جـ- “عـرض وتـعـلـيـق”
نتحدث في هذه الحلقة عن الوظائف الدلالية لحرف الجر “في” وهو الحرف الثالث من بين حرفي الجر اللذين ذكرنا وظائف كل منهما وقارناها بما جاء في الفصل الذي نناقش ما لا نتفق مع استعماله في كتاب اللغة العربية الصحيحة. وفي هذا السياق يقول ابن هشام : “في” حرف جر، له عشرة معان.
1- الظرفية : وهي صلى الله عليه وسلم أي الظرفية رضي الله عنه إما مكانية صلى الله عليه وسلمإنْ كان الظرف مكانارضي الله عنه أو زمانية صلى الله عليه وسلمإن كان الظرف زمانارضي الله عنه كقوله تعالى : أ- {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين}(الروم : 1-4)
ب- {ولكم في القصاص حياة} (البقرة : 179). وكالمثالين
حـ- أدخلت الخاتم في أصبعي، والقلنسوة في رأسي. والملاحظ أن المثال “أ” يتضمن النوعين أي ظرف المكان وهو ((في أدنى الأرض))، وظرف الزمان وهو ((في بضع سنين)). أما المثالان (في أصبعي)، و(في رأسي) الواردان في رقم “جـ” فلظرف المكان فقط بشرط قلبهما أي بأن تقول أدخلت أصبعي، وأدخلت رأسي. وتنقسم هذه الظرفية إلى قسمين : حقيقية كما تدل عليها الأمثلة (أ- حـ) ومجازية كالمثال (ب). وأساس التمييز بين النوعين هو كون الدلالة حسية كما في المثالين (أ- حـ) أم معنوية كما في المثال (ب) ولذا يقول الدسوقي (قوله {ولكم في القصاص حياة} أي فالقصاص وهو الظرف معنى، وكذلك المظروف وهو الحياة، ومثله : النجاة في الصدق، وقد يكون المعنى الحالُّ فيه نحو البركة الأكابر…) 1/180. ويفرق الدسوقي بين الظرفية الحقيقية والمجازية بقوله : “واعلم أن الحقيقية هي ما كان الظرف زمانا أو مكانا والمظروف حسيا، والمجازية ما كان المظروف غير حسي بأن كان معنى من المعاني أو الظرف أو هما” 1/180.
2- المصاحبة كقوله تعالى : أ- {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار..}(الأعراف 38) أي معهم، أو في جملة أمم فحذف المضاف الذي هو (جملة).
ب- {فخرج على قومه في زينته} (القصص : 79). وفي هذا المثال يقول الدسوقي : (قوله في زينته) أي معها. وإنما لم يكن هذا المعنى على الظرفية، لأن الزينة أعمّ من أن تكون ثيابا، أو مركوبا، أو سلاحا، وهذه كلها لا تصلح الظرفية في، بل في بعضها، هذا ويمكن جعل الزينة ظرفا مجازيا. كقوله تعالى :{إن المتقين في جنات وعيون}(الذاريات) وقوله : {إن المتقين في جنات ونهر}(القمر 54) ففي الآيتين “يقدر ظرف مجازي يشملهما أي في نعيم جنات ونهر..” 1/180
3- التعليل كقوله تعالى : أـ {فذلكن الذي لمتنني فيه}(يوسف 32). وقوله : ب ـ {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم}(النور: 14).
حـ- وفي الحديث : “أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها” مسند أحمد الحديث 7538. وفي البخاري ومسلم : من جراء هرة. والمراد بالتعليل : ما يشمل السببية، وعليه يكون معنى “لُمْتُنَّني فيه” في المثال “أ” أي بسببه. وكذلك المعنى في قوله “فيما أفضتم فيه” في المثال “ب” أي بسبب ما أفضتم فيه. وكذلك الأمر في المثال “حـ ” في هرة أي بسببها ولأجلها.
3- الاستعلاء : كقوله تعالى : أـ {ولأصلبنكم في جذوع النخل}(طه 71). وقول الشاعر: ب ـ “هم صلَّبوا العَبْديَّ في جذع نخلة” وقوله : حـ : “بطلٌ كأن ثيابه في سرحة.”. فقوله “في جذوع”، في المثال : “أ” أي عليها لأن التصليب لا يكون في بطنها، وقيل إن فرعون كان يشق الجذع ويضع الشخص فيه وحينئذ صلى الله عليه وسلمتكونرضي الله عنه في للظرفية والمقصود -والله أعلم- هو تشبيه، المصلوب لشدة ربطه للجذع بإحكام بالحالِّ فيه. فالأمر يتجاوز الاستعلاء الذي تفيده على، ولا يصل إلى درجة الظرفيه التي هي الوظيفة الأصلية ل “في” فالحدث وسط بين الاستعلاء والظرفية. وتتمة المثال حـ : ((يحذى نعال السِّبت ليس بتوأم)) ويحذى، أي يجعل له نعال (السِّبت)(ü) والسِّبت هو جلد البقر المدبوغ بالقَرَظ. ومنه النعال السِّبتية وهذا يعني أن هذا البطل يلبس أحسن النعال، ثم أضاف إلى مدحه وتمجيده “ليس بتوأم” بل منفرد في ولادته وفي بطن أمه، ولذا كان شجاعا قويا، بخلاف التوأم الذي له شريك في اللبن ينشأ ضعيفا. ونظرا لقوة هذا البطل الممدوح. فإن جسمه طويل، وهو ما يفيده قوله كأن ثيابه( في سرحة)، والسرحة هي الشجرة العظيمة، أي كان ثيابه على شجرة عظيمة، إذ الثياب تكون على الشجرة لا في جوفها، وهنا يتجلى أن دلالة (في) بمعنى على، ذلك أن هذا الممدوح طويل وقوي كالسرحة. 5- مرادفة الباء، كقول الشاعر :
ويركب يوم الروع منا فوارس
يصيرون في طعن الأباهر والكُلى
وفي مرادفة للباء في معناها الأصلي الذي هو الإلصاق في هذا البيت – ولو مجازا لأن الصاقهم البصارة بالطعن للأباهر مجاز لأن المراد هو شدة تعلقهم بالطعن صلى الله عليه وسلمفي أماكن يكون الطعن فيها مميتارضي الله عنه، وهي : الأباهر جمع أبهر صلى الله عليه وسلموهورضي الله عنه عرق إذا قطع مات صاحبه، وكذلك الأمر بالنسبة للكلي جمع كلية وهي المسماة بالكلوة، والمعنى أن هؤلاء الفرسان الذين جمعهم على فوارس على غير قياس شجعان يوم الروع، أي يوم المعركة، وهم مهرة في القتال لا يخطئون ضمن طَعْن أعْدائِهم في أماكن مميتة، وهذا ما لخصه الشاعر بقوله : “في طعن الأباهر والكلى”.
6- مرادفة إلى، كقوله تعالى :
أ ـ{جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به}(إبراهيم : 6).
ومعنى مرادفتها إلى هنا أي في معناها الأصلي الذي هو انتهاء الغاية ولذا يكون معنى قوله تعالى : {ردوا أيديهم في أفواههم} أي إليها. فالغاية التي حركوا أيديهم إليها المعبر عنها بفعل “ردّو” هي أن تصل إلى أفواههم…
7- مرادفة من، كقول الشاعر : ألا عِمْ صباحا أيها الطَّلل البالي
وهل يَعُمْن من كان في العصر الخال
وهل يعُمنْ من كان أحدثُ عهدِهِ
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
قوله “في العصر الخالي” أي من العصر الخالي. فالحرف “في” مرادف للحرف “مِنْ” في الابتداء، ومعنى البيت الأول يساعد على توضيح معنى في بأنها هنا بمعنى “من” ذلك أن “عِمْ” كلمة تحية تقال عند الصباح، وكأن الشاعر هنا يحيى “الطلل البالي” لكن اتضح له بعد ذلك أن هذه التحية لا تنفع مع من يعتبر في عداد الأموات لقدمه وهو الطلل البالي، ولذا استدرك وقال. “وهل يعُمْن” فهل تفيد هنا الاستفهام الإنكاري أي أنه لا يعم. بمعنى أن هذه التحية لا تنفع مع هذا النوع من الكائنات التي مضى عهدها وانقضى وهو ما عبر عنه في الشطر الثاني من البيت بقوله : “وهل يعمن من كان في العُصر الخالي” وعليه يكون معنى ” في العصر” من العُصر، ولذا، تفيد (في) معنى (من). ويشير بالبيت الثاني إلى أحدث مدة يمكن أن تكون عمر هذا الطلل. وعليه فالحرف “في” يفيد الظرفية في آخر الشطر الثاني من البيت وهو قوله : “في ثلاثة أحوال”.
8- المقايسة -وهي الداخلة بين مفضول سابق، وفاضل لا َحِقٍ- كقوله تعالى : أـ {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}(التوبة : 38. فالحياة الدنيا في الآية أعلاه مفضولة، والآخر فاضلة أي فما متاع الحياة الدنيا بالمقايسة على الآخرة، أو بالنسبة للآخرة إلا قليل. وعليه تدل “في” هنا على المقايسة بين أمرين مفضول قبلها وهو الحياة الدنيا، وفاضل بعدها وهو الآخرة، ونتيجة هذه المقايسة هي قلة قيمة الحياة الدنيا الفانية مع نعيم الآخرة الدائمة!.
9- التعويض، وهي الزائدة عوضا من أخرى محذوفة كقولك : أ ـ “ضربت فيمن رغبتَ” أصْلُه ضربت مَنْ رغبت فيه. ف ـ “قوله من رغبْت فيه” أي فحذف (في) وعوض عنها (في) قبل من : فلمَّا حذف في صار ضربت من رغبتَ فتحتمل فيه وعنه، فأتى بفي ليعيّن المراد.
10- التوكيد وهي الزائدة لغير التعويض كقول الشاعر : أـ
أنا أبو سعْدٍ إذ الليل دَجَا
يُخال في سَوَاده يَرَنْدَجَا
وكقوله تعالى :
ب- {اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها}(هود : 41) ومعنى دَجَا الليل في المثال “أ” “أي أظْلَم، ويمكن أن يقال في الشطر الأخير من البيت “يُخال سواده” فزيد “في” للتأكيد، واليرَنْدَج هو الجلد الأسود. وعليه فمعنى “يخال في سواده يرندجا” أي يظن سواده سواد الجلد الأسود. والمثال ب {اركبوا فيها} أي اركبوها. لكن في زيدت أيضا للتوكيد. الدسوقي 1/180-182.
وبعد نورد أمثلة لإدراج حرف الجر”في” كما وردت في كتاب اللغة العربية الصحيحة لنقابلها بدلالات هذا الحرف أعلاه وهي : يقول:
1- ولذا نجد كثيرا من جهابذة النحاة والمهرة في صناعة العربية. إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه… اخطأ فيها عن الصواب” ص 28 س 19-21
2- محاسبة الطالب محاسبة دقيقة على سلامة لغته حتى لا يتخرج (في) قسم اللغة إلا من يتمكن من هذه اللغة… ص 29 س 12-13.
3- والمدارس (ضعاف) في اللغة العربية، وطلاب الجامعات عاجزون عن التعبير عن أنفسهم، وتقديم أفكارهم “في” سلامة ويسر ص 35 س 1-2.
والملاحظ أن دلالات “في” في السياقات الثلاثة لا تتلاءم مع أي معنى من المعاني العشر التي سطرناها قبلها، إذ الصواب حسب ما يبدو في المثال (1) إذا سئل (عن) وفي المثال الثاني(2) حتى لا يتخرّجُ (من) قسم اللغة… في حين أن المثال(3) لا يحتاج إلى حرف الفاء حسب ما يبدو إذ يمكن القول : “وتقديم أفكارهم سليمة” والله أعلم.
والغريب بالنسبة للمثال الأول الذي استعمل فيه المؤلف حرف الجر “في” مع فعل سئل، أنه استعمل حرف الجر “عن” معه في أسطر قبله، وذلك بقوله : “وكذلك لو سئل عالم بالنجارة (عن) تفصيل الخشب” ص 28 س 16.
—– (*) يقول ابن منظور : السِّبْتُ بالكسر : كل جلد مدبوغ، وقيل هو المدبوغ بالقَرَط (وهو شجر يدبغ به) ونعال سِّبتية لا شعر عليها ل ع د2 وجـ7.
المراجع : 1- معنى الل… لابن هشام
2- حاشيته الدسوقي 3- لسان العرب لابن منظور