شهد القرن الهجري الماضي مصلحين كباراً بذلوا النفس والنفيس لإيقاظ هذه الأمة وحثها على التخلص من أسباب الركود والخنوع والتحرر من رِبْقات الجهل والتناحر والنزعات الجاهلية والبدع والخرافات لمواجهة الأخطار المُحدقة والكوارث النازلة وقد تجلت دعوات المصلحين في ميادين الفكر والجهاد المسلح والنضال السياسي ومن أبرز هؤلاء الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وعمر المختار وعبد الحميد بن باديس والشيخ الابراهيمي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسعيد النورسي، أما الهند فقد برز فيها كثير من المصلحين يُعَدّ أبو الحسن الندوي رحمه الله خلاصة من يمثل تلك الجهود الاصلاحية كلها وقد بارك الله في عمره إلى أن توفاه الله في رمضان، وقد أكرمه الله إذ صلى عليه صلاة الغائب أكثرُ من مليونين من المسلمين بالمسجد الحرام وهذه مكرمة أكرمه الله بها.
عرفت شيخنا الجليل وأنا أتابع دراستي بفاس إذ قرأت كتابه النفيس في طبعته الأولى : “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” وقد نُشر الكتاب بلجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة سنة 1950 وإن لم تخني الذاكرة فإن الدكتور أحمد أمين رئيس اللجنة هو الذي تولى كتابة مقدمة مقتضبة لهذا الكتاب. ولأول مرة يقرأ العرب لشخصية هندية بلغة عربية ليست فقط سليمة ولكنها مشرقة وجذابة في موضوع فريد لم يتناوله غيره. وهذا الكتاب من الكتب التي كتب الله لها الرواج والنفاد إذ تعددت طباعته وتُرجم لعدة لُغات ومازال الاقبالُ عليه كثيراً وهناك طبعات قدم لها شخصياتٌ اسلامية لها وزن في ميدان العلم والدعوة والاصلاح : مثل الشهيد سيد قطب والدكتور محمد يوسف موسى والشيخ أحمد الشرباصي.
في أواخر السبعينيات أكرمني الله بلقاء سماحة الشيخ بمؤتمر الدعوة والدعاة بالمدينة المنورة ثم في المجلس الأعلى للجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة حيث كنّا من أعضاء هذا المجلس الذي كان الشيخ أبو الحسن والأستاذ محمد قطب من أبرز أعضائه غير السعوديين وظللنا في هذا المجلس نحواً من عشر سنين فقد جُدِّدَت لنا العضوية مرتين إلى أن تم إلغاء هذا المجلس. وكان المجلس ينعقد مرتين في السنة، مدة سبع سنوات، ومرة في السنة بعد ذلك. كما كنت ألتقي به كل سنة أو سنتين بالمجلس الأعلى للمساجد كما التقيت بالشيخ رحمه الله في عدة ندوات ومؤتمرات إسلامية. وقد أكرمني بزيارته لي في بيتي الصغير صحبة كوكبة من العلماء الأفاضل كانوا في زيارة للمغرب. وآخر مرة تقابلنا فيها كانت منذ بضع سنوات وقبيل وفاة أخينا الكبير شاعر الأمة الإسلامية الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله بمدينة جدة.
وكان يقول لنا دائما : “إن هذه الندوات والمؤتمرات أهم ما تحققه لنا هو لقاء الإخوة وتبادلهم الأفكار والآراء ولذلك -يقول- أحرص على حضورها رغم أنها قليلة الفائدة من حيث تنفيذ التوصيات والمقررات المتخذة”.
إن أهم ما يعتمده الشيخ أبو الحسن الندوي في فكره الإصلاحي، بناء الشخصية الإسلامية عن طريق التربية والتعليم والتثقيف وبوسائل المدرسة والكتاب والمقالة والمحاضرة والحلقات الخاصة وبكل وسيلة من الوسائل المتاحة والممكنه. ويعتمد على القدوة الصالحة التي تتجلى فيها خصال الإسلام الحميدة ابتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين ثم بالصالحين من علماء الأمة الإسلامية وقاداتها الربانيين. كما يعتمد في الدفاع عن المسلمين على الوسائل القانونية والطرق السليمة وعند الحاجة والضرورة يرى وجوب المجابهة والمواجهة بالمواقف الصُّـلْبة المعززة بالمنطق والقانون والحكمة مع جمع الكلمة وتوحيد الصف والصمود الجماعي القوي. وهكذا عاش أبو الحسن الندوي حياته الجهادية في الهند يقود الجالية الإسلامية الكبيرة التي عانت ما عانت من المكائد والمؤامرات والتخطيطات والمكر بالليل والنهار إبّان الحكم الإنجليزي والتعصب المقيت والظلم الفظيع والإرهاب المتوحش المتواصل والمؤامرات المكشوفة والخفية في ظل الحكم الهندوسي؛ ومن المعلوم بالضرورة ومن المشاهد اليومية العادية أن الهندوس مصممون على إبادة المسلمين ومحو آثار الإسلام بالهند باعتبارها -زعموا- وطنا هندوسيا، وتحويل غير الهندوس إلى الهندوسية كما كانوا في الأصل حسب زعمهم، ولا يعرف الهندوس في حياتهم التسامح والتعايش واحترام حقوق الأقليات وحقوق الإنسان وليس في قاموسهم بالنسبة للمسلمين إلا الإبادة والمحو والطرد والإجهاز. وكلُّ وسيلة تؤدي إلى تحقيق ذلك فهي مشروعة وواجبة.
وكان في رأي كثير من الشخصيات الإسلامية ومنهم أبو الحسن الندوي أن انفصال المسلمين عن الهند وإقامة دولة خاصة بهم خطأ فادح سيمزق وحدة المسلمين الذين يمثلون نحوا من النصف بالهند ويجعلهم ضعافا في دولتهم الخاصة وفي الهند معاً. وهذه الفكرة هي نفسها التي كان مالك بن نبي رحمه الله يراها ويعلنها أمام الملأ ويعتبر تأسيس باكستان مؤامرة إنجليزية. وقد كان بعض القديانيين من المشايعين والمتحمسين لتأسيس باكستان، وعلاقة القديانية والبهائية بالاستعمار الإنجليزي كانت وما تزال وثيقة وإن أصبحت أمريكا وتوابعها تشاركها تلك العلاقة وبعبارة أدق تتزعمها.
وقد شاهدنا كيف أصبح المسلمون ضعافا بالباكستان الشرقية والغربية معا وفي كشمير المقسمة وبالهند وبانـگلاديش التي شارك في انفصالها عدة جهات داخلية وأجنبية ولاسيما الهند والإتحاد السوفياتي مع مباركة من أمريكا حليفة باكستان، وكان ذلك إبان رئاسة نكسون مقايضة مع روسيا بإباحة النظام الإشتراكي بزعامة ألندي للانقلاب عليه والفتك به فتكا ذريعا على يد العسكر الفنزويلي بقيادةپنوتشي.
وكان من أهم آرائه الاصلاحية أن خير وسيلة لتغيير الحكم في بلاد المسلمين هو تغيير تربوي للحكام أنفسهم لا تغيير الكراسي لما يترتب على العنف والمواجهة المسلحة من الخسائر والكوارث والخيبات والانتكاسات للأمة كلها. فهو لا يرى شهر السلاح على الحاكم الظالم مهما بلغ به جبروته وظلمه فإن الصبر والأناة والكلمة الطيبة والتربية والتعليم وبناء الأمة بالإيمان والثقافة الإسلامية وإحاطة حكام المسلمين ومن بيدهم القرار بالبطانة الحسنة الصالحة ومخاطبتهم بالأساليب الناجعة بالحكمة والموعظة الحسنة. كل ذلك خير ألف مرة من المواجهة بالقوة والجهر بالتعنيف والتنديد والخطب النارية. وقد كان دائما على خلاف مع الحركات الإسلامية التي تلجأ إلى ذلك. ومن أقواله المأثورة : “إن تغيير ما بنفس الحاكم إلى ما هو خير وأحسن أفضل من محاولة خلعه وإزاحته عن كرسيه” وهو يرى خطأ كل تلك الحركات التي تلجأ إلى العنف في التغيير كما أنه يرى وجوب معاملة جميع الحركات والمنظمات الإسلامية المخالفة في المسالك والأساليب معاملة حسنة ويرى وجوب التكامل معها والتعاون على البر والتقوى. وتقديمه لكتاب حياة الصحابة والاشادة به وبمؤلفه الشيخ محمد يوسف دليل على ذلك وقد أعلن مرارا أنه تأثر كثيرا بوالد المؤلف الشيخ محمد إلياس الداعية المجدد العظيم. وكان لقاؤه به نقطة تحول في حياته كما يقول هو نفسه. (وانظر مقدمة الشرباصي لكتاب “ماذا خسر العالم” ص 19).
لذلك لم نر الرجل يصارع أو يكفر أو يهاجم أو ينتقد الآخرين علنا، كما يفعل بعض الدعاة باسم الاسلام والاسلام بريئ من هذه التربية.
إن منهج الرجل في الدعوة لفت إليه الأنظار وجعل أمثال الدكتور محمد يوسف موسى الأستاذ الجامعي والداعية الإسلامي الحكيم يقول: “إنه أحد دعاة الإسلام من الطراز الأول في العصر الذي نعيش فيه” ويقول عن كتابه “ماذا خسرالعالم بانحطاط المسلمين” : “إني -علم الله- لست أذكر فيما قرأت من القديم والحديث كتابا حوى من الخير ما حواه هذا الكتاب، ولا كتابا وضع أيدينا على دواء ما نشكو منه من أدواء وأمراض كما فعل هذا الكتاب ولا كتابا نفذ كاتبه إلى روح الإسلام وأخلص ويُخلص في الدعوة له ويقف كل جهوده على هذا السبيل كهذا الكتاب” (ص 10 من مقدمة الكتاب).
ويقول الشهيد سيد قطب في تقديمه لهذا الكتاب : “وهذا الكتاب الذي بين يدي من خير ما قرأت في هذا الاتجاه في القديم والحديث سواء” ص 12 من مقدمة الكتاب.
أما الشيخ أحمد الشرباصي فقد قدم المُؤلِف وتحدث عن جوانب من حياته وشخصيته دون تقديم كتابه الجليل وهي ترجمة جيدة مقتضبة عن حياة إمامِنا الشيخ أبي الحسن إلى أواخر الخمسينيات.
إن حياة الشيخ أبو الحسن الندوي كلها كانت في خدمة الإسلام والمسلمين. وقد امتدت دعوته إلى عموم القارة الهندية، بل لقد تعدتهاإلى العالم كله، ولاسيما في أنجلترا والبلاد التي تتحدث الانجليزية وتأثيره في العالم العربي واضح وملموس.
ولا يفوتني أن أذكر أنه رحمه الله فاتحني في فكرة إنشاء منظمة تجمع أدباء العالم الإسلامي واتفقنا على ذلك فكان أن وقع إنجازها وإخراجها إلى حيز الوجود وكنت حريصا على لقائه للتحدث معه حول معالجة بعض الخلل الذي لاحظه إخوان لنا داخل الرابطة وخارجها لكن الله اختاره لجواره فلم يتم اللقاء. وأسأل الله أن يتولى رئاستها من يرقى بها إلى المنزلة التي كنا نتوخاها لها منذ بداية التفكير في إنشائها.
وقد شاء الله أن تكون خاتمة حياته الجهادية الدعوية إنتخابه رئيسا مدى الحياة لهيئة التعليم الإسلامي التي تُشرف على أكثر من عشرة آلاف من الكتاتيب الإسلامية التطوعية كما تضطلع بمراقبة مناهج التعليم الإسلامي. وقد كان هو وثلة من علماء الهند العاملين وراء إنشائها سنة 1960م. وقد تم انتخابه قبل وفاته بنحو شهر.
وهذا وكان رحمه الله يعتز بتلمذته على شيخنا الدكتور تقي الدين الهلالي ولاسيما في الأدب العربي والنحو واللغة. وكان بين الرجلين بون شاسع في سياسة الدعوة رحمهما الله جميعا، وكثيرا ما أشاد به وبعلمه وبفضله وإخلاصه وقد يَعِنُّ له أن يداعبنا نحن المغاربة ببعض انتقادات الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله له وإن كانت انتقادات حادة أحيانا وكان يذكر ذلك لا دفاعاً ولا انتقاداً ولكن لبيان مواقف شيخنا الدكتور تقي الدين الصلبة فيما يعتقده أنه حق وصواب رحم الله الجميع رحمة واسعة وجزاهم الله عنا كل خير.
ومن آرائه التي يجب تسجيلها أن المستقبل للإسلام وأنه عندما يظن الآخرون أن هذا الإسلام قد أصبح ركاما وأنقاضا وأنه قضي عليه تماما سرعان ما ينبعث من خلال تلك الأنقاض أقوى مما كان، وتلك حقيقة تاريخية وقانون اجتماعي خاص بالاسلام.
ومن آرائه التي يلح عليها دائما أن على العرب وهم مادة الإسلام أن يستعيدوا مكانتهم في قيادة العالم بهذا الدين كما قادوه سابقا.
د. عبد السلام الهراس