فضل العلم وأهمية القراءة بين الاهتمام والإهمال


 د. عبد اللطيف احميد الوغلاني

 

الخطبة الأولى

الحمد الله المتفرد بكمال العلم، المتصف بالعليم بما في الصدور الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، سبحان ذو العزة والجلال، المتصف بصفات المحامد، نحمده حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، يقلب الليل على النهار، وكل شيء عنده بمقدار، إن في ذلك لآيات لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشفع لنا يوم الدين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، علمه الله ما لم يكن يعلم وآتاه فصل الخطاب، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى أله وصحبه وكل أتباعه إلى يوم القيامة {فمن يعمل من الصالحات وهو مومن فلا كفران لسعيه}(الأنبياء : 94).

أما بعد : أيها المسلمون : يقول عليه الصلاة والسلام : “من أراد الدنيا فعليه بالعلم ، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معا فعليه بالعلم”. وإن من أعظم منن الله تعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أن تولى تعليمه، فقال عز وجل : {وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيما}(النساء : 113) وعندما نتحدث عن العلم والتعلم والقراءة بمناسبة حلول السنة الدراسية الجديدة، فلا بد أن نقف  على أهمية العلم وفضله وضرورة الاهتمام بذلك.

أيها المسلمون : لقد رفع الله شأن العلم وأعلى من شأن العلماء، فجعل المخلوقات من دواب وحيتان تصلي على معلم الناس الخير، روى الترمذي عن أبي أمامة الباهلي قال : “ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير}.

عباد الله :

لنعلم جميعا وخاصة النخبة المتعلمة من أبناء هذا الوطن وهذه الأمة أن العلم والقراءة والتعلم، مفتاح كل خير، بل كل ذلك يعتبر مفتاحا لكل سعادة في الدنيا والآخرة، واسمعوا يا أبناء أمة مسلمة نزل فيها كتاب رب العالمين آمرا بالقراءة قبل الأمر بأي شيء آخر، وتأملوا في ماضي أمتنا كيف كان أسلافنا؟ وتأملوا في حاضرنا كيف أصبح مستوى العلم والمعرفة والاهتمام بالقراءة والعمل بمقتضى ذلك وإلى أين وصل الأمر بنا؟. فلنتأمل في أوضاعنا التعليمية كيف هي؟ ولنتأمل في كيفية اهتمامنا وانشغالنا بهذا الأمر من القمة إلى القاعدة ومن اليمين إلى الشمال لنعرف ما مدى الفرق الشاسع والبون الواسع  بين اهتمام أسلافنا بالعلم والتعلم، وبين الخلف في الاهتمام بهذا الأمر. إن اهتمام الأسلاف بالعلم والتعلم قادهم للقيادة والريادة، ورفع شأنهم وأعلى منزلتهم، ونحن لما فرطنا أضعنا أمجاد السلف ولم نحافظ على  ذلكوبالتالي سرنا في ذيل القافلة العالمية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أيها المسلمون : إن أمة لا تقرأ لتتعلم،  لا تستطيع  إدراك سر وجودها ولا من أوجدها في هذا الكون وهذه الحياة، أمة لا تعرف كيف تحافظ على  أمجادها وما اؤتمنت عليه، أمة لا تستطيع استيعاب ماضيها ولا إدراك حاضرها ولا استشراف مستقبلها، أمة لا تعرف كيفية أخذ الدروس والعبر من ماضيها،  لتربط جذورها بأصولها. أمة لا تقرأ لا تعرف كيفية تربية الأجيال وصناعتهم ليتخرجوا رجالا ينفعون أنفسهم وينفعون أمتهم وأوطانهم،… أمة لا تقرأ يجب أن تعتبر نفسها ميتة وإن كانت تأكل وتشرب وتقف وتقعد, وتمشي وتروح، فهي ميتة، وقد كبر الناس عليها أربعا، لأن الحياة الحقيقية هي حياة العقول والقلوب والجوارح، وحياة ذلك كله لا يكون إلا بالعلم والقراءة والتعلم.

فيا أمة القراءة والعلم، يا أمة الإسلام والقرآن، يكفينا شرفا أن أول ما ابتدأ به نزول القرآن وتنزله، هو قول الله تبارك وتعالى : {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم…}، فقد جمع الله تبارك وتعالى في هذه الآيات المباركات بين عنصري القراءة والتعلم، والكتابة، بل وجعل سورة كاملة من سور القرآن الكريم باسم (القلم)، ومع أننا أمة اقرأ، لكن للأسف قل منا من يقرأ، وإذا قرأنا لا نقرأ المفيد من الكتب إلا من رحم الله منا، والأغرب من ذلك أن أكبر نسبة في الأمية في دول العالم بأكمله توجد في العالم الثالث منه عالمنا العربي المسلم. بل إن أحدا من الناس أعد تقريرا حول إحدى الجامعات بإحدى الدول العربية وأكد فيه أن نسبة 72% من خريجي الجامعات يتخرجون دون أن يقوموا باستعارة كتاب واحد من مكتبة الجامعة؟. بل إن فئة عريضة ممن يقرؤون من شبابنا وبناتنا لا تهتم إلا بكتب القصص والمغامرات والروايات الغرامية، وفن الطبخ وكتب السحر والجن والشعوذة. وإن من أغلب مثقفين من يعكف على قراءة الصحف الإخبارية والسياسية والعكوف على  فك ألغاز الشبكات الثقافية بها بين قوسين ومنهم أيضا وخاصة بعض الباحثين جعلوا الشبكة العنكبوتية والمعلوماتية غايتهم في إنجاز البحوث عن طريق النسخ واللصق، فيأخذون من هنا وهنا ويقولون هذا بحثنا.

