مع كتاب الله عزوجل
القبلة تجسيد لشخصية الأمة الوارثة للملة الحنيفية (2)
> ذ. المفضل فلواتي
قال الله عزوجل :
>قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ<سورة البقرة 144].
3) الحكمة من تحويل القبلة :
بالنِّسْبَةِ للِتَّحَوُّلِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ تَتَجَلَى -والله أعلم- حِكْمَتَهُ فِيمَا يَلِي :
أ- إِعْطَاءُ دَرْسٍ للْمُشْرِكِينَ المُكَابِرِينَ مِن قُرَيَشٍ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الكَعْبَةَ مُجَرَّدُ رَمْزٍ، واللَّهُ تَعَالَى لَهُ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ، وَلاَ أَحَدً يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى جِهَةً مُعَيَّنَةً يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِمْ لَهُ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَه الفَاعِلُ المُخْتَارُ الذِى لَهُ الحَقُّ وَحْدَهُ فِي أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ وَلَيْسَ على النَّاسِ إِلاَّ السَّمْعُ والطَّاعَةُ إِنْ أَرَادُوا الخَيْرَ لأَنْفُسِهِمْ.
فَلَوْ اسْتَقْبَلَ الرَّسُولُ مَكَةَ -بَعْدَ الهِجْرَةِ مُبَاشَرَةً- لَشَمَخَ كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ بِأُنُوفِهِمْ، وَقَالُوا : هَذَا بَلَدُنَا، ونَحْنُ أَهْلَهُ، واسْتِقْبَالُهُ حِنِينٌ وَنَدَامَةٌ عَلَى الهِجْرَةِ مِنْهُ.
ب- تَرْبِيَةُ المُسْلِمِينَ على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، والسُّخْطِ والرِّضَا، وفي كُلِّ ذَلِكَ تَخْلِيصٌ للْمُومِنِينَ من كُلِّ ارْتِبَاطٍ بِغَيْرِ اللَّهِ تعالى، فَلاَ ارْتِبَاطَ بِالكَعْبَةِ عُنْوَانِ مَجْدِ العَرَبِ القَوْمِيِّ، ولاَ ارْتِبَاطَ بِالنَّعَرَاتِ والعَصَبِيَّاتِ، بَلْ الإِرْتِبَاطُ كُلُّهُ بِاللَّهِ تعالى الذِي يَعْلَمُ مَصْلَحَةَ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيَّةِ، وَهَكَذَا كَانَ التّحَوُّلُ تَعْلِيماً وإِشْعَاراً للْمُومِنِينَ بِأَنَّ أَمْرَ اللهِ لَيْسَ خَاضِعاً للِرَّغَبَاتِ والأَهْوَاءِ، بَلْ المُومِنُ هُو الذِي يَنْبَغِي أَنْ يُكَيِّفَ رِضَاهُ حَسَبَ أَمْرِ اللَّهِ تعالى وَتَشْرِيعِهِ.
ح- تَألِيفُ قُلوبِ أَهْلِ الكِتَابِ مِنَ اليَهُودِ الذِينَ كَانُوا يُكَوِّنُونَ مُعْظَمَ سُكَّانِ المَدِينَةِ، حَتَّى تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ النَّاسِ جَمِيعاً على الدِّينِ.
د- كَشْفُ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ الذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ فَاتَّبَعُوهُ.
هـ- كَشْفُ المُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَمَنْ قَلَّدَهُمْ بالتَّبَعِ، وَسَارَ على دَرْبِهِمْ، لأَنَّ التَّحَوُّلَ إلى الكَعْبَةِ بَعْدَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سَيُعْطِيهِمْ الفُرْصَةَ للِطَّعْنِ في النُّبُوَّةِ، والدِّينِ، وبِذَلِكَ يَنْكَشِفُ المَسْتُورُ وَالمَخْبُوءُ مِن الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ وصدق الله العظيم إذ يقول : > وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ التِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ<سورة البقرة 134].
