د. أحمد يوسف سليمان
أسباب الخلاف بين العاملين في المجال الإسلامي جماعات ودولا
من المؤسف أن أسباب الخلاف وعوامله بين العاملين في المجال الإسلامي كثيرة؛ بعضها يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، وبعضها محدث وليد الظروف التي تمر بها الأمة فكرياً وسياسياً واجتماعيا. إن هذه الأسباب وراء ما يبدو من تفكك أواصر الأمة، وتشتت شملها. والعاملون في المجال الإسلامي رغم ريادتهم للأمة هم جزء منها، فتأثروا بما يتأثر به الكل وإن كانوا هم الأقدر على فهمه وتخطيه.
إن هذه الأسباب -رغم تشعبها وكثرتها- يمكن إجمالها في الأمور الآتية :
1- الاختلاف المذهبي العقدي :
(إن صح هذا التعبير) وهو أخطر هذه الأسباب؛ لأن العقيدة هي الدافع الأساسي لكل سلوك، خصوصاً بالنسبة إلى الأمم التي بنت نظامها على أساسها. فمن قديم انقسم المسلمون إلى : شيعة، وسنة، وخوارج، ومرجئة، كما انقسم أهل السنة إلى أشاعرة، وحنابلة ومعتزلة… إلخ. وانقسمت كل فرقة إلى فرق حتى يتطلب الإلمام بفكرها وضع المصنفات العلمية للتفريق الدقيق بينها(1).
وبالرغم من أن أساس هذا الاختلاف في بداية نشأته كان خلافاً سياسياً لأعضائه، فإنه أثر على العقيدة واختلط بها. ومن المؤسف -بحق- أن ظلال هذا الاختلاف لا تزال تلقي بضبابها وقتامها على هموم المسلم، مما يؤثر -ولاشك- على وحدة العاملين في المجال الإسلامي.
ففكر الخوارج بدأ يظهر من جديد نتيجة لغيبة العلماء، وفقدان القدوة، واستبداد الحكام، كما أن انقسام الأمة إلى سنة وشيعة أمر كان ولا يزال يفرق وحدتها، بالرغم من أن أعداء الأمة ينظرون إلى الجميع على أنهم عدو واحد، وبالرغم من أن كثيراً من أوجه الاتفاق قائمة، فإن الخلاف كذلك قائم. ولا أدري لمصلحة مَنْ مِنَ المسلمين تقسيم الأمة حسب أفكار تاريخية عفى عليها الزمن، وتجاوزتها الدنيا كلها إلى ما هو أجدى وأصلح. إن المفروض أننا نحن المسلمين جميعاً أهل قبلة واحدة، تجمعنا كلمة الإخلاص (لا إلاه إلا الله، محمداً رسول الله)؛ وبيننا من نقاط الاتفاق أكثر بكثير من نقاط الخلاف، فلماذا لا يلتقي المسلمون جميعاً سنة وشيعة على كلمة سواء.
إن ما بين المسلمين : سنة وشيعة من خلاف لا يقارن بما بين الكاثوليك والبروتستانث من الخلاف، ومع ذلك فإن مسيحيي أوروبا من كاثوليك وبروتستانث تجاوزوا هذا الخلاف العقائدي العميق وراء ظهورهم، وراحوا يتعاونون فيما بينهم، وتناسوا هذا الخلاف.
إننا -نحن المسلمين : شيعة وسنة- أولى بهذا الوفاق منهم، لكثرة نقاط الاتفاق وقلة مواطن الاختلاف الذي يرجع كثير منه إلى أنه خلاف سياسي تاريخي.
2- الاختلاف القانوني :
ذلك الاختلاف الذي ظهر بعد إقصاء الشريعة الإسلامية عن موقعها في الحكم على تصرفات المسلمين حكاماً ورعية. وحلت محلها القوانين الأجنبية المستوردة، التي اختلفت حسب هوية كل مستعمر احتل جزءاً من بلاد الإسلام، مما أدى إلى أن كل بلد بات يطبق قانوناً يخالف قانون الأجزاء الأخرى، وفي هذا ما فيه من التأثير على واقع الأمة واختلاف نظمها.
