لا تحالف إلا ضد المسلمين
سياسة المحاور داخل حلف شمال الأطلسي نبيل شبيب
هل استطاع حلف شمال الأطلسي إيجاد صيغة جديدة يتجاوز بها التناقضات المتنامية بين الأوروبيين والأمريكيين؟.. هل تخلص من وصفه >نمرأ من ورق< بعد عجزه أو امتناعه عن التصرف في البلقان والقوقاز؟..ماهي المهمات البديلة التي يبرر بها وجوده بعد زوال الخطر العسكري الشيوعي؟..
هذه الأسئلة الملحة منذ ظهور البوادر الأولى لزوال ازمة الشرق والغرب، لاتزال محور الاهتمام إلى الآن، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على طرحها العلني في أجهزة الحلف وعواصم الدول الأعضاء فيه، وقد انقضى مؤتمر وزراء الدفاع الأخير للحلف في بلدة >ترافيموندي< الألمانية، دون التوصل إلى أجوبة نهائية، فالمطروح يكرر أفكاراً قديمة، رغم أن القمة الأطلسية في روما قبل عامين أصدرت ما اعتبر في حينه >صيغة عامة جديدة ومهام جديدة< للحلف، ويبدو أن الاجتماع الدوري القادم لوزراء الخارجية والدفاع في نهاية العام الميلادي الجاري (1993)، سيناقش أيضاً >صيغة عامة جديدة ومهام جديدة< ليتقرر أمرها في القمة الأطلسية المقبلة يوم 10\1\94م.
تأجيل التوسع شرقاً :
كان في مقدمة ماتركز الاهتمام عليه من نتائج الاجتماع الأخير لوزراء دفاع الحلف، ما اعتبر >صيغة اتفاق مبدئية< بصدد توسع الحلف شرقاً. والواقع أن ما وصل إليه الاجتماع أقرب إلى > الصيغة التوفيقية< بين عدة تصورات ومصالح أمنية متنافرة إلى درجة التعارض ، وليست مختلفة متباينة فقط، وصدرت التصريحات الرسمية بالعزم على عقد معاهدات مع الدول الراغبة في الانضمام من وسط أوروبا وشرقها، ويختلف مستواها على حسب مجالات التعاون المطلوبة، واستخدم في وصف هذا الاتجاه مصطلح جديد هو >زمالة السلام< ويراد أن تقرر كل معاهدة حجم التعاون ونوعيته بين الحلف كجهاز، والدولة المعنية على حدة، فيما يمكن أن يشمل قضايا التسلح والتدريب وإمكانات التشاور في مواجهة النزاعات موضع الاهتمام المشترك، أو مواجهة >الكوارث الطبيعية<.. ويمكن أن يصل ذلك ـ بل سيكون ذلك شرطاً من الشروط قطعاً ـ إلى مستوى رقابة تصدير الأسلحة المتطورة إلى بلدان معينة في الجنوب، لا سيما الإسلامية منها.. ولكن المرفوض رسمياً، والذي جرى التأكيد على أن >المعاهدات لا تمثل مقدمة لتحقيقه<، هو حصول دولة من دول شرق أوروبا ووسطها على >ضمانات لأمنها، أو تعهدات بشأن الدفاع المشترك، أو العضوية الرسمية في الحلف<، وبتعبير آخر، المرفوض هو ـ بالذات ـ ما كانت تريده تلك الدول وتشعر بالحاجة إليه، وأقصى ما توصل إليه أنصار توسيع الحلف شرقاً، هو عدم اعتبار المعاهدات المراد عقدها بديلاً عن احتمال الانضمام..في المستقبل، والحصيلة هي تأجيل “البت” في طلبات الانضمام إلى أجل غير مسمى.
ويصر أنصار توسيع الحلف على اعتبار النتيجة >تفتح الأبوات في المستقبل<.. بينما يكمن وراءها حجم التبدل الحاصل على الخارطة الأمنية في أوروبا، ومن المعروف أن طلبات الانضمام قديمة، صدرت عن دول مثل ألبانيا بسبب الأزمة في البلقان، أو رومانيا ودول البلطيق بسبب المخاوف من روسيا.. ولكنها مطروحة الآن بصورة خاصة في نطاق العمل على دمج بولندا وتشيكيا والمجر وسلوفاكيا في الكيان الأوروبي عامة، وهنا تتباين المواقف داخل الحلف الغربي، وتكشف أن الرفض موجه للسياسة الألمانية أولاً.. فألمانيا هي التي بذلت جهوداً كبرى لربط البلدان المذكورة بها اقتصادياً، وسياسياً، وأمنياً أيضاً، حتى أصبحت بمثابة >منطقة النفوذ الألمانية< شرق الرابطة الأوروبية إلى حدود روسيا وأوكرانيا، علاوة على المرتكزات الألمانية الإضافية في كرواتيا وسلوفينيا في البلقان، ودول البلطيق في الشمال، ووصل التعاون إلى مستوى المعاهدات العسكرية التي بدأ تنفيذها بالفعل، وتشمل توريد السلاح وتصنيعه والتدريب عليه والمناورات المشتركة، وحتى >سياسة التوعية العسكرية<، والدول الأربعة المذكورة مرشحة أيضاً ـ وبدعم ألماني كبير ـ للانضمام إلى الرابطة الأوروبية، عقب ضم كل من النمسا والنرويج وفنلندا والسويد، المتوقع أن يتم خلال عامين.