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ للِتَّحَوُّلِ للْكَعْبَةِ فحِكْمَتُهُ -والله أعلم- تَتَجَلَّى فِيمَا يَلِي :
أ- إِعْطَاءُ دَرْسٍ لأَهْلِ الكِتَابِ مِنَ الكِتَابِ من اليَهُودِ الذِينَ أَخَذُوا يَزْهُونَ عَلَى النَّبِيِّ، وَعَلَى المُسْلِمِينَ بِأَنَّ اتِّجَاهَهُمْ إلى قِبْلَتِهِمْ هُوَ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِأَنّهُمْ عَلَى الهُدَى، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ والمُسْلِمِينَ إِنَّمَا يَقْتَبِسُونَ الهُدَى مِنْهُمْ، وبِأَنَّهُمْ أَوْلَى أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ لاَ العَكْسُ. ولاَ يَخْفَى مَا في هَذِهِ الدِّعَايَةِ مِنْ انْهِزَامٍ نَفْسِيٍّ عَمِيقٍ، لَهُ أَثَرُهُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ والمُسْلِمِينَ. فَفِي التَّحَوُّلِ قَضَاءٌ عَلَى الزَّعَامَةِ الفِكْرِيَّةِ، والإِمَامَةِ الدِّينِيَّةِ، المُحْتَكَرَةِ بِدُونِ حَقٍّ لَدَى السُّفَهَاءِ الذِينَ حَرَّفُوا شَرْعَ اللَّهِ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِ وَعَانَدُوا نَبِيَّهُ.
ب- تَسْلِيَّةُ النَّبِيِّ، وَطَمْأَنَةُ المُسْلِمِينَ، بِأَنَّ التَّوَجُّهُ إِلَى الكَعْبَةِ هُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الذِّي كَانَ عَلَيْهِ ابْرَاهِيمُ عليه السلام، وهُوَ الذِّي هَدَى اللهُ تعالى إِلَيْهِ هذِهِ الأُمَّةَ، وَضَلَّ عَنْهُ المَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ وَالضَّالُّونَ، أَمَّا التَّوَجُّهُ لِبَيْتِ المَقْدِسِ فَقَدْ كَانَ حَقًّا مَحْدُودًا بِمَرْحَلَةٍ دَعَوِيَّةٍ، وأَهْدَافٍ تَرْبَوِيَّةٍ ولِمَصْلَحَةٍ عَارِضَةٍ وَبَعْدَمَا اسْتَنْفَذَتْ تِلْكَ المَرْحَلَةُ أَغْرَاضَهَا آنَ الأَوَانُ لإِسْتِقْلاَلِ الشَّخْصِيَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ وتَمَيُّزِهَا عَن غَيْرِهَا بِالحَقِّ في القِبْلَةِ وفي غَيْرِهَا، لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَمَامَ كُلِّ مُرَوِّجٍ للِشُّبَهِ حَوْلَ المُتَّجَهِ الصَّحِيحِ أَيْنَ هُوَ؟! وَحَوْلَ صِحَةِ الصَّلاَةِ إِلَيْهِ؟! إلى غير ذَلِكَ من الدَّسِّ والكَيْدِ، لِكَيْ تَسْتَعِدَّ الأُمَّةُ الوَارِثَةُ لِلمِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ لِتَأَدِيَةِ دَوْرِهَا في القِيَّادَةِ والرِّيَادَةِ، بِدُونِ إِلْتِفَاتِ إلى حَسَدِ الحَاسِدِينَ > عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : -يَعْنِي أَهْلَ الكِتَابِ- إِنَّهُمْ لاَيَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الجُمُعَةِ، التي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وعَلَى القِبْلَةِ التي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا، وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِين<رواه الإمام أحمد، مختصر ابن كثير 1/136]
ح- التحويلُ للكَعْبَةِ أَدْعَى إلى إيمانِ العرَبِ حُصُوصًا وَأَنَّهُمْ المُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ في الرِّسَالَةِ أَوَّلاً.
د- بِمَا أَنَّ الأَدْيَانَ السَّابِقَةِ لاَتُوجَدُ في أُصُولِهَا وِجْهَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَشْرُوطَةٌ في العِبَادَةِ، فَقَدْ كَانَ مِنْ خَصَائِصِ الشَّرِيعَةِ الخَاتِمَةِ إِلْزَامُ أَتْبَاعِهَا بِقِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الصَّلاَةِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِن أَنْوَاعِ إِكْمَالِ الدِّينِ الذِي امْتَنَّ اللَّهُ تعالى بِه عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ >اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ<.
هـ- البِشَارَةُ للِنَّبِيِّ والمُسْلِمِينَ بِأَنَّ أَمْرَ قُرَيْشٍ قَدْ أَشْرَفَ على الإِنْتِهَاءِ والزَّوَالِ، لأَنَّ التَّمَيُّزَ بِالقِبْلَةِ، وَبِرَمَضَانَ الذِي صَامَهُ المُسْلِمُونَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ للْهِجْرَةِ -بَعْدَ أَنْ صَامُوا عَاشُورَاءَ معَ اليَهُودِ- يُشْعِرُ بِأَنَّ يَوْمَ إِحْقَاقِ الحَقِّ للِتَّمَيُّزِ عَلَى أَرْضِ الوَاقِعِ قَدْ حَانَ زَمَانُهُ، وَفِعْلاً وَقَعَ الفَصْلُ في بَدْرٍ بَعْدَ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ بَشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ.
4) مما يستفاد من الآية :
1- في الآية دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِي أَحْكَامِ اللهِ تعالى وكِتَابِهِ نَاسِخاً ومَنْسُوخاً، والقِبْلَةُ أَوَّلُ مَا نُسِخَ.
2- وَدَلَّتْ الآيةُ أَيْضاً على جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالقُرْآنِ، لأَنَّ التَّوَجُّهَ لِبَيْتِ المَقْدِسِ سُنَّةٌ عَمَلِيَّةٌ نَسَخَهَا القُرْآنُ.
3- وَدَلَّتْ اسْتِجَابَةُ الصَّحَابَةِ لَخَبَرِ الوَاحِدِ، على جَوَازِ القَطْعِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ، لأَنَّ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ المَقْدِسِ كَانَ مَقْطُوعاً بِهِ مُتَوَاتِراً، فَتَرَكُوا المُتَوَاتِرَ بَخَبَرِ الوَاحِدِ واسْتَدَارُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ بِقُبَاءَ. يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وُلاَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،حَيْثُ كَانَ يُرْسِلُهُمْ آحَادًا لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ.
4- وفي الآيةِ أَيْضًا دَلِيلٌ على أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ مِنَ الأَحْكَامِ يَظَلُّ مُتَعَبِّداً اللَّه بِالحُكْمِ الأَوَّلِ.
5- وَإِذَا كَانَ اسْمُ “المَسْجِدِ الحَرَامِ” وَرَدَ بِعِدَّةِ مَعَانٍ، مِنْهَا : الدَّلاَلَةُ عَلَى المَسْجِدِ كُلِّهِ مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : >لاَتُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِدُ الحَرَامُ، ومَسْجِدِي هَذَا، والمَسْجِدَ الأَقْصَى<رواه البخاري ومسلم وغيرهما]، ومِنْهَا : الدَّلاَلَةُ على مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تعالى : >سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى< وَكَانَ الإِسْرَاءُ مِن مَكَّةَ… فَإِنَّ المَقْصُودَ بِهِ فِى هَذِهِ الآيةِ هُو الكَعْبَةُ -على حَسَب الجُمْهُورِ- لإسْتِفَاضَةِ الأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ بِأَنَّ القِبْلَةَ صُرِفَتْ إلى الكَعْبَةِ. وفي ذِكْرِ “المَسْجِدِ الحَرَامِ” دُونَ الكَعْبَةِ مَعَ أَنَّهَا هِي المَقْصُودَةُ إِشَارَةُ إلى أَن البَعِيدَ الذِي لاَيُعَايِنُ الكَعْبَةَ يَكْفِيهِ مُجَاذَاةُ جِهَةِ الكَعْبَةِ حِينَ الصَّلاَةِ، وهَكَذَا نَأْخُذُ من الآية أَنَّ اسْتِقْبَالَ القِبْلَةِ شَرْطٌ في صِحَّةِ الصَّلاَةِ، فَعَلَى المُصَلِّي في أَيِّ مَكَانٍ كَانَ أَنْ يَتَّجِهَ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ المُمْكِنُ المُتَيَسِّرُ للْغَائِبِ عنِ الكَعْبَةِ، ولأَنَّهُ هُوَ المَأْمُورُ بِهِ في القُرْآنِ والسُّنَّةِ، حَيْثُ قَالَ صلى الله عليه وسلم >مَابَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ قِبْلَةٌ<رواه ابن ماجه والترمذي]، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً : >البَيْتُ قِبْلَةٌ لأَهْلِ المَسْجِدِ، والمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لأَهْلِ الحَرَمِ، والحَرَمُ قِبْلَةٌ لأَهْلِ الأَرْضِ في مَشَارِقِهَا ومَغَارِبِهَا مِن أُمَّتِي<أخرجه البيهقي عن ابن عباس مرفوعا وغيره].