إن المذاهب الفقهية رغم تعددها، فإنها كانت متفقة في الاعتماد على قدر مشترك، هو الأساس الشرعي الذي بنيت عليه، واستوحت أصولها وقواعده ومصداقيتها منه. ذلك الفقه الذي ظل يحكم البلاد الإسلامية إلى عهد قريب، فلما ألغيت الخلافة الإسلامية، وأقصيت الشريعة على أوجه من التناقض مع عقيدة المسلمين وأحكام شريعتهم(2)، مما أدى إلى اضطراب الأفكار. واختلاف المصلحين من أوجه الإصلاح. والعاملون في المجال الإسلامي يواجهون واقعاً مختلفاً في كل بلد إسلامي. فما يصلح لعلاج هذا الموقع لا يصلح ذاك. ومن صور اختلافهم في هذا المجال : هل تلغي قوانين البلاد وتعود إلى الفقه الإسلامي الذي توقف العمل به لفترة غير قصيرة وبالتالي جمد على مبادئ معينة. أم تنقي هذه القوانين مما يتناقض مع أحكام الشريعة؟
3- الاختلاف الثقافي :
لقد كانت الثقافة الإسلامية هي الطابع الذي ميز المسلمين عن غيرهم، وكانت هذه الثقافة المؤسسة على القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والأعراف، والقيم الأصلية المأخوذة منهما هي الثقافة السائدة بين سكان العالم الإسلامي ذميين ومسلمين، وسواء أكان المسلمون يعيشون في دولة واحدة كالأموية أو العباسية أو الفاطمية، أو في دويلات. ولذلك ساهم المسلمون رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم في الفكر الذي نتج عن هذه الثقافة، وصبغوه بالصبغة الإسلامية قال الله تعالى : {صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون}(3).
فلما ضعفت الأمة الإسلامية، عادت من جديد تبرز الثقافات التي اندثرت لشعوب هذه الأمة. فأحيا الفرس لغتهم وثقافتهم، وكذلك الهنود، والأتراك… إلخ.
ولاشك أن اختلاف الثقافات أدى إلى اختلاف كثير من سمات الطابع الإسلامي، حتى يكاد المسلم الرحالة لا يجد فارقاً جوهرياً بين بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين إلا القليل النادر.
4- الاختلاف العرقي :
لما أشرقت شمس الإسلام، وانداحت فتوحاته المباركة تخرج الناس من عبادة غير الله، إلى العبودية لله وحده، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وأشربت قلوبهم محبته نسوا فيه خلافاتهم العرقية إيماناً بما جاء به هذا الدين من مثل كالمساوات إذ كلكم لآدم وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وإن الله خلقهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيتعاونوا على البر والتقوى.
ولكن ما لبثت الفروق العرقية أن أطلت برأسها متمثلة في الشعوبية(4) التي اتخذت من العرب متنفساً لأحقادهم، ثم أخذ كل جنس يفاخر بجنسه (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون).
فأصاب الأمة الإسلامية ما أصاب الأمم السابقة عندما اختلفت، لم ينفعهم تدينهم الزائف، ولا عملهم الظاهر، بل كان بأسهم بينهم وكان ما حدث للمسلمين في الأندلس وحدها كفيلاًبأن يوقظهم، ولكن مضت بهم سنة الله في كونه : {ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}-الأنفال الآية : 53-.
ولذلك فإنه لما اشتدت هذه النزعات انقسمت الأمة إلى عرب وأتراك، وفرس،… إلخ. وكانت وراء ضعف العرب حتى استولت الدول الأوروبية على بلادهم، واقتسموها في الاتفاق الودي فيما بينهم في مشارف هذا القرن، وهزمت الدولة العثمانية، وقضت على الخلافة، وأدخلت في روح الأتراك أن سبب ضعفهم هو تمسكهم بالإسلام وأنهم لن يتقدموا حتى يتخلوا عنه، وعن كل ما يربطهم به بصلة.
وما يرى من النزعات العرقية في شمال أفريقية من البربر هو تعبير واضح عن هذه النزعة. إنني أرى أنه ليس من مصلحة المسلمين في شيء إحياء القوميات التي جاء الإسلام فذوبها جميعا في بوتقته، وصبغها بصبغته، وجعل منهم على اختلاف جنسياتهم، وتباين قومياتهم أمة واحدة، حمل الكل لواءها، فللعرب دورهم، وللأتراك دورهم، وللفرس دورهم وللبربر دورهم، لكن ليس هذا باسم قومية من تلك القوميات بل باسم الإسلام، لأنهم أدركوا أن هذه النزعات العرقية ما هي إلا نزعات جاهلية، التمسك بها يشبه التمسك والتفاخر بأمجاد الجاهلية ومفاخرها.
إن قوميتنا الحقيقية هي الإسلام نفسه، وليكن لنا في اليهود عبرة وعظمة، فإنهم جعلوا من اليهودية وهي دين فقط قومية، بينما نحن أولى بهذا منهم لعالمية ديننا. ودعوته إلى العدل والحق والمساواة ولأن العاملين في المجال الإسلامي جزء من هذه الأمة، فينطبق عليهم ما ينطبق على الأمة في مجموعها، ولكن لأنهم روادها فإن عليهم أن ينتبهوا إلى ذلك خلال حوارهم ومناقشاتهم، وأن يتناسوا بل ينسوا نزعاتهم العرقية، ويخلصوا للإسلام ذاته، جاعلين منه الوطن والقومية.
أبي الإسلام لا أبا لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
5- الاختلاف السياسي :
الناظر إلى العالم الإسلامي نظرة شاملة، يرى أن دُوَلهُ يجمعها شيء واحد، أنها كلها تخضع للحكم الشمولي. سواء أكان هذا الحكم على شكل أسرة حاكمة، أو حزب واحد، أو حزب واحد حوله (ديكور) من الأحزاب (المسيسة) تحت مسمى “الديمقراطية”، مما أدى إلى أن شعوب الأمة الإسلامية لا رأي لها في حكوماتها، ولا في الطريقة التي تحكم بها، وإنما تساق كما تساق قطعان الماشية إلى مصيرها المحتوم، أو تدار كما يدور الثور في الساقية مغمض العين، حتى لا يصيبه الدوار من هول ما يرى وما يسمع.
ليس المهم شكل الدولة، إنما المهم جوهر الحكم، ومدى تحقيقه للعدل، وأبسط حقوق العدل، أن يكون لكل مواطن في الرعية رأي صحيح في من يولي عليه حاكماً، بأية وسيلة يتم ذلك، وتحت أي شعار، فإن الأسماء لا تغني من المسميات شيئا، وقد سمى القرآن ذلك باسم (الشورى) فليسم بأي اسم. المهم أن يتحقق مقصود الشريعة منها، لأنها جزء أساسي من نسيج المجتمع الإسلامي، ولذلك ذكرها القرآن الكريم بين الصلاة والزكاة وجعلها سمة أساسية من سمات المجتمع المسلم فقال : {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم، ومما رزقناهم ينفقون}(5). ولعل السر في أن الإسلام جعلها سمة أساسية للمجتمع الإسلامي، أن الشورى إذا طبقت في نظام الحكم، انتقل ذلك إلى كل التنظيمات الأخرى السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية. وفي كل تجمع كبر أو صغر، دق شأنه أو عظم أمره.
كما أن دول العالم الإسلامي تجمع بين دوله سمة أخرى في العصر الحديث، وهي أن كل دولة -رغم حصولها على استقلالها الشكلي-، فإنها ظلت تابعة على نحو ما للنفوذ الأجنبي، ولم تحرر تماماً من هذه التبعية، مما أتاح الفرصة للدول الأجنبية للتدخل في شؤونها، ولذلك رأينا بعض الدول الإسلامية تتبع النظام الليبرالي، ثم تنتقل منه إلى النظام الاشتراكي، ثم تعود إلى سابقه، دون أن تفكر في النظام الإسلامي، بل أن بعض الدول الإسلامية اتبعت النظام العلماني لتبني دولتها الحديثة ونسوا ما حدث لتركيا التي كانت يوماً قائدة الدول الإسلامية، كيف مسختها العلمانية إلى ذيل لحلف الأطلنطي. وها نحن نرى المسلمين يذبحون قريباً منها ولا تملك لهم شفاعة ولا عدلاً.
وما يجري في أفغانستان أمر محزن، وهو في مجمله لتدخل دول أجنبية في شؤونها، حتى أصبح إخوة السلاح أمس أعداء اليوم من أجل الحكم، كأن الحكم في ذاته غاية، حتى نالوا من أنفسهم ما لم ينله العدو منهم، وفوتوا على أنفسهم وعلى المسلمين أن تقوم للإسلام دولة قوية تكون مثلا يحتذيه غيرها من دوله.
ومن قبل كانت الثورة الإيرانية التي أيدها الشعب، فتصدت للمؤامرات الخارجية، ولكنها بدلاً من أن تصبح المثل الأعلى بأعمالها ومواقفها، راحت تصدر الثورة إلى الدول المجاورة، وتتدخل في شؤونها. ولقد كنا نأمل أن تنسى الثورة الإيرانية الخلافات العقدية والمذهبية، وتعطي للعالم الإسلامي كل المثال من العدل في الحكم. والكفاية في التوزيع والإنتاج والتقدم العلمي والتضامن الأخوي.
