من العالم، ونسف البيوت على رؤوس أهلها، ولتشهد مؤتمر “شرم الشيخ” الذي حطم الرقم القياسي في سرعة الانعقاد، والذي أجمع فيه الجميع على مزيد من التصدي لخطر الأصولية والتطرف والإرهاب الذي يهدد وجود “إسرائيل”، ويهدد المدنية الغربية بالقلاقل والزلازل والانفجارات. أما التطرف اليهودي فليضرب كما يشاء وحيثما يشاء، فمجلس “الأمن” ما وجد إلا لخدمته وصد ما يمكن أن يوجه إليه من صواريخ التنديد. وحتى في حالة اتخاذ قرارات فيها مطالبة “لإسرائيل” بحد أدنى من حقوق الفلسطينيين والعرب، فإن تلك القرارات تبقى حبرا على ورق، لأن إسرائيل لا تعبأ بشيء من ذلك ولا تعيره أدنى اهتمام، فهي تعلم أن الأنظمة العربية منشغلة “بتصفية” الأجواء الثقافية والسياسية لتأصيل بذرة التطبيع وتعهدها بالسقي والتسميد بشتى الوسائل من إعلام وتعليم وغيرهما. وحتى في حالة الدول التي لا تزال لم تدخل حظيرة “سلام الشجعان” فلا أقل من لزوم حدودها وضبط أنفاسها. ولا أدل على ذلك من مجزرة العدو الصهيوني في لبنان التي وقف الجميع منها موقف المتفرج المتخاذل. أما القوى الحية التي تعانق هموم الأمة، فهي مكبلة ومحاصرة إلى حين، وطاردة بغير هوادة حتى لا تعوق حركة الهرولة وتطبيع الهرولة التي وإن انتقلت من السياسة الى الثقافة، إلاّ أن هذا الانتقال ولحسن الحظ لم يتم إلا في صفوف الشرائح والتيارات السياسية المغربة عن واقع المجتمع العربي والإسلامي بثوابته ومقوماته وهويته، الغارقة في مستنقع التبعية والاستلاب، الأمر الذي تشقى له إسرائيل، لعلمها بأن وجودها من جراء ذلك يقبع فوق بركان قابل للهيجان والانفجار في أية لحظة من ليل أو نهار. وإلى أن يقع وعد الله بعد استكمال السنن واستيفاء العرب المسلمين لشروط الاستخلاف، فإن الأجواء الطاغية، ولو على سطح المناخ الثقافي والسياسي تذهب إلى تكريس فكرة “إسرائيل المقدسة”، فالكل يهرول نحو إسرائيل على مختلف المستويات بدون أدنى خجل، بل وبصفاقة وتحد أحيانا كثيرة.
وإنه لمن غريب المفارقات أن تتحول الأوضاع في العالم العربي بهذه الوتيرة السريعة. فبدلا من مقولة الصراع العربي الإسرائيلي على زيفها، أصبحنا أمام مقولة التطبيع السياسي والثقافي، ومشروع السوق الشرق أوسطية بديلا عن السوق العربية المشتركة كمرحلة في اتجاه السوق الإسلامية المشتركة.
وبدلا من تحرير فلسطين كل فلسطين بالكلمة الأمنية المعبرة عن الطلقة الشجاعة، أصبحنا أمام مقولة “سلام الشجعان” التي تؤسس “لمشروعية” حكم ذاتي مقزم يرزح تحت قبضة اليهود ووصايتهم. لقد أصبح الكل يتقرب إلى “إسرائيل” ويخطب ودها ويخشى بطشها. وإن أخشى ما تخشاه القوى الحية في العالم الإسلامي التي تمثل نبض الأمة وقوتها الضاربة وصمام أمنها، أن تتجاوز عملية الاختراق قشرة المجتمع المدجنة إلى عقله الباطن وقطاعاته العريضة. وإن الحيلولة دون وقوع تلك الطامة، تظل رهينة بتعميق تيار الوعي الإسلامي وسط الجماهير بشتى الوسائل الممكنة إلى أن يأتي وعد الله، مصداقا لقوله تعالى : {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءُوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}(سورة الإسراء الآية 7).