وإنْ كَانَ جَابِرٌ رضي الله عنه قال : >كانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ<رواه الخمسة]، فَقَدْ قال عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ رضي الله عنه : (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ القِبْلَةُ فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ -عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ- فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ للِنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَ : >فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ<)رواه الترمذي].
ومَعْنَى هَذَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ القِبْلَةِ وَاجِبٌ إِلاَّ في النَّافِلَةِ للْمُسَافِرِ وللْعَاجِزِ عن اسْتِقْبَالِهَا لِمَرَضٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ خَوْفٍ، أوْ جِهَادٍ، أوْ سَفَرٍ عَلَى طَائِرَةٍ أوْ سَفِينَةٍ أوْ قِطَارٍ، يَسِيرُ في غَيْرِ اتِّجَاهِ القِبْلَةِ، فَقِبْلَةُ مَنْ لَهُ مِثْلُ هَذِهِ الأَعْذَارِ هِيَ الإِتِّجَاهُ المُتَيَسِّرُ >لاَيُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا<سورة البقرة].
6- عن ابن عمر قال : >بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءَ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ<رواه الخمسة إلا الترمذي] وهُوَ حَدِيثٌ يُعْطِي الصُّورَةَ التِّي كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا مَعَ الدِّينِ، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ مُنَاقَشَةٍ أَوْ تَلَكُّؤٍ.
7- التَّمَيُّزُ بِالحَقِّ شَعَارُ الأُمَّةِ الإسْلاَمِيَّةِ، سَوَاءٌ في القِبْلَةِ، أو العَقِيدَةِ، أو اللِّبَاسِ، أو الأَدَبِ وَالأَخْلاَقِ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُمَيِّزَاتِ، وَمِنْ هُنَا نَجِدُ :
ü أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >لاَتُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ<أخرجه البخاري].
ü وقال صلى الله عليه وسلم أيضا : >لاَتَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا بَعْضاً<رواه ابن داود وغيره].
ü وقال أىضا : >إِنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى لاَيَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ<رواه الخمسة].
ü وقال تعالى : >يَاأَيُّهَا الذِين آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ<سورة المائدة].
ü وعن ابن عباس قال : صَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورََاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا : يَارَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ والنَّصَارَى، قال : فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ صُمْنَا اليَومَ التَّاسِعَ…< أَيْ مَع العَاشِرِ لِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الكِتَابِ الذِينَ يَصُومُونَ العَاشِرَ فَقَط..رواه مسلم وغيره].
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَ الخَصَائِصِ المُمَيِّزَةِ لِلأُمَّةِ الإسْلاَمِيَّةِ، والمُغْنِيَةِ لَهَا عَنِ الإسْتِيرَادِ.
8- إِذَا كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّوَجُهَ للْكَعْبَةِ هُوَ الحَقُّ وَمَعَ ذَلِكَ يَكْتُمُونَهُ عِنَاداً وَمُكَابَرَةً، أَفَيَحِقُّ للْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا عُلُومَ الدِّينِ مِنْ قَوْمٍ لَيْسُوا مَأْمُونِينَ على هَذَا العِلْمِ، لاَ عَمَلاً، ولاَ إِقْرَاراً. ولاَنُشْدَاناً للْحَقِّ أَيْنَمَا كَانَ بِدُونِ تَعَصُّبٍ أَوْ تَحِيُّزٍ؟! وَهَلْ يَجُوزُ للْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا تَعَالِيمَ دِينِهِمْ مِنَ المُسْتَشْرِقِينَ -يَهُوداً وَنَصَارَى ومَجُوساً، وشُيُوعِيِّينَ،…- وَهُمْ الذِينَ مَاتَخَصَّصُوا فِي دِرَاسَةِ الإِسْلاَمِ، وَتَارِيخِهِ، وأُصُولِهِ، ولُغَتِهِ، وآدَابِهِ… إِلاَّ لِتَشْوِيهِهِ، وتَشْكِيكِ المُسْلِمِينَ فِيهِ!!.