وكذلك كثير من التجمعات في العالم من التجمعات في العالم الإسلامي، تتوحد لخدمة أهداف حكامها، وتثبيت عروشهم، لا لتحقيق أهداف الرعية من المواطنين المسلمين، الذين هم الملاك الحقيقيون للثروة الممثلة في الأرض والموارد.
آداب الاختلاف وضوابطه
عرفنا معنى الاختلاف والألفاظ التي تترادف معه، وموقف القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة منه، كما عرفنا أن هذا الاختلاف له جذوره العميقة الممتدة في تاريخهم، وعميق وجداناتهم، وثقافتهم، وأعراقهم، وأجناسهم، كما أن له أسبابه المستحدثة بعد ضعف الأمة. كما عرفنا أن هذا الاختلاف منه ما هو صحي وهو الذي سميناه باختلاف التنوع، ومنه ما هو مرضي وسميناه باختلاف التضاد وبينا أن النوع الأول ينبغي تسديده وترشيده، وأن الثاني ينبغي تحجيمه وحصاره، وتجنبه. كما أننا وقفنا بعض الوقت مع نماذج سريعة من اختلاف حكام الأمة وضربنا لذلك بعض الأمثلة ببعض الخلفاء الراشدين. ثم اختلاف العلماء، وضربنا لذلك بعض الأمثلة من اختلاف الأئمة -رضي الله عنهم- جميعاً.
ونحن الآن في العالم الإسلامي في مسيس الحاجة إلى تشجيع الاختلاف الصحي، الحَرِيّ بأن يسمى حواراً، لأنه يثري الفكر ويصحح المسار، ويقدم البدائل أمام المسؤولين عن مصير الأمة في حاضرها ومستقبلها.
ولكي ينجح هذا الحوار أو هذا الاختلاف بين فصائل الأمة وطوائفها حكاماً ومحكومين، لابد أن يتم في مناخ سليم، وأن يسري بين عناصره روح الالتزام بآداب معينة أو ضوابط محددة، الغرض منها ضبط إىقاع هذا الحوار وليس الغرض منها التضييق على المتحاورين، بل إن هذه الضوابط يحسن تسميتها آداباً ينبغي أن يراعيها الجميع، وأن يكون نابعاً من أنفسنا عن اقتناع نتيجة تربية معينة وتقاليد راسخة.
ولعلي في هذه السطور أزيل عنها فقط غبار السنين، لأنها موجودة فيما ورثناه من قيم حضارية غرسها فيها ديننا الحنيف وذلك في ما يمكن إجماله في الآداب التالية :
1- شعور المتحاورين أن نتيجة حوارهم تنتظرها الأمة، وأن أولي الأمر سيضعون نتائج الحوار موضع التنفيذ، فإن هذا الإحساس من أكبر العوامل الدافعة للمتحاورين إلى إجادة موضوع حوارهم، وبذل قصارى جهدهم لإنجاحه، والتعمق فيه غوصاً وراء اللآلئ الحقيقية من الآراء السديدة والتجارب المفيدة. عكس ما إذا تسرب إلى مشاعرهم أن الهدف إضاعة وقتهم وتعميق الخلاف بينهم، وشغل الأمة بأقوالهم دون اعتبار لتحويلها إلى واقع ملموس، لأن الحكومات لا تبغي من وراء ذلك إلا الدعاية لها من جهة، والتنفيس من الكبت الذي تعانيه جماهير الأمة ومفكروها من جهة أخرى وهو أمر غاية في السوء. لأنه يصيب الأمة باليأس من الإصلاح، كما يصيب المفكرين بالإحباط، وعدم جدوى التفكير في أي تغيير.
2- أن يحسن جميع المتحاورين الظن ببعضهم من جهة وبحكوماتهم من جهة أخرى حتى يثبت العكس، فالأصل البراءة فلا ظنة ولا تهمة ولا ريبة، ولا مزايدة على الإخلاص لله أو للأمة، فإن جميع الفصائل المتحاورة لديهم الحرص التام على مصلحة الأمة، ولكن الاختلاف في وسائل تحقيق هذه المصلحة، كما كان يحدث من خلاف بين الصحابة في أمور تهم الدولة، فيجتهد كل صاحب رأي للوصول إلى أحسن السبل لتحقيق المصلحة، دون أن يشكك في نوايا المخالفين واتهامهم. وكما يحدث من الأئمة في الفقه، رغم اختلاف مذاهبهم. فالأحزاب السياسية في عصرنا ينبغي أن تكون كالمذاهب الفقهية، تختلف مناهجها، وتتحد غاياتها. وكما يحدث بين الأحزاب السياسية في الدول المتقدمة، فإنهم يتجادلون، وقد يشتد بينهم الجدال، لكن في غير مزايدة، بل لتحري المصلحة العامة لأممهم. فما أجدرنا نحن المسلمين بمسلكهم في هذا الشأن؛ لأنه المسلك الذي يتفق مع قيمنا وأخلاقنا وتراثنا.
3- أن يتجرد المتحاورون من الهوى. والهوى يعني المصالح الشخصية أو الحزبية، بل يكون الغرض ابتغاء وجه الله. لأن ذلك يجعل الحوار يتم في هدوء واحترام، خصوصاً إذا أدرك المتحاورون أن أجرهم فيما يجتهدون فيه سيكون عند الله، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ووجه الله يعني مصلحة الأمة.
4- تحديد المصطلحات للأفكار التي يدور حولها الحوار، فإن هذا من شأنه أن يحدد نقاط الاختلاف ويقلل منها، كما يؤدي إلى نتائج حاسمة وسريعة، فيوفر الوقت والجهد.
إن (تحرير محل النزاع) كما يقول الفقهاء في غاية الأهمية، لأنه قد يظن أن ثمة خلافا، وهو خلاف لفظي، أو أنه خلاف كبير، وهو اختلاف هين ضعيف الأثر.
5- إهمال الخلافات التاريخية، وعدم التأثر بالنزعات العرقية أو المذهبية، فإن هذه الخلافات لا تخدم قضيتنا، بل تعمق الخلاف. بل نتحاور جميعاً على أساس أننا إخوة قبلتنا واحدة، وديننا واحد. وثقافتنا مهما تعددت أشكالها قد صبغها ديننا بصبغة واحدة.
6- تحديد نقاط الاتفاق في نهاية كل حوار، فنتواصى جميعاً بالعمل بها ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. وبالتالي فلا يحاول بعضنا أن يؤثر في بعض ليكون نسخة منه، لأن هذا فيه ما فيه من التدخل في شؤون الغير، لكن فليحاول كل منا أن يقدم أحسن ما عنده مع حسن تقديره للآخرين، واعتذارهم عنهم.
إن نقاط الاتفاق بيننا نحن المسلمين أكثر بكثير من نقاط الاختلاف. فلماذا لا نركز على نقاط الاتفاق ونعمل على تنميتها، ونتسامح فيما اختلفنا فيه؟
7- أن يتم ذلك الحوار في إطار العلم. فلا يحاور في قضية إلا أهل العلم بها، والاختصاص فيها، لأن هذا يجعل للاختلاف ثمرة، ولأننا في عصر العلم. وإذا لم نستفد في حوارنا بالعلم، ففي أي شيء نستفيد به فيه؟ وأهل العلم والاختصاص هم أهل الذكر الذين قال الله -عز وجل- فيهم : {… فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}(6).
ولأن العلم ينير طريق الحوار، ويجعله في إطار من الموضوعية والالتزام بالحقائق المجردة، بعيداً عن الأهواء الشخصية، والانحرافات الذاتية.
وبعد، فهذه أهم المعالم التي ينبغي -من وجهة نظري- أن يتأدب بها المختلفون في مجال العمل الإسلامي، كل معلم منها جدير بأن يفرد بالكتابة فيه بحوث إضَافية للتفصيل والتأصيل له. لكني قصدت الإيجاز لضيق المساحة المطلوب الكتابة فيها، ولسرعة الوقت المفروض أن يتم الإنجاز فيه.
(… إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب)(7).
خاتمة البحث
في خاتمة هذا البحث أقترح الأمور الآتية :
أولا : إعادة تدريس (أدب الاختلاف) في مدارسنا ومعاهدنا العلمية، مع اختلاف تخصصاتها، وتعدد مستوياتها، بحيث يدرس طلاب كل مرحلة وتخصص ما يلائم ظروفهم منه. مع التطبيق العملي في شكل ندوات أو مناظرات أو مساجلات تتم داخل الفصول المدرسية، والمدرجات الجامعية. وأن تهتم مؤسسات التربية والتعليم في دول العالم الإسلامي بالمسابقات، فتضع لها المكافآت السخية، ويهتم بحضورها الموجهون من رجال التربية والتعليم لتقييمها.
