زين العابدين الركابي
لسنا نبتعد بهذا المقال عن موضوع (حاجة البشرية الى الرؤية السديدة الواضحة طويلة المدى) -الذي طرح في الأسبوعين الماضيين- فمن صميم هذه الرؤية: (النظرة العقلانية والأخلاقية والإنسانية الى الدين والتعامل معه على هذا الأساس). لقد اعترف رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير بأن >للدين دوره الكبير والعميق في حياته وتصرفاته<. قال ذلك بعد ان ترك منصبه الرسمي، وفي خضم انتقاله من البروتستانتية (المذهب المسيحي الرسمي لبريطانيا) الى الكاثوليكية: وهو انتقال: ما منعه منه -في اثناء المنصب- إلا القانون او العرف الرسمي الراسخ وهو: ألا يتولى رئاسة وزراء بريطانيا إلا بروتستانتي (وهذا الاعتبار نفسه دليل على مكانة الدين ومكانه في القوانين والأعراف الرسمية في المناصب العليا، والهويات الأساسية لدولة مثل المملكة المتحدة).
وفي آخر (خطاب اتحاد) يلقيه: اعترف الرئيس الأمريكي جورج بوش بأن >للدين أو الإيمان أثره العميق في حياته وسلوكه<.
والقول الأول -ها هنا- : إن من حق أي إنسان -بمن في ذلك الرؤساء والزعماء- أن يطوي ضميره على إيمان، فليست الرئاسات بمانعة من الإيمان، وليس الإلحاد أو الكفر المطلق شرطا في توليها. لذا فإن عقلاء الناس وأسوياءهم -من كل أمة- يعجبون من إصرار النهج العلماني -في مفهوم من مفاهيمه الغالية- على تجريد رأس الدولة وأكابرها من كل سمة تدين، أو رائحة إيمان!!.
ولنتجاوز مسائل التدين أو الإيمان الشخصي، إذ ان ذلك يدخل في (الحرية الفردية للاختيار العقدي).
إنما جوهر الموضوع هو (الرؤية العمشاء أو العمياء للدين عبر مفاهيم وممارسات خاطئة).. ومن هذه المفاهيم والممارسات المعوجة: الاستغلال السياسي للدين بتوظيفه في خدمة أجندات استراتيجية وسياسية هي نقيض مبادئه ومقاصده وأخلاقياته الخيرة النبيلة الحقة الصادقة: الفواحة بالحق والعدل والسماحة والسلام.
ولاستغلال الدين -في غير ما أنزل من أجله- : قصة معتمة دامية باكية في التاريخ البشري.. مثلا: هناك (الحروب الصليبية).. ولنا تحفظ على هذا المصطلح لأنه هو نفسه مصطلح معجون في الاستغلال السياسي للدين، بمعنى: أن تلك الحروب ألصقت بها كلمة (الصليبية) : ابتغاء تحريك المؤمنين بالصليب وإهاجتهم وتجييشهم للحرب، وإلا فإن دوافع تلك الحروب وأهدافها: لا علاقة لها بنبي الله المسيح صلى الله عليه وسلم ولا علاقة لها بتعاليمه التي جاء بها وعاش من أجلها حتى رفعه الله إليه وهذه هي شهادة التاريخ على الاستغلال السياسي للدين:
أ- يقول جواهر لال نهرو -في كتابه: لمحات من تاريخ العالم- >إن من أسباب الحروب الصليبية ان روما أرادت اخضاع القسطنطينية حيث ان كنيستها كانت أورثوذكسية ومستقلة عن كنيسة روما، ولا تعترف بالبابا، بل تعتبره محدث نعمة، ولا ننسى ان من تلك الأسباب: السبب الاقتصادي. فقد كان أصحاب التجارة والمصالح في البندقية وجنوة يقاسون من كساد تجارتهم.. ولم يكن الرجل العادي يعرف هذه الأسباب الحقيقية الخفية. ولم يكن يعلم ان الزعماء -كزعماء الحروب الصليبية- إنما يلجأون الى الخطب الرنانة، والتظاهر بالحرص على الدين لإخفاء أهدافهم الحقيقية. لقد خدعت الشعوب يومئذ، ولا تزال تخدع إلى اليوم<!.
ب- ويقول ارنست باركر -في كتابه: الحروب الصليبية- : >ينبغي التسليم بأن هناك اغراضا دنيوية اجتذبت في الحروب الصليبية جموع الدهماء، فما حدث في مواطنهم من المجاعات والاوبئة: دفع الناس الى الهجرة الى الشرق، ومن الاصوب ان نقول: ان رجال الدين اطلقوا اسم الحروب الصليبية لتبرير المصالح والمطامع التي حدث ان اتفقت مع ما اختاروه من وسائل، على الرغم من ان هذه الحروب انطلقت لتحقيق أغراض مخالفة لأغراض الكنيسة، مثال ذلك: ما كان من طموح الأمير المغامر والابن الأصغر لـ (جويسكارد)، الحريص على ان يقيم لنفسه إمارة في الشرق<.
نعم.. نعم.. نعم (ترليون مرة): لا يزال الناس يخدعون بالدين، ولا يزال الابتزاز السياسي والاستغلال الاستراتيجي للدين: يمارس، في أعلى المستويات، وعلى المستوى الدولي، وفي عصرنا وعالمنا هذا.
ومساحة المقال لا تتسع إلا لمثلين اثنين من (الاستغلال السياسي الغليظ للدين):
1- المثل الأول : (التسويغ الديني للحرب على العراق).. لا ريب في ان للحروب مسوغات شتى: وكان يمكن ان تسبب الحرب على العراق بأسباب دنيوية (على افتراض ان للحروب العدوانية أسبابا مشروعة)!، بيد ان أباطرتها الكبار دسوا في دوافعها (لغما دينيا):
أ- قال الرئيس الأمريكي جورج بوش: >انه سمع هاتفا إيمانيا يهتف به: جورج، اتخذ قرار الحرب على العراق<.
ب- وقال توني بلير: >لقد دخلت في صراع مع ضميري حول مشاركة الولايات المتحدة في شن حرب على العراق. ولقد استلهمت العقيدة فأيقنت >!!!< ان قرار الحرب على العراق هو من مشيئة الله وفعله< !!!!!!.
2- المثل الثاني: ان عددا من (الجمهوريين) الذين رشحوا أنفسهم لكسب اصوات الحزب للتقدم نحو نيل رئاسة الجمهورية الأمريكية.. ان عددا من هؤلاء دخلوا في مزايدات ومضاربات سياسية وإعلامية حول: أيهم أشد كراهية للإسلام، واشد عداوة لأتباعه المسلمين. وقد تخلل المزايدات ما يشبه الوعود بشن حروب كونية على دين الإسلام واتباعه: بحسبان ان الإسلام دين إرهاب، وأن المسلمين أمة إرهابية.
والعلم موفور بأن في سوق المزايدات السياسية (وهذا من العيوب القاتلة في الديمقراطية) يستباح كل شيء دنيوي. ولكن من السقوط الأخلاقي، ومن اللؤم السياسي، ومن العمى التاريخي والحضاري: إخضاع العقائد الدينية للمضاربات السياسية والإعلامية.
وأجرم الجرم ـ ها هنا ـ: إظهار هذه المزايدات الساقطة في مظهر (الانتصار) للمسيح ودينه.. لقد نقضنا من قبل في ما يقرب من سبعين مقالا: الاستغلال والتوظيف السيئ لدين الإسلام: على يد غلاة مسلمين وعلى يد سياسيين انتهازيين مسلمين أيضا.. وننقض -ها هنا- : دعاوى الذين يوظفون دين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام لخدمة اغراضهم وبرامجهم وطموحاتهم السياسية.
ان تعاليم المسيح حق كلها.. عدل كلها.. خير كلها.. نور كلها: >وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين<.. ومن ناحية التطبيق الأمين، والسلوك الراقي النبيل: كان المسيح يعدل ولا يظلم. ويصدق ولا يكذب. ويتواضع ولا يتكبر. ويبني الإنسان ولا يهدمه. ويرفق ولا يعنف. ويؤثر العقل والضمير على سيادة القوة.. وكان يتجرد للدين الحق ولا يتخذه مطية لصيد الدنيا، والتهافت على المناصب.. فإذا رأيت أقواما (كأولئك يشتمون الإسلام في برامجهم الانتخابية بدعاوى تمسكهم وغيرتهم على المسيح ودينه).. إذا رأيت أقواما يصبغون مواقفهم ومسالكهم السياسية بصبغة المسيحية، بينما هم على الضد من تعاليم المسيح الحقة ـ في واقع الحال ـ، فأيقن بأنهم مراؤون يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي يشترون بها كرسي الرئاسة مثلا.
وهؤلاء المتنافسون في كراهية الإسلام ومحاولة النيل منه في سوق الانتخابات الأمريكية يقترفون (جناية دنيوية) ـ كذلك ـ وهي جناية تعليق الدستور الأمريكي أو إلغائه في سبيل مطامحهم وأهوائهم. فالتعديل الأول من الدستور الأمريكي ينص على أن الدولة الأمريكية: لا تتبنى دينا، ولا تعادي دينا (وهذه هي العلمانية الحيادية) -إن صح التعبير-.. ومما لا ريب فيه: ان معاداة الإسلام -على ألسنة ساعين الى رئاسة الدولة- : إنما هي مخالفة سافرة وغليظة للدستور الأمريكي.
وثمة جناية ثالثة يقترفها هؤلاء وهي (الاعتداء على حقوق مواطنين أمريكيين) وهم مسلمو الولايات المتحدة. فهناك نحو ثمانية ملايين مسلم أمريكي.. وبموجب حق المواطنة: يتوجب احترام عقائد هؤلاء المواطنين الأمريكيين -على الأقل- : إذا استحال >!!!< على هؤلاء المهاجمين للإسلام: احترام عقائد أمة تعادل -في الحجم والعدد- سكان الولايات المتحدة الأمريكية: خمس مرات!
وبمقاييس الرؤية البعيدة المدى لسعادة الأسرة البشرية واستقرارها وأمنها وسلامها، فإن هؤلاء الذين يستغلون الدين، ويزرعون البغضاء باسمه، وغيرة عليه، ويتنافسون في التهجم المجنون على دين كبير، تؤمن به أمة هي خمس سكان الكوكب من الأناسيَّ.. هؤلاء إنما هم (عميان استراتيجيون): بمنطق الرؤية السديدة الواضحة بعيدة المدى للشأن الديني.. ومن هنا يتعين على كل حريص على الأمن الدولي، والسلام العالمي: أن يستوعب الحقائق والوقائع التالية -استيعاب عقل وجِدٍّ ومسؤولية لا استيعاب لهو وترف وإهمال وسوء حساب- :
أ- حقيقة: ان العالم يموج موجا متصاعدا بصحوات دينية من كل نوع، وفي كل أمة، وما لم يوجد مناخ سمح تتعايش فيه هذه الصحوات، فإنه من المؤكد: نشوء (حروب باردة) جديدة، ربما تكون أسوأ من الحرب الباردة التي نشبت بين المعسكرين: الشيوعي والرأسمالي من قبل.
ب- حقيقة: ان الإسلام -بوجه خاص- يتعرض لحملات كراهية وتشويه ومعاداة، وهي حقيقة انتظمها تقرير للأمم المتحدة في عام 2004.. ولقد جاء في ذلك التقرير: >لا بد من استراتيجية تهدف الى مكافحة معاداة الإسلام، وان تعتمد هذه الاستراتيجية على التثقيف، ولا شك أن الحاجة ماسة إلى أن تقوم السلطات العامة بدورها في نقض معاداة الإسلام<.
ج- حقيقة (تطويل عمر الإرهاب) في عالمنا. فهذه العداوات المغلظة المتصاعدة ضد الإسلام من شأنها أن: ترسخ في وعي شرائح عريضة من الشباب في العالم الإسلامي فكرة أن هناك (حربا عالمية ضد الإسلام)، وأن الجهاد أصبح فرض عين في هذه الحال، ولما كانت الحكومات لا تنهض بهذا الواجب، فقد تعين الجهاد بدون إذن ولا ترخيص (هكذا تصدر الفتاوى وتحصل التعبئة في الأقبية والسراديب).
فهل يدرك العميان الاستراتيجيون هذه الحقائق.. وإذا لم يدركوها: هل يعقلها عقلاء العالم. ويعملون بمقتضاها؟.
> الشرق الأوسط ع 10667