“وربك فكبر” وظيفة الإصطفاء


سِرُّ النهوض الأول الفريد :

واجهت الدعوة الإسلامية في عهد التأسيس والبناء صعابا وعقبات، ولكن المسلمين تَغَلَّبُوا على كل التحديات الداخلية والخارجية بشيء واحد ، هو أنهم قالوا : ربُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتقَامُوا مع المنهج الرباني، وكَيَّفُوا أنفسهم مع متطلّباتِ التوجُّهِ الجديد الذي اقْتضى منهم أن يعْكِسُوا الأهداف والوسائل، وأن يُغَيِّروا الطموحات والتطلعات، والروابط والعلاقات، فبعد أن كان الهوى إلَهَهُمْ، والمالُ هَدَفَهُمْ، والدنيا معبودَهم، والدمُ رابطهم، وقيمُ الأرض ميزانَهم، أصبح الله تعالى غايَتَهُمْ، والجنةُ مطمَحَ أَبْصَارِهِمْ، ومهوى أفئدتهم، والاعتصامُ بحبل الله تعالى ودينه أقوى رابط يربطهم وأصبحت الدنيا والمال والجاه، والسلطان والأسرة والعشيرة مجرد وسائل مشروعة لبلوغ المرام الأسمى، والفردوس الأعلى.

فالانصباغُ بالصِّبْغَةِ الرَّبَّانِية في القصد والتّوجّه، والحُكْم والاحتكام، والغضَب والرضا، والحُبّ والبغض، والتربية والتكوين والتعليم، والتَّنمية والاستثمار، والتولية والعزل، والنُّصْح والنَّقْد والتَّشْجيع… هو السِّرُّ الكبير ورَاءَ الانتصارات والفتوحات التي أثمرتْ حضارة تسود فيها القِيَمُ السامية، وتُهَيْمِن عليها الأخلاق الكريمة.

سبب التراجع الحضاري :

وبعد بُرْهة قصيرَة من الزمن لا تتعدى أربعة أجيال -أو أقل أو أكثر- بدأ الإنسان الرّبانيُّ/الرسالي يَخْتفي على صعِيدَيْ الإمَامَة الفِكرية والسِّياسية، ويَحُل محله الإنسان الطينيُّ الذي أعاد للإنسان سيرتَه الأولى من تقاتُل على الأرض، وحميّة للعصبيّة، وعبادة للجاه والكُرْسي والمال والشهوات، فتشَوّهت المبادئ الإسلامية عندما تلَوَّنَتْ بالأهواء البَشَرِيَّة سواء كانت على شكل مذاهب فكرية أو فقهية، أو على شكل نزعات قومية وعرقية، أو على شكل مؤسسات حزبية وسياسية.. فَكُلُّ ذلك أطفأ نور المبادئ الإسلامية المجردة عن الزمان والمكان والإنسان، وجَعَلها قيمةً بشريَّةً لا تَقْوى على التحدِّي ومُجابهة القِيَمِ الأرضية المنافِسة لها -وإن تَزَيَّتْ بِأَزْيَاء الدين وأَشْكَالِهِ- فكان طبيعيا جدا في سنة الله تعالى الكونية أن يَبْدأ العدُّ التنازُلِيُّ التدريجيُّ للحضارة الإسلامية التي أصبحت روابِطُهَآ بالله تعالى وَاهِيةَ ضَعيفةً لا تَحْتَلُّ البُؤْرة والمَرّتَبَةَ الأولى، وإنّما تَقْتصر على جَعْل الدِّينِ مَجْرُوراً للتّبْرير والمُصَادَقَةِ والمباركة والتمويه والمخادعة، فَكَيْفَ يَنْصُرَ الله من يَفْتَاتُ عليه دينه وهو القائل >إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ<-سورة محمد-، ويقول : >الذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ<-سورة البقرة- أي يَتَّبِعُونَهُ ويَجْعَلُون كُلَّ خطواتِهِمْ تَابِعَةً لأَمْرِهِ وتوجيهه، فَهُو الإمَامُ المتْلُوُّ والمتْبُوع، وهم التّابعُون المُقْتدُون، فتلك هي التِّلاوة الحقُّ للقرآن الإمام، وتلك هي الربَّانِيّة الحقُّ المستحقَّةُ للنصر والفَتْح والسيادة والهَيْمَنَة المحبوبة. أمّا التلاوة المزيَّفَة، وأما التَّدَيُّن المغشوش، وأما المظهَرُ الخادع فلا يستَحِقُّ منَ اللَّهِ نَصْراً ولا تَمْكِيناً.

ولإنقاذ المسيرة الإنسانية من الدمار المحقق لابد من إعادة تشكيل الإنسان الرباني الذي يُبلورُ مفاهيم السُموّ الإنساني بشكلٍ عَمَليّ يُرى ويُلْمس في مختلف المجالات فيصبح المسلمون المُؤْتَمَنُون على إرث النبوة قرآنا يمشي على الأرض بتلقائية وعفوية، يَنْشُرُون الأمن والسكينة، ويَزْرَعُونَ المحبة والأخوة، ويُبَشِّرُون بالفَوْزِ والفلاح الدنيوي والأخروي، ولا سبيل لذلك إلا عن طريق تصنيع القيادة الصالحة المؤثرة في الأمة، والإمامة الهادية للحق بالحق.

وظيفة الإصطفاء :

وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم المرجعية العليا للمسلمين بقوله : >تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا : كِتَابَ اللَّهِ وسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ<-رواه الإمام مالك، انظر التاج 1/47-.

وبما أن المشكلة الكبرى تكمن في وجود حُرّاس هذه المرجعية وأمنائها الساهرين على حفظها بالتطبيق والحماية من الاعتداء على حدودها، فلقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته مرْكَزَ الثقل في الحفاظ على هذه المرجعية وإصلاح الأمة عن طريقها، فقال عليه الصلاة والسلام : >صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِى إذَا صَلحَا صَلَحَ النَّاسُ : الأُمُرَاءُ والفُقَهَاءُ< وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه >اعْلَمُوا أَنَّهُ لاَيَزَالُ النَّاسُ مُسْتَقِيمِينَ ما اسْتَقَامتْ لَهُمْ أئِمَّتُهُمْ وهُدَاتُهُمْ<-جامع بيان العلم وفضله 1/226- فهذان الركنان هما حَجَرا الزاوية في العملية الاصلاحية، إذا وقع الحرص على اصطفائهما وتكوينهما، فوظيفة الاصطفاء تصنيع الساسة العادلين، والعلماء العاملين.

وإن تعجَبْ فاعْجَبْ لأمة لديها مرجعية محفوظة تتوفر على دستور الإصلاح واستراتيجية التغيير للأحسن، والتحذير من الهبوط، ومع ذلك تستكين لأعدائها الذين يُصَنِّعُونَ لها القادة السيّاسيّىن، والأئمة الفكريّين الذين يتَولّوْن إتْلاَفَها وإضْلالها، قال صلى الله عليه وسلم : ((إنَّما أَخافُ على أُمَّتِي الأَئِمَّة المُضِلِّينَ))-رواه ابو داود-، في الوقت الذي لا تكاد تعثُر في مختلف الشعوب الإسلامية على مدارس أو معَاهِدَ ومراكز خاصة لتخريج الدعاة والهداة وتَصنيع الأئمة القُدوة، حُرَّاس الدين وحُمَاةِ المِلَّةِ، وهذا بقدر ما يدُلُّ على الضُّعْف الإيماني المتمكن من نفوس النافذين، فهو يدُلُّ أيضاً على عَجْز