شهادات بعد الوفاة : آخر الراحلين في عام الحزن الشيخ الداعية أبو الحسن الندوي


هذا عام الحزن في حياة هذه الأمة، العام الذي فقدت فيه عدداً كبيراً من علمائها العاملين، ودعاتها الصادقين الأوفياء، فكانت خسارتهم خسارة لا تعوض لهذه الأمة التي تحيط بها الأخطار، وتفتك بها المؤامرات والمشكلات، وتحتاج إلى أمثال هؤلاء العلماء الذين يحملون نور الهداية، لينيروا لها طريق الرشد، ويعينوها على معرفة الحق والصواب.

وفي آخر العام الميلادي، فقدت الأمة واحداً آخر من أعلامها وعلمائها العاملين.

العالم العامل، والداعية المجاهد، والمربي الخيِّر الناجح، والأديب الذكي اللامع، والزاهد القدوة سماحة الشيخ أبا الحسن الندوي يرحمه الله.

كان الشيخ أبو الحسن من الرجال القلائل في هذا العصر، الذين جمعوا كثيراً من المحامد والفضائل والصفات التي تكفي واحدة منها لرفع مكانة صاحبها بين الناس، وعلو ذكره في المحامد.

لقد تميز -يرحمه الله- بعلمه الغزير، وعمله الدؤوب، وخلقه الفاضل، وحكمته وأناته وكثرة نشاطاته، وبعد نظره.

كان علمه الحقيقي هو عمله الدؤوب في ندوة العلماء بلكنو بالهند، ونشاطه المستمر في أقاليم الهند، بين طلابه في ندوة العلماء والمدارس والجامعات ومع الأساتذة الذين رباهم على يده، أو تتلمذوا على علمه وتوجيهاته، ومع الشباب والمربين، ومع العلماء والمفكرين، ومع الساسة والقادة، يحاضر ويوجه، ويناقش بروية وهدوء، ويوجه بثقة وإخلاص، ويعطي لمن حوله المثل والقدوة في غزارة العلم، وسعة الصدر وسمو الخلق، وعفة اللسان، وطهارة القلب واليد، والصبر على المكاره، والإخلاص في العمل، والنأي عن الخلافات والمشاحنات، والترفع، عن الدنيا، والتضحية بالوقت والمال والصحة في سبيل الخير.

لقد شهدته في الهند، وفي غيرها -كيف كان يتجشم عناء السفر الطويل، وهو الشيخ الضعيف- فيصبر على مشقة التنقل في وسائل النقل العادية “القطارات والسيارات” لساعات طويلة، وقد تزيد على ثلاثين ساعة متواصلة لكي يحضر ندوات دعوية، أو علمية، ولكي يشترك في مؤتمرات مفيدة لمجتمعه وللناس جميعاً.

كان للشيخ -يرحمه الله- كثير من الجوانب التي تحتاج إلى بحوث ودراسات تجليها وتضعها صوراً تطبيقية أمام الدعاة، وطلاب العلم، الذين يضجرون ويقتتلون عند بذل الجهد، وقد ينهزمون أمام المغريات أو الصغائر من الأمور.

وأهم الجوانب التي كانت بارزة في حياته -رحمه الله- ثلاثة وهي :

-1 الجانب العلمي : فلقد تميز -يرحمه الله- بحيازته لكثير من العلوم الشرعية وغيرها، ولاسيما في مجال القرآن والحديث، والسيرة والتاريخ، وعلم الاجتماع والتربية، وغيرها من العلوم، إضافة إلى اطلاعه على الأدب العربي وغير العربي.

ومع حيازته لهذه العلوم، كان يتميز بالتفكير العميق، والنظرة الثاقبة، والحدس الشفاف، والحس المرهف، وهي أمور تتلاقح مع ما لديه من العلوم لتكسبه رؤية شاملة وعميقة للأمور، ورأياً صائباً في إصلاح النفوس والمجتمعات وطريقة عملية في تربية الشباب والأجيال، وسبيلاً قويماً في الدعوة إلى الله.

-2 الجانب الدعوي : الذي أخذ من حياته بعداً واسعاً، بعداً إسلامياً وإنسانياً شاملاً، حتى كان من يعرفه يرى أن الدعوة هي حياته وديدنه وهمه الأول، يدعو إلى الله في كل ناحية وموقع ومناسبة، ويدعو إلى الله بحكمة وبصيرة، ويتبع الأسلوب الأمثل لكل مناسبة، ويهتم في دعوته بالصغار والكبار، والمسلمين وغير المسلمين.

ولقد شهدت صورة من هذه الصور في دعوته للناس -في لكنو- وأوانج آباد واسطنبول، والمدينة المنورة، حيث كان يستغل الفرص، عندما يجتمع بالطلبة والعلماء والمثقفين، أو المسؤولين والقادة أو الأدباء والمفكرين، ليقدم للناس خلاصة تجربته ويدعوهم إلى الخير والصلاح.

وفيالهند كان يخصص جزءاً من الدعوة إلى غير المسلمين، فيلتقيهم في الندوات، والمؤتمرات، وبشتى الأماكن والمناسبات فيتحدث إليهم بأسلوب المفكر والمصلح، والمواطن الصالح، والداعية إلى خير المجتمع، ويدعوهم باسم الإنسانية إلى خير المجتمع، لإنكار الشرور، ومحاربة المفاسد واستنكار كل شيء أو خطر يهدد المجتمع، مع التحلي بالفضائل والمكرمات التي تحمي المجتمعات من تلك الأخطار.

كان -يرحمه الله- يسوق ذلك كله باسم الفضائل الاجتماعية، والأخلاق الإنسانية ويتبع ذلك بقوله : إن الإسلام يأمرنا أن نسعى لخير المجتمع وحمايته، والعمل على محاربة كل ما يهدده من أخطار، أو يسيء إلى البلاد والعباد.

وكان كثير من مستمعيه يستجيب له، ويتعاون مع هذه الدعوة الخيرة.

وأما دعوته للمسلمين فكانت دعوة العالم الداعية، والمربي الحصيف، الذي يعرف علل النفوس والمجتمعات، فيدعو الناس إلى التمسك بهذا الدين لينقذهم مما هم فيه، بأسلوب حكيم، وموعظة حسنة، ونصح سديد مع حفز الهمم، وسوق الأدلة العقلية والنقلية والعملية التي تزيد من فهم الناس واقتناعهم بالعودة إلى الله.

ولكم كانت أحاديثه، وخطبه، ومحاضراته سبيلاً لتفتح كثير من القلوب، لأنها كانت مزيجاً من النصح الصادق، والفكرة الصائبة، والإيحاء الروحي المؤثر الذي تذوب أمامه كثير من العقبات.

-3 الجانب التربوي : وهو من الجوانب المهمة في حياة المجتمعات، ولقد كان -يرحمه الله- يعطيه اهتماماً كبيراً، وكان بشخصه وسلوكه أستاذاً في التربية، يعطي بعلمه وعمله وسلوكه لمن حوله، القدوة الصالحة والمثل العملي، وكل من عرفه عن قرب أو استمع إليه كان يلمس هذه الجوانب التربوية التي تتمثل بسمو الخلق، وعلو الهمة، وصدق اللهجة، والبعد عن الجدل والخصومات، والتحلي بالأناة والصبر، وسعة الصدر، والترفع عن الدنيا، والزهد في المال والمنصب وكل ما يهتم به الناس من زينة الدنيا، وحب الخير للآخرين.

وكان بسيطاً في مأكله وملبسه ومسكنه، كان يعيش في بيت متواضع في قريته التي ولد فيها، عيشة الناس البسطاء، رغم إقبال الدنيا عليه، وكثرة المعجبين به.

وكان متواضعاً، جم الأدب مع الآخرين، يحرص على سعادة إخوانه وغيرهم، ويتعامل مع إخوانه والآخرين بهذه البساطة والتواضع والبعد عن كل ترف أو تنعم.

ولكم كان يترك منازل الرفاه “في الفنادق وغيرها” عندما يسافر إلى هنا وهناك مدعواً إلى مؤتمر أو ندوة أو اجتماع، ويؤثر النزول في بيت واحد من طلابه الذين يحبهم ويحبونه، في منزل متواضع، يشترك مع طلابه في المأكل والمشرب، ويستقبل عندهم الكبار والصغار، بمحبة وتواضع وعفة.

وهذه السمات من أكثر الأمور تأثيراً في الآخرين، ومن أحسن الأساليب التربوية وأصدقها في نفوس الناس، كانت الدنيا التي يسرح فيها ويمرح بعيدة عن قلبه، بعيدة عن رغباته، يسخرها لدعوته -ولخيرالناس- ولا يأخذ منها إلا ما يسد به الرمق، ويكفي للستر والعافية.

وكان -يرحمه الله- يستخدم الخطابة والحديث والكتابة، مع القدوة الحسنة لتربية طلابه، والدعوة إلى الإسلام.

وكان عالي الهمة، يحضر العديد من الندوات، ويسافر إلى كثير من الأقطار ليحاضر ويتحدث، ويشترك في ندوة أو اجتماع أو مؤتمر، مادام ذلك خدمة للإسلام ودعوة في سبيل الله.

ومن يطلع على العديد من كتبه ورسائله يدرك أثر هذه الرحلات والندوات، ويدرك سعة اطلاعه، وعمق نظرته، وثاقب رأيه في فهم النفوس ومعرفة علل المجتمعات، وتقديم العلاج المناسب للخلاص مما تعانيه المجتمعات الإسلامية من الأمراض.

وكان يتقن عدداً من اللغات (العربية والأوردية والفارسية والإنجليزية)، وله العديد من المؤلفات والكتب والرسائل التي أصبحت مراجع في موضوعاتها، وكذلك كان أديباً ذواقة، اطلع على الكثير من الآداب : في العربية والأوردية، والفارسية،والإنجليزية، وكتب وحاضر في العديد من الموضوعات التي تدل على تذوق رفيع، واطلاع واسع، ونظرة ثاقبة.

وأختم هذه الخواطر بأمر يلمسه كل من رافقه وعرفه، وهذا الأمر له علاقة بما يتمتع به -رحمه الله- من إخلاص وصدق، يتجلى في قوة روحية ذات تأثير كبير في الآخرين.

ولقد شهدته في زيارة قام بها البروفيسور نجم الدين أربكان -الزعيم التركي المعروف- للشيخ في أحد الفنادق في اسطنبول، فإذا بالشيخ يبدأ الحديث مع الزعيم السياسي الكبير حديث العالم الصادق الداعية، فيذكر بأهمية اسطنبول وأهمية فتحها، وما كان يرمز إليه اشتراك الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري في إحدى معارك فتحها، واستشهاده على أسوارها ودفنه فيها، ثم ربط الشيخ بين هذه المعاني، وأهمية الإسلام ومعناه لهذه المدينة ولتركيا، وكان ذلك كله في حديث عميق شامل مؤثر، حديث ينفذ إلى الأعماق، ويخترق الحواجز، فتدمع له عيون السامعين وتتضحله جوارح الزعيم الزائر، وتبلغ الموعظة والحقيقة أعمق أعماقه، فيعاهد الشيخ على حماية الإسلام في هذا البلد، ثم ينهض ليودع الشيخ بعيون دامعة، مقبلاً يده، وشاكراً له.

هذه السمة رأيتها مرات وأنا أستمع إليه، يشرