في امتلاء الجوف بالشعر (1)
روى الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لأن يَمتلئ جوفُ أحَدِكم قيحا، خيْر له مِنْ أن يمتلئ شِعْرا))(1).
مناسبة هذا الحديث ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: ((بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْجِ(2))) إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان)) لأن يمتلئ…)) الحديث(3).
يفيد سبب الورود أن علة القول النبوي ظهور شاعر عرض للرسول ( ومن معه منشدا.
وقوله صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية: ((خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان)) يجعلنا نميل إلى أن الشاعر كان هاجيا أو قائلا شعرا مذموما)) إذ لا معنى لأن يظهر الشاعر غير ذلك ثم يحرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمه بالشيطان.
بتأمل حديث الباب سنلاحظ أمورا:
أولها أن الحديث النبوي يستعمل في شقيه معا الفعل ((يمتلئ)) مسندا إلى المضارع الدال على الاستمرارية، فالمسألة ليست مسألة امتلاء قد حدث)) بل مسألة سعي متجدد وممارسة مستمرة للامتلاء.
وثانيها أنه يركز على الجوف، فهو موضوع الفعل المستمر، وهو يبدو بناء على الملاحظة السابقة خزانا لا حدود له)) لأنه يمتلئ امتلاء مستمرا.
وثالثها أن مركز الاهتمام ليس هو الجوف، وإنما هو امتلاء الجوف.
ورابعها أن الحديث يشير إلى إمكان الامتلاء بشيئين مختلفين: بشيء مادي هو القيح، وشيء معنوي هو الشعر.
وخامسها أن الحديث النبوي يقارن بين الامتلاء بالقيح والامتلاء بالشعر.
وسادسها أنه يجعل امتلاءه قيحا خيرا له من امتلائه شعرا.
هذه إجمالا قراءة للحديث من زاوية عناصره المكونة له، فلننظر الآن إلى الحديث من زاوية أخرى.
وجّه النبي صلى الله عليه وسلم كلامه للمسلمين ((جوف أحدكم))، واختار استعمال كلمة القيح للتعبير بها عن مدى شناعة امتلاء الجوف بالشعر، وكلمة ((القيح)) كما هو ملاحظ تجعل السامع يشمئز من هذا الموقف الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوره في منتهى القبح، ومع أن تلك اللفظة كافية لجعل المسلم يشمئز من الجوف الممتلئ بالشعر، فإنه زيادة في الصرف عن ذلك جعل امتلاء الجوف بالقيح خيرا من امتلائه بالشعر.
والصورة في بعض روايات الحديث أكثر قبحا، ففي رواية مسلم: ((…قيحا حتى يريه…)) (4)، و((يريه)) من ((الوَرْي)) وهو ((داء يفسد الجوف، ومعناه قيحا يأكل جوفه ويفسده))(5)، وفي رواية الطحاوي والطبراني بسند حسن: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض خير..))(6).
ورواية مسلم تجعل القيح مرضا يحطم البناء الداخلي لجسم الإنسان، ومن ثم فالأمر لا يتعلق بامتلاء عن طريق التناول، وهذه الصورة ولا شك أشنع)) لأنها فضلا عن كونها تتضمن عناصر الصورة في رواية البخاري فهي تضيف إليها تحرك القيح نحو تخريب الجسم وإفساده.
ورواية الطحاوي والطبراني تضيف إلى ذلك أن مساحة هذا القيح تمتد من العانة إلى اللهاة، وغير خاف أن هذا الامتداد مرتبط بمسار الإدخال إلى الجسم والإخراج منه، والرواية بهذا تفيد أن الامتلاء بالقيح عن طريق التناول وارد أيضا، وأنه امتلأ حتى لم يَعد له مكان للزيادة بعد أن وصل من أول نقطة الإدخال إلى آخر نقطة. ثم إن هذا القيح يتخضخض في جوف هذا الإنسان، والتخضخض التحرك(7)، وفي هذا تلتقي هذه الرواية مع رواية الإمام مسلم في أن القيح ليس ثابتا، وحركته تزيد من خطورته ومن صورته القبيحة.
لقد أريد لهذه الصورة للجوف الممتلئ بالقيح أن تكون في غاية الشناعة، وإذا كان هذا أمر هذه الصورة، فما بالك بصورة أسوأ منها هي صورة امتلاء الجوف بالشِّعر، فالمسألة ليست مسألة قبح امتلاء الجوف بالشعر فقط)) بل هي مسألة قبح يصل حدا لا يطيقه أي إنسان.
———-
(1)- صحيح البخاري، 4/118، حديث رقم 6154، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر…
(2)- العرج قرية تبعد عن المدينة بنحو ثمانية وسبعين ميلا في اتجاه المدينة. ن. شرح صحيح مسلم، 15/14.
(3)- صحيح مسلم، 15/13، حديث رقم 2259، كتاب الشعر.
(4)- شرح صحيح مسلم، 15/13، حديث رقم 2259، كتاب الشعر.
(5)- شرح صحيح مسلم، 15/13-14.
(6)- مجمع الزوائد، 8/120-121.
(7)- لسان العرب، 7/144-145، مادة ((خضخض)).