9- الإتِّجَاهُ للْقِبْلَةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ فِيهِ مَعْنًى من مَعَانِي المُشَاهَدَةِ التِي أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في الإِحْسَانِ >أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ< فَهُوَ مُعِينٌ عَلَى الخُشُوعِ في الصَّلاَةِ لاسْتِحْضَارِ جَلاَلِ اللَّهِ تعالى وعَظَمَتِهِ وَهَيْبَتِهِ وكَمَالِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الإِلْتِفَاتُ في الصَّلاَةِ مَكْرُوهاً، قال صلى الله عليه وسلم : >لاَيَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلاً عَلَى العَبْدِ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ<رواه النسائي وأبو داور]، فَالإلْتِفَاتُ يُنَافِي الخُشُوعَ، ويُقَلِّلَ الثَّوَابَ وكَمَالَ الإقْبَالِ مِن اللَّه بِالرِّضَا والرَّحْمَةِ والقَبُولِ، ذَلِكَ أَنَّ الْتِفَاتَ الجَسَدِ دَلِيلٌ على انْصِرَافِ القَلْبِ وعُزُوفُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وإِخْلاَصِ الطَّاعَةِ لَهُ فِي أَهَمِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الإسْلاَمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ في الصَّلاَةِ كَانَ أَطْوَعَ في يَدِ الشَّيْطَانِ والهَوَى في غَيْرِهَا مِنَ الأَعْمَالِ والطَّاعَاتِ والقُرُبَاتِ لِكَيْ يَجْعَلَهَا مُمْتَزِجَةً بِالشِّرْكِ والرِّيَاءِ والسُّمْعَةِ وَحُبِّ الغَلَبَةِ والظُّهُورِ والإنْتِصَارِ للِنَّفْسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْبِطٌ لِلأَعْمَالِ كُلِّهَا، وسَبَبُ الخُسْرَانِ الكَبِيرِ، فَعَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَعِيَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وخُصُوصًا العَامِلِينَ في حَقْلِ الدَّعْوَةِ، فَقَدْ كَانَ عُمَر رَضي الله عنه يَخَشَى عَلَى نَفْسِهِ النِّفَاقَ، فَفِي الصَّلاَةِ اتِّجَاهَ القِبْلَةِ دَرْسٌ عَظِيمٌ لِحَبْسِ النَّفْسِ فِي قُدْسِيَّةِ المَعْبُودِ بِحَقٍّ، وَقَطْعِ اهْتِمَامِهَا عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ لِيَكُونَ عَبْدًا للَّهِ حَقًّا ظَاهِراً وَبَاطِناً، جَاءَ في الحديث القُدْسِيِّ : > أَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَامِنْ عَبْدٍ يَعْتَصِمُ بِي دُونَ خَلْقِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِن نِيَّتِهِ، فَتَكِيدُهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضُ بِمَنْ فِيهَا، إِلاَّ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجاً، وَمَا مِن عَبْدٍ يَعْتَصِمُ بِمَخْلُوقٍ دُونِي، أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيتِهِ إِلاَّ قَطَعْتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأَسَخْتُ الهُوِيَّ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، ومَامِنْ عَبْدٍ يُطِيعُنِي إِلاَّ وأَنَا مُعْطِيهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَنِي، ومُسْتَجِيبٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَنِي، وغَافِرٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغُفِرَنِي<رواه تمام وابن عساكر والديلمي عن عبد الرحمان بن كعب عن أبيه : منهاج الصالحين 928].
10- قَرَأَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ دُعَاءَ النَّبِيَّيْنِ الكَرِيمَيْنِ >رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ< فقال : >يَاخَلِيلَ الرَّحْمَانِ، تَرْفَعُ قَوَائِمَ بَيْتِ الرَّحْمَانِ، وَأَنْتَ مُشْفِقٌ أَلاَّ يَتَقَبَّلَ مِنْكَ< وهِيَ الْتِفَاتَةٌ دَعَوِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تُشْبِهُ التَّفْسِيرَ النَّبَوِيَّ لِقَوْلِهِ تعالى : >وَالذِينَ يُوتُونَ مَاآتَواْ وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ<سورة المومنون] حيثُ سَأَلَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ هَؤُلاَءِ، هَلْ هُمْ الذِينَ يَسْرِقُونَ، ويَزْنُونَ، ويَشْرَبُونَ الخَمْرَ… ويَخَافُونَ اللَّهَ؟! فَقَالَ لَهَا : لاَ يَابِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَ الذِي يُصَلِّي ويَصُومُ، ويَتَصَدَّقُ، ويَخَاف أَلاَّ يُتَقَبَّلُ مِنْه. فَمَا أَجْدَرَ المُسْلِمَ بِالحَذَرِ حَتَّى يَبْتَعِدَ عَنِ الغُرُورِ!!.