أيها المسلمون : من فائدة إعادة القول وتكراره : أنه لا حياة حقيقية يحياها الناس في هذا العالم بدون القراءة والعلم والتعلم والكتابة، فالقراءة هي طريق العلم، وسبيله ولولاها لم يتعلم الإنسان ولم يحقق الحكمة من وجوده على  هذه الأرض ولا معرفة ربه وخالقه وإلاهه، ولا كيفية عبادته على الوجه الصحيح، وطاعته، ولا كيفية عمارة هذه الأرض التي أمر أن يعمرها بالخير والنفع وبما يرضي الله جل جلاله، لا بما يضر نفسه وغيره.

إن القراءة ـ عباد الله ـ أيضا سبب لاكتساب الأخلاق الكريمة والصفات العالية، و السلوك القويم، وسبب لمعرفة الإنسان لـما ينفعه ولما يضره من العلوم والمعارف، وسبب لرفعة الإنسان في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى : {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}(المجادلة : 11). إن القراءة وسيلة عظيمة تمكننا من عالم ضيق محدود الأفق إلى عالم آخر أرحب وأوسع أفقا وأبعد غاية. والوصول إلى ذلك رهين بتسخير كل الإمكانيات واستثمار كافة الطاقات المادية والمعنوية من طاقات بشرية وأدمغة علمية وموارد مادية في إطار شكر النعمة. وما عليك أيها القارئ الكريم إلا أن تقارن بين نفسك وبين من لا يقرأ من أقاربك وأصدقائك لترى الفرق الهائل بينك وبينهم، أو أن تقوم بزيارة ما بهدف الذكرى والاعتبار لإحدى جمعية الصم والبكم وفاقدي البصر  لترى كيف يحرصون على العلم والقراءة والكتابة مع حال النقص والعجز التي يعيشونها، لترى الفرق الشاسع بينك وبينهم لتحمد الله وتشكره على نعمه عليك وتتوب إلى الله تعالى من ضياع الأوقات ومن كل كسل أو غش أو بلية من البلايا.

إن القراءة -أيها المؤمنون- : تفيد الإنسان في حياته كلها فهي تنمي عقله وتهذب خلقه وتوسع دائرة إدراكاته ومعارفه وتقوي خبراته، وتفتح أمامه أبواب العلوم والمعارف والثقافات وتحقق له السعادة والتسلية والمتعة، وتكسب الأبناء والبنين والأطفال حسا لغويا أفضل فيكتبون ويتحدثون بطريقة أحسن، كما أن القراءة تعطيهم القدرة على التخيل وبعد النظر، وتنمي لديهم ملكة التفكير السليم، وترفع لديهم مستوى الفهم، فيستطيعون الإسهام في بناء أنفسهم وصناعة شخصياتهم وتشكيل عقولهم، فيستطيعون حل المشكلات وفك المعضلات التي  قد تواجههم في دروب الحياة. فنسأل الله تعالى أن يلهمنا وإياكم سبيل الهداية والرشاد  والتوفيق والسداد.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام الأتمان والأكملان على الحبيب المصطفى معلم الناس الخير محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد :

أيها المسلمون : قال الله تعالى : {وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم…}. وإن أول قوة يتوقف عليها غيرها بعد قوة الإيمان والعقيدة هي القوة العلمية، فبدون علم قوي لن نكون ولن يكون لنا وزن بين دول المعمور. ولأهمية هذا الهدف وهذه الغاية والوسيلة، اهتم العلماء والفقهاء رحمهم الله من سلف هذه الأمة بالقراءة والتعلم والبحث ولولا اهتمامهم ذلك وتفانيهم البالغ ما خلدوا لنا تراثا ضخما في مختلف العلوم والمعارف الأصولية والفقهية والفكرية والعلوم الحقة وغيرها، فوضعوا الكتب وألفوا المجلدات النفيسة في أروع المستويات، ولا غرابة، وقد جعلوا الكتب خير أنيس وخير صديق وأفضل رفيق. يقول الجاحظ رحمه الله في هذا المجال : “الكتاب نعم الأنيس في ساعة الوحدة ونعم القرين ببلاد الغربة، وهو وعاء مليء علما وليس هناك قرين أحسن من الكتاب، ولا شجرة أطول عمرا ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى من كتاب مفيد.

وقال عمرو بن العلاء : “ما دخلت قط على رجل ولا مررت بداره، فرأيته في بابه ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا حكمت عليه أنه أفضل منه عقلا”.

وإن للعلماء أخباراً عجيبة في حب القراءة وملازمة الكتب أكثر  من أن تحصى  فقد قال الجاحظ ابن عبد الهادي  في وصفه لشيخه ابن تيمية رحمه الله : “لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق العلم”(مختصر طبقات علماء الحديث : 4/282)

أيها المسلمون : بحب القراءة مات الجاحظ تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع كتابا،  وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي.

إن همة الرجال -عباد الله- تكومن أكثر وأكبر في وجود علماء وهبوا حياتهم للقراءة والعلم حتى ماتوا شهداء في هذه الجبهة العلمية الجهادية، فحملوا هم الأمة وأنكروا ذاتهم وعرفوا وأيقنوا أن نفع الأمة وخيرها يكمن في حفظ ذاكرتها وآثارها الفقهية والعلمية والفكرية من الضياع، ألا فاتقوا الله أيها المسلمون وكونوا أنفع لأنفسكم ولأمتكم ولوطنكم بالقراءة والعلم والخلق الكريم، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. فاللهم اجعلنا ممن يقرءون فيفهمون، ويفهمون فيعملون، ويعلمون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علما، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع، وعمل لا يرفع، الله اجعل جمعنا هذا جمعا…….

وصل اللهم وسلم وبارك على حبيبك ومصطفاك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين . والحمد لله رب العالمين.

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>