ثانيا : اهتمام وسائل الإعلام في دول العالم الإسلامي، المقروءة، والمسموعة والمرئية، بالحوار والمناقشات والمناظرات والمساجلات، في شتى المجالات التي تهم الأمة، بين ذوي الفكر والثقافة ورجال الأحزاب ورؤساء تحرير الصحف والمجلات، وعمداء الكليات، وأساتذة الجامعات، وكبار علماء الدين، وأن يتم ذلك في جو من الحرية التامة والمصارحة الكاملة.
ثالثا : أن يلتزم المتحاورون عموماً، والعاملون في المجال الإسلامي خصوصاً بعدة آداب نتواصى بها، من أهمها :
1- طرح الخلافات التاريخية، والمذهبية، والعقدية بعيداً عن مجال الاختلاف حتى لا تؤثر فيه.
2- الاهتمام بنقاط الاتفاق، وتعميق فوائدها، انطلاقاً منها إى توثيق عرى الأخوة.
3- رفض المزايدات على مصالح الأمة.
4- تحري الحق ومجانبة الهوى. ورفض العصبية لفكر أو لشخص أو لمذهب.
5- السعي إلى إشراك كل صاحب فكر في مجال تخصصه، والاستماع إليه، وقياس قوله على المعروف من صفات الحق ودلائله العلمية، فإن كان على حق قبل مهما كان صاحبه، وإن كان على باطل رفض مهما كان قائله، لأننا ينبغي أن نعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال.
6- الالتزام باحترام كل أطراف الحوار بعضهم بعضاً، مهما كان الاختلاف بينهم في القول أو الوسيلة أو النتيجة. وعدم التجريح أو التطاول. وليكن شعارنا : الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
رابعاً : أهم المجالات العلمية التي يمكن أن يمارس فيها هذا الحوار :
1- البيت بين أفراد الأسرة.
2- المدرسة أو المعهد، أو الكلية بين الطلاب.
3- النقابات المهنية.
4- نوادي هيئات التدريس.
5- تجمعات الأحزاب، بين أعضاء كل حزب وبين الأحزاب المختلفة.
6- المؤتمرات السياسية بين الأحزاب، وبين الحكومة والمعارضة.
7- المؤتمرات العلمية بين أهل العلم والفكر.
8- مؤتمرات القمة بين رؤساء دول العالم الإسلامي.
وإنه لمن حسن الطالع، أن الدول العربية -وهي في طليعة الدول الإسلامية- بدأت هذا العام تنتشر فيها ظاهرة الحوار بين فصائل الأمة المختلفة داخل كل دولة منها في مصر، واليمن، والجزائر، وتونس، وفلسطين، والسودان.
خامساً : أقترحُ أن تقوم كل دولة إسلامية بدراسة أخطر مشكلاتها، ثم تتقدم بطرح كل مشكلة منها للحوار بين فصائل الأمة، تطلب من المجتمع الاشتراك في وضع أنسب الحلول لها مثل : مشكلة البطالة، وسداد الديون الخارجية، أو النهوض بالتعليم، أو الممارسة الصحيحة للديقراطية، أو حل المشكلات الاقتصادية وغير ذلك، ثم تعمل على تنفيذ ما يتبلور عنه الحوار من حلول بأمانة وإخلاص.
هذه كلها مجالات أصلية للعمل الإسلامي الواعي الجاد.
والله أسأل أن يهيء لهذه الأمة من شبابها المؤمن، وعلمائها المخلصين ما يأخذ بيدها، وينير لها طريق التقدم والنهوض، ولتتبوأ المكانة اللائقة بها بين دول العالم في أمن ورخاء وسلام وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين.
الهوامش :
1- من تلك المصنفات : الفرق بين الفرق للبغدادي، والملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الأهواء والملل والنحل لابن حزم. وغيرها.
2- من تلك المصنفات : الفرق بين الفرق للبغدادي والملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الأهواء والملل والنحل لابن حزم. وغيرها
3- سورة البقر : الآية 138
4- الشعوبية مصطلح ظهر قديماً. وكان يعني العيب على العرب بإظهار سادتهم، وتحويل حسناتهم إلى سيئات. وقد تصدى الأدباء المخلصون والمفكرون المنصفون للرد عليهم. أنال الجاحظ في كتابه القيم”البيان والتبين”.
5- سورة الشورى : الآية 38
6- سورة الأنبياء : الآية 7
7- سورة هود : الآية 88