لقد تحول وسط أوروبا واقعياً إلى محور جديد مركزه ألمانيا، وهذا ما يفسر المعارضة الأمريكية والفرنسية في وقت واحد ـ ورغم الاختلاف الجذري بينهما على صعيد السياسة الأمنية ـ لطلبات الانضمام التي تبنتها ألمانيا داخل اجتماع وزراء الدفاع الأخير، ووجدت الدعم من جانب بلجيكا وهولندا والنرويج فقط.
وكانت الدول التي أفلتت من القبضة الروسية بسقوط الاتحاد السوفياتي، قد لجأت على الفور إلى المنظمات الباقية على الساحة، حلف شمال الأطلسي والرابطة الأوروبية والاتحاد الأوروبي الغربي ومؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا.. ووجدت الرفض على الصعيد الأمني قبل عامين كما وجدته الآن، وفي الوقت نفسه تنامت مخاوفها من أن تتحول روسيا بعد استعادة هيمنتها وسط آسيا، نحو شرق أوروبا من جديد، وساهم في هذه المخاوف دور روسيا في البلقان، وعدم وجود >رد غربي< عليه، بل تلاقي المصالح الروسية والفرنسية والبريطانية إلى جانب صربيا بصورة كاملة.. فما الذي يمنع من التقاء مصالح مشابهة في صراعات أخرى قد تندلع ما بين المجر وسلوفاكيا، أو المجر وصربيا، فضلاً عما يمكن أن يندلع من أزمات مع روسيا نفسها؟..
لقد وجدت الدول المعنية نفسها بذلك مضطرة إلى مزيد من التقارب مع >أعداء الأمس< من الألمان، بينما كانت ألمانيا تتحرك وفق مصالحها الذاتية بطبيعة الحال، مع حذر واضح، جعلها تعارض التميز الأوروبي الأمني المطلق كما أرادته فرنسا، ولكن لا تمتنع عن الإسهام في تكوين نواته الأولى وتنميتها من خلال إحياء منظمة الاتحاد الأوروبي الغربي، وتشكيل قوة عسكرية أوروبية مشتركة، ويمكن رؤية الأهداف الألمانية على المدى البعيد، في الحرص ـ أولاً ـ على عدم الحسار الوجود الأمريكي سريعاً عن القارة الأوروبية مادام البديل هو الزعامة السياسية الفرنسية أو حتى الفرنسية ـ البريطانية المشتركة، وهذا ما يتمثل في التمسك بحلف شمال الأطلسي بحدود معينة..إلى جانب الحرص ـ ثانياً ـ على إيجاد قاعدة سياسية وأمنية في أوروبا للنفوذ الاقتصادي الألماني، قبل أن تكتمل الجهود المبذولة لتوحيد الرابطة الأوروبية وتوسيعها شرقاً مع زيادة تميزها السياسي والأمني، وهذا ما يتلاقى مع دعم انضمام دول وسط أوروبا وشرقها إلى الرابطة والحلف.
البلقان.. كبش الفداء؟ :
كان هذا المنطلق أحد أسباب التناقض بين ألمانيا من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى في الموقف من أحداث البلقان في فترة الحرب الكرواتية ـ الصربية، وقبل أن تلتقي مصالحها جميعاً ـ بالإضافة إلى روسيا ـ على ما يجري في الوقت الحاضر على حساب المسلمين في المنطقة، وهذا مايفسر أيضاً أن الحرب الدائرة على أرض أوروبية كانت على هامش اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي الأخير، واكتفى المجتمعون بموقف يمثل محاولة >دفع المسؤولية< وإلقائها علي كاهل مجلس الأمن الدولي في نيويورك، في تجاهل يثير سخرية مريرة من جانب كثير من المحللين الإعلاميين، لحقيقة أن أصحاب القرار هنا هم أصحاب القرار هناك، وقد أعرب الحلف عن الانزعاج تجاه الأمم المتحدة، والإعلان أنه >لن يقبل مهمة تكلفه بها إلا بشرط تخويله باتخاذ القرار حول حجم التدخل ونوعيته وقيادة العمليات العسكرية المرتبطة به<… وصرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ما نفريد ورنر” أمام الصحفيين بأن قوات الحلف العسكرية جاهزة وتستطيع القيام بغارات جوية فعالة ضد المواقع الصربية في أي وقت.. ويبدو أنه أحس بما تعنيه نظرات الصحفيين فأضاف يقول : >هذا صحيح.. وأنا جاد فيما
7 أقول.. صدقوني<!!
وعدد الحلف عدداً من >النوايا المستقبلية< بشأن سرعة التدخل قبل فوات الأوان، وعدم تعريض الجنود للخطر عند القيام بمهام إنسانية، وغير ذلك.. مما يدرجه المسؤولون تحت عنوان >دروس< من البلقان، ولكن كان واضحاً أن ما يجري الآن لن يجد أي جهد أو تحرك من جانب >التحالف العسكري الدولي< الوحيد في الساحة العالمية، مما لا يطرح السؤال حول القدرة أو العجز، وحول التأخر في التصرف أو الجهل بأبعاد ما يجري، كما لا يطرح السؤال عن تصادم الصلاحيات أو تداخلها مع الأمم المتحدة، وإنما يزول الغموض حول سائر هذه الأسئلة وأمثالها عند طرح السؤال البديل : أليس ما يجري هو ما يريده حلف شمال الأطلسي بغالبية دوله إن لم يكن جميعها؟..
اصطناع الخطر والعدو :
كانت أحداث البلقان أيضاً أحد الشواهد على ضياع قيمة ما سبق طرحه في روما من تصورات عن >مصادر خطر بديلة محتملة< بعد انهيار المعسكر الشرقي، فقد كان على رأسها >النزاعات القومية والدينية المحتملة في المنطقة التي كانت تحت سيطرة الشيوعية<، والواقع أن سائر ما طرح أنذاك كان ما بين الوهمي أو المضخم، وكان ـ على جميع الأحوال ـ لا يستدعي بقاء حلف عسكري مجهز بأسلحة تكفي لدمار المعمورة مرات عديدة وأقرب التفسيرات إلى الصحة ما يؤكد على ألسنة خبراء أوروبيين، أن الولايات المتحدة الأمريكية أرادت الحفاظ على الحلف باعتباره منفذها إلى المشاركة في صنع القرار السياسي على أرض أوروبا، فحشدت جملة من التصورات وحاولت إقناع الأوروبيين بأن عليهم الاستعداد لمصادر خطر مستقبلية، ولم تكن في حاجة إلى إقناعهم بذلك، فالتصورات مشتركة، إنما لا تستدعي بقاء الحلف من أجلها، وهذا ما يسري على ماسمي >خطر الأصولية الإسلامية< أو >الإرهاب الدولي< وهو ما تتحرك الدول الغربية ـ وروسيا ـ على صعيده بوجود الحلف ودون وجوده، وعبر الأمم المتحدة وخارج إطارها، في نطاق مواجهة حضارية وليس مواجهة >أخطار أمنية< وقد ترك ذلك آثاره المرئية ما بين طاجكستان والشمال الإفريقي كما هو معروف.
على أن الجانب الحقيقي الذي يعطيه حلف شمال الأطلسي الأولوية الكبرى وانعكس في اجتماع وزراء الدفاع الأخير بوضوح، هو ما نسميه >احتكار التسلح المتطور< تحت عنوان >حظر انتشار أسلحة الدمار الجماعي والتقنية المتعلقة بها<، وكان معظم ما أجراه الحلف أو الدول الأعضاء فيه من اتصالات، أو عروض للتعاون، ينصب في النهاية على هذه النقطة، سواء في الدول المستقلة وسط آسيا، أو في العلاقات مع روسيا وأوكرانيا، أوفي المشاريع العديدة المعروضة على مستوى الأمم المتحدة.
وفي هذا القطاع بالذات امتنع المسؤولون عقب الاجتماع في >ترافيموندي< عن ذكر تفاصيل عما تم الاتفاق عليه، باستثناء القول بالعمل على وضع صيغة جديدة لتطوير وسائل الحلف وأساليبه في منع انتشار الأسلحة المتطورة، بعد أن >ثبت عدم كفاية ما يوجد في إجراءات للرقابة الدولية على هذا الصعيد<. إن حلف شمال الأطلسي سيبقى في المستقبل المنظور حلفاً عسكرياً دون مهمة عسكرية بمعنى الكلمة التقليدي، ولكنه سيتحول إلى جهاز من الأجهزة الأمنية والسياسية الهادفة إلى الانتقال بمنطقة الشمال ـ رغم تعدد المحاور فيها ـ إلى تحقيق هدف رئيسي مشترك في المرحلة المقبلة، يمكن اعتباره نقلة رئيسية في نوعية العلاقات الدولية كما تفرضها القوى المسيطرة عالمياً في الوقت الحاضر.. فبعد تثبيت التفوق النوعي على كل صعيد، من خلال حقبة الاستعمار السياسي والعسكري والاقتصادي الماضية تجاه الجنوب ولاسيما المنطقة الاسلامية منه، ستتجه الجهود في الحقبة المقبلة نحو الحيلولة دون توفير أسباب التقدم، بما في ذلك المجال الاقتصادي المحض، بمختلف الوسائل، ومنها احتكار التقنية الحديثة تحت عنوان يوجد القوة المطلوبة إذا توفرت لذلك الصيغة الحضارية التي بدأت معالمها بالظهور في المنطقة الإسلامية على وجه التخصيص.
وليس السؤال الأهم : هل ستتمكن القوى الدولية ـ والحلف أداة من أدواتها فحسب ـ من تحقيق هذا الهدف؟ وإنما الأهم من ذلك السؤال : هل من جواب على ذلك من جانب المجموعة الإسلامية المعنية أكثر من سواها بالتطورات الدولية الجارية؟.. قضايا دولية عدد200/1993