حـوار الحضـارات والثقـافـات بين المعـرفي والسيـاسي


تقديم

كثر الحديث اليوم بشكل لافت للنظر عن حوار الحضارات،وحوار الثقافات، وحوار الأديان؛ ولا يكاد يمر يوم إلا وتعقد فيه مؤتمرات أو ندوات أو تلقى فيه محاضرات في مختلف بقاع العالم ودوله وكل ذلك يحظى بأهمية إعلامية خاصة، كما أنه لا تكاد تصدر جريدة يومية أو أسبوعية أو مجلة شهرية أو دورية إلا وتجد فيها اهتماما بقضايا الحوار الحضاري والثقافي والديني.ولا تتصفح المواقع الإلكترونية إلا و يعترضك سيل كبير من الموضوعات المتعلقة بهذا الجانب ذات نزوعات مختلفة ومواقف متباينة ومعالجات متفاوتة ونتائج متباينة، لذلك يتساءل المرء ما هي الدواعي لهذا الحوار بهذا الحجم والهالة؟ وهل التركيز في السنوات الأخيرة على الحوار بين الحضارات/الثقافات له منطلقات وأهداف موضوعية وبريئة أم أنه استراتجية مدروسة لها خلفياتها غير المعلنة؟ وهل الحاجة إلى الحوار متساوية بين الضعيف والقوي أم هي متفاوتة؟ومن هو الطرف الذي يحتاج للحوار أكثر؟ ولماذا يحرص الأقوياء على رعاية هذه الحوارات وتوجيهها والدعوة إليها وإنفاق الأموال الكبيرة عليها وتجنيد الطاقات الفكرية والسياسية من مختلف التوجهات والبلدان والمستويات للإسهام فيها والترويج لها؟ ثم لماذا يتوجه الخطاب بالحوار بأنواعه المذكورة إلى العالم الإسلامي بالأساس؟ ألأن العالم الغربي يؤمن بالحوار ويعمل به ولم يبق إلا دول العالم الإسلامي للقبول به وتطبيقه؟ وهل يمكن الحديث عن حوار الحضارات والثقافات والأديان بدون الحديث عن الحوار السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري؟ وكيف تؤثر اختلالات التوازن الدولي المعاصر والهيمنة المجحفة على مستقبل التوافق والتعايش والحوار المضغوط بالقوة الحربية للطرف الغربي عموما والأمريكي خصوصا؟بمعنى آخر هل هذه الحوارات معرفية خالصة أم هي حوارات إيديولوجية وسياسية تحركها مصالح محددة ؟ وما هي حدود المعرفي والسياسي في هذه الحوارات في الواقع الدولي المعاصر؟

الخلفيات النظرية

لابد أولا من الإشارة إلى السياق العام الذي أدى إلى زيادة الاهتمام بهذه الموضوعات، ويمكن إجمالها في العناصر التالية :

- تزايد التهديد الغربي لدول العالم الثالث سياسيا وثقافيا واقتصاديا :إذ ما كاد العالم الثالث والإسلامي يخرج من حالة الاستعمار الغربي حتى وجد نفسه محكوما بقوانين النظام الدولي التي فرضتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية(خاصة تقسيم العمل الدولي)،كما وجد نفسه من جديد أمام تنافس رهيب لهذه الدول عليه، فخرج العالم الإسلامي من استعمار عسكري ودخل في استعمار سياسي ثقافي واقتصادي أشد مكرا وخفاء من الاستعمار العسكري،لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم زادت الأطماع في العالم الإسلامي وظهر التدخل السافر والمباشر سياسيا وعسكريا وثقافيا ودينيا في فلسطين وأفغانستان والعراق وتهديد السودان وليبيا وإيران وسوريا…والتدخل المباشر أيضا لفرض إصلاح المناهج التعليمية والبرامج الإعلامية والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يناسب التوجهات الأمريكية ؛ مما جعل العالم يستيقظ كل يوم على تهديد أو تفجير وحرب ونذر حروب قادمة وتوتر في العلاقات أصبح يضر بالمصالح الغربية والإسلامية في المنطقة الإسلامية والعالم بأسره حالا ومآلا، هذا الوضع الدولي المتشنج بين المسلمين والغرب فرض على أصحاب المصالح الكبرى التلويح بالحوار والتعايش والدعوة إلى ذلك ليل نهار لتأمين استمرار مشروع الهيمنة ووقايته من التعثر.

- الخوف من تصاعد موجات الرفض للعولمة الغربية : زد على ذلك أن موجات الرفض للهيمنة الغربية الأوروبية والأمريكية ومنظومتها العولمية أصبحت أصواتها ترتفع يوما عن يوم في أوروبا وأمريكا وخارجهما مما أصبح يهدد بتدمير هذه المنظومة العولمية لذلك تم الاستجداء بالمثقف والمفكر والمدرس والإعلامي للمساعدة في معالجة قضايا الخلافات السياسية ومحاولة إخفاء وجهها السياسي الأسود ورد الأزمة إلى أسباب كامنة في بنية الثقافات والأديان والحضارات، وأن من أهم وسائل معالجة هذه الصراعات يكمن في البحث في جذور التطرف والتعصب والاعتداء والإرهاب في بنية هذه المكونات كما أن معالجتها – بعد تشخيص الداء- يكمن في ضرورة الحوار والتفاهم والوعي بأهمية المصير المشترك للمجتمعات الإنسانية وتخلي أبناء الحضارة الحاملة لبذور العنف (وهم هنا أبناء العالم الإسلامي) عن ثقافتهم وتعديلها أو تغييرها بثقافة وحضارة ودين القوي المتحضر (منظومة العولمة)!!

- محاولة تلميع صورة الغربي واحتواء الأصوات الناقمة: تركزت موضوعات حوار الثقافات والحضارات والديانات في الترويج لنماذج الحُسن في الحضارة الغربية ومواطن القوة الإيجابية في الدول الغربية وأنظمتها الثقافية والحضارية مثل حقوق الإنسان، وضعية المرأة، الاستقرار الاجتماعي، والرفاه الاقتصادي والديمقراطية والعلمانية مما يغري الطبقات المثقفة والفئات المحرومة- وهي عريضة- في البلدان المتهمة بمسؤوليتها عن الشر في العالم بتغيير صورتها عن الغرب والاقتناع بضرورة هذه المبادئ التي تم تصويرها على أنها مبادئ إنسانية كونية ووجوب نقل التجربة الغربية وتعميمها بحذافيرها. وفعلا نجحت هذه الحوارات في التأثير على شريحة عريضة من المثقفين واستطاعت الدول الغربية والولايات المتحدة كسر حاجز العزلة والكراهية وتقليص دوائر العداء لها وإيجاد “أصدقاء لها عقلاء ومتفهمين ” يدافعون عن هذه المبادئ ضد من لا يزال رافضا لها من أبناء البلدان الإسلامية نيابة عن الدول الغربية.

- التمهيد لمزيد من السيطرة بفتح الأسواق وتذويب الصراعات وإضعاف الثقافات المحلية وتعديل الدين الإسلامي على الطريقة الغربية عموما وعلى الطريقة الأمريكية خصوصا: إن ارتفاع موجات الكراهية للغرب بات يهدد مستقبل وجوده في العالم الإسلامي وبات يهدد مصالحه الحيوية، خصوصا إذا علمنا أن أسلوب محاربة الجماعات الناقمة لم يعد كافيا لأنها ليست دولا ذات حدود ومصالح يمكن تدميرها وإنما مجموعات خفية ومتناسلـة وشديدة التنظيم وتعمل بمبدأ حرب العصابات والهجومات المباغتة وأصبح بإمكانها امتلاك أسلحة تدمير متطورة ولذلك فإن تصاعد العداء للغرب سيقوض كل مشاريعه التوسعية والهيمنية وقد يؤثر في التوازنات الدولية، ولعله من هنا جاءت الدعوات الملحة من الغرب بضرورة إقامة جسور التفاهم والتواصل وتصدير ثقافة الإيمان بالتعددية الثقافية والدينية والحضارية وضرورة التعايش في الوقت الذي لا يكف الغرب- إلى الآن وفي المستقبل المنظور-عن التهديد والاستباق إلى التدخل المباشر وبقوة لفرض سياسة الأمر الواقع سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا ومن هنا يظهر أن الدعوة لمثل هذه الحوارات تعطي للدول الغربية مزيدا من الفرص لإضعاف الجبهة الداخلية للمسلمين وقبول التعايش مع واقع الهيمنة الماحقة من غير عزة ولا كرامة ولا هوية ؛ إذ كلما قل المخالفون والمعادون للغرب إلا وتمكن هذا الأخير من تحقيق المزيد من مشاريعه التوسعية والعولمية، ومن هنا يجب الوعي بأهمية الحوار مع الغرب ومع جميع الأطراف الدولية لضمان مكاسب الحضور الفاعل والمتوازن في التفاعل الدولي المعاصر بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للعالم الإسلامي وبالنظر إلى الرسالة الإنسانية التي يحملها المشروع الإسلامي للعالم وهي رسالة تحرير الإنسان والمجتمعات البشرية من المظالم القاسية التي ينضح بها الفكر الغربي ولا يمكنه التخلص منها إلا بالعودة إلى ظلال الإسلام الوارفة.

لذلك يتساءل المرء أمام هذه الخلفيات النظرية هل حوار الحضارات والثقافات والأديان حوار معرفي وموضوعي أم حوار سياسي يقوده الكبار؟.

البعد المعرفي

يتخذ حوار الحضارات والثقافات والديانات بعدا معرفيا وفكريا خالصا ؛ ويحاول أن ينأى بنفسه عن الصراعات السياسية وإكراهاتها وما تلطخت به من صور مقيتة في إساءة الآخر القوي إلى الضعيف، ولذلك يتوسل بالمفكر والمثقف ورجل الدين العالم لإيجاد آليات معالجة الاختلافات والاختلالات الموجودة بين أهل الحضارات والثقافات والديانات وهي معالجة ترمي إلى محاولة التأثير في المكلومين وإقناعهم بضرورات التعايش مع الآخرين وتفهم أهمية التنوع الثقافي والفكري والديني في إثراء المجتمع الإنساني الواحد.

ولذلك فإن دراسة الحضارة والثقافة والأديان أريد لها أن تكون موضوع علم الأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع الديني وعلوم الإعلام والاتصال ومقارنة الأديان..،ويُدعَى أنه ُيدرس من هذه الناحية دراسة علمية تكشف عن إشكالاته وعن مفاهيمه المركزية وعن قضاياه وحجم تدخله في التأثير على سلوك الأفراد والجماعات والشعوب، لهذا السبب ازداد الطلب في إصلاح المنظومات التعليمية والجامعية الحالية وإحداث تخصصات لدراسة اللغات والحضارات ومقارنة الأديان ومسائل التنوع الثقافي وعلم الاجتماع الديني… واستدماج مفاهيمها في المقررات والمواد التعليمية منذ المراحل التعليمية الأولى. لذلك كانت المراهنة كبيرة على الإصلاح التعليمي لما له قدرة على التأثير في الناشئة، ولما للدراسات والبحوث الجامعية من الإسهام بالكشف عن معضلات الحضارات وبنية الثقافات والأديان لأن كل ذلك يساعد في معالجة هذه القضايا معالجة معرفية وعلمية بعيدة المدى وقوية المفعول،كما أنها تدفع عنها شبهة ما هو سياسي وإيديولوجي ويمهد لتكوين أجيال مؤمنة بالتنوع ومؤهلة للتفاهم قابلة لتغيير مواقفها وثوابتها بحسب ما يمليه الظرف من غير تعصب ولا تزمت ولا انطواء. وهذا يذكرنا بالدراسات الاستشراقية الغربية إذ هي نفسها انطلقت مغلفة بما هو علمي ومعرفي وتذرعت بنفس الأدوات لتنكشف مع المدة أنها كانت أداة في يد الاستعمار سهلت له عملية احتلال الشعوب واستعمارها، ولعله لا نبعد عن الحقيقة إن قلنا إن هذا الاهتمام المتزايد بالحضارات والثقافات والأديان وحواراتها والذي يتغلف اليوم بأغلفة علمية وفكرية ومعرفية ويتوسل بأهداف إنسانية نبيلة سيكون مقدمة لغزو ثقافي تذوب فيه الثقافات الصغرى وأديانها في نظام الثقافة الغربية والأمريكية التي تخطط مستقبلا لتوحيد العالم ضمن عولمة شمولية لا تبقي ولا تذر إلا من أتى الله بقلب سليم فيؤتيه الله الحكمة وفصل الخطاب ويمكن له التمكين الذي يؤهله للشهود الحضاري. فهل يصح بعد هذا الاكتفاء بالقول بأن حوار الحضارات حوار معرفي؟

البعد السياسي

إن ادعاء تناول موضوعات الحضارة والثقافات والأديان تناولا علميا ومعرفيا يطرح صعوبات كثيرة ترجع إلى طبيعة موضوع الدراسة الذي يصعب إخضاعه لمقاييس التحليل العلمي الموضوعي لأن هذه الموضوعات تنتمي إلى مجال الدراسات الإنسانية التي يصعب الحديث فيها عن التحليل العلمي والموضوعية والنزاهة ويصعب الوصول فيها إلى نتائج علمية دقيقة، بسبب صعوبة الفصل بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي وبين ما هو معرفي وما هو سياسي إذ غالبا ما تتدخل ذاتية الباحث ومسبقاته الثقافية في دراسته لثقافة الآخر، كما تتأثر دراسة الباحث هنا بقناعاته الدينية والسياسية وأطره الحضارية. ومما يؤكد تدخل السياسي والإديولوجي في هذه الدراسات الجديدة تبني الحكومات الغربية لها ورعايتها وتشجيع مواصلة الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات، كما ترعاه المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكبار مثل هيأة الأمم المتحدة ومؤسساتها مما يعني عدم براءة التوجهات المتزايدة للدعوة إلى هذه الحوارات من خلفياتها السياسية بل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الشعارات المعرفية والقيمية الإنسانية موجهة طوعا وكرها بالقرار السياسي للدول الكبرى ذات المصالح الكبرى والحيوية في عولمة العالم وإزالة الحواجز التي تعترضها من قبل الثقافات الإنسانية التي لها طموحات عالمية لإنقاذ البشرية من شرور الهيمنة الغربية  حضاريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وخلقيا.

وفي الأخير يمكن القول إن تصاعد النداءات لحوار الحضارات والثقافات والأديان جاء نتيجة الحاجة الملحة للاستقرار والتعايش وإن كان البعد المعرفي حاضرا فإن البعد السياسي أكثر حضورا وقد لا يكون ذلك عيبا إلا إذا حاد الحوار عن ضوابطه الإنسانية ورام فرض إرادة الأقوى أما إذا كانت النوايا صادقة في الحوار المثمر للخير العام، وكانت الرغبة مخلصة في التعايش الإنساني العادل والآمن فهو حوار محمود ومطلوب ولن يكون كذلك إلا بأمرين على الأقل أن يرتقي الطرف المسلم إلى مستوى الرسالة الإسلامية علما وعملا وتبليغا، وأن يتخلى الطرف الغربي القوي عن مسبقاته الخاطئة وعن نزوعاته الهيمنية وعن قوانين المنتظم الدولي الحالية التي تتسم بالجور وبتكريس السيطرة الغربية وضمان استمرارها مستقبلا، وهذه الإرادة غير متوفرة حاليا مما يعرقل كل مساعي السلام العالمي والتعايش والاستقرار ويبدد كل الجهود الطيبة في الحوار والتواصل والتفاهم والتعاقد على مبادئ مشتركة تخدم مصالح الجميع بالتساوي.ورغم ذلك فالأمل معقود على أصحاب الضمائر الحية في كل المجتمعات للنهوض بحوار جاد يحقق العدل والكرامة للجميع،والأمل في تغيير مجرى التاريخ نحو الأفضل معقود أيضا  على جهود أهل الخير في اكتساب أسباب القوة للاقتدار على الدفع والمدافعة لترسيخ قيم العدل والإخاء والتعاون  والتكافل الإنساني.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>