وفي الطارة كفاية
الطارة كلمة في الدارجة المغربية تسربت إليها من الإسبانية وهي مايعبر عنها ب “الخاوي” أي الوعاء الخاوي حيث تكون سلعة ما : صلبة أو سائلة أو غير ذلك كالحبوب والزيت والعسل… وهذه الطَّارَة أو الخاوي قد تكون من خشب أو ورق او زنك او حديد او لدائن (ميكا) او نسيج كالخيش…
وعندما تباع وتشترى السلع توزن بالخاوي والعامَر أي بالسلعة ووعائها ويطرح وزن الطارة في المجموع لتحديد الوزن الصافي للسلعة وكان “الأمناء” أي أمناء الديوانة المغربية معروفين في وقتهم عمومابعدم محافظتهم على الأمانة الموكولة إليهم وحرصهم على تدمير الدولة بالغلول (أي اختلاس أموال الدولة) وأخذ الرشاوى من المستوردين والمصدرين مما جعل بعض الأمناء من كبار الأغنياء وخلفوا وراءهم تركات هامة ولشيوع عدم الأمانة في هذا القطاع من الموظفين الماليين اشتهرت بعض الأمثال التي ماتزال حية الى الآن منها : >دخل فارغا وخرج فارغا< أي دخل البابور (السفينة) إلى الميناء المغربي فارغا من السلع وخرج من الميناء فارغا ومعنى هذا أنه غيرمطالب بالتعشير والضرائب لأنه لم يحمل سلعة لا في الدخول ولافي الخروج وزاد بعضهم في اللصوصية إذ كتب في سجله العبارة التالية “وصُيِّرَ على برمته” أي بما أنه أصيب بعطب عندنا او بسبب رسوه في مينائنا فقد تعطلت برمته (أي حيث يكون الفحم االحجري الذي يشغل محركه) وهكذا اضطر السيد >الأمين< أن يصرف على إصلاح برمته من مال الديوانة المغربية والحقيقة أنه إمعان في الإختلاس فلم يقنع هذا الأمين بخيانته الامانة إذ سجل في سجلات الديوانة أن البابور لم يستخلص منه اي واجب للديوانة لانه لم يفرغ سلعة ولا شحن سلعة أي ليس هناك من موجب للضريبة وواضح أن البابور دخل عامرا وخرج عامرا إلا أن خزينة الدولة ظلت فارغة من حقوقها عن هذا البابور، لتمتلئ خزينة او صندوق السيد الأمين.. أمين الديوانة.
والمثل الثاني هو الذي جعلناه عنوانا لهذه البارقة وسبب وروده أن “الأمناء” او نقابتهم حرروا عريضة موقعة منهم يطالبون فيها السلطان أن يرفع نسبة حقوقهم في مداخيل الديوانة، وكان السلطان رحمه الله على علم بألاعيب الأمناء واختلاساتهم وحيلهم في الغلول ومن جملة ذلك أنهم يزيدون في وزن الطارة على سجلاتهم فبدلا أن تكون الطارة أو الخاوي مثلا طنّاً فإنهم يكتبون ثلاثة أطنان أو أربعة أو أكثر. ومازاد على الوزن الحقيقي يحولونه إلى جيوبهم…
فلما قرأ السلطان مطالب الأمناء والتماسهم زيادة النسبة في حصتهم نظراً لصعوبة المعيشة وارتفاع الأسعار وكثرة أشغالهم إلى غير ذلك من الجهود الجبارة التي يبذلونها… ووقع أسفل العريضة بالعبارة التالية : >في الطارة كفاية< أي فيما يختلسونه ويأخذونه من زيادة أوزان الطارة ما يكفيهم ويزيد على حاجاتهم ويفوق نسبة ما يطلبونه..
ويبدو أن هذا التوقيع يجب أن يرفع من جديد ويرسل إلى أولئك الذين يختلسون من الطارة في مجالات عدة إلى أولئك الغالين الذين يأكلون أموال الدولة وأموال الناس بالباطل أولئك الذين يدمرون موارد الدولة ومالياتها وميزانياتها في عدة مشارع ومؤسسات أولئك الذين يأكلون في بطونهم ناراً، ففي الطارة كفاية.
إذ ليسوا في حاجة للزيادة في أجورهم وتعويضاتهم وامتيازاتهم الكثيرة والمتتالية وحتى تقاعدهم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”.
فهؤلاء لا يُشبعُهم الخاوي ولا العامر لأن جوفهم دائماً واسع وعميق لا قرار له ولاحدود له وكلما زاد التهاما اشتد جوعه وتعاظمت حاجته للمال حتي يدفن في التراب فيمتلأ جوفه بحفنات صغيرة من التراب إذ لا يُشبع التراب إلا بالتراب ورحم الله السلطان الذي خلد هذا التصرف المشين بقوله الحكيم : وفي الطارة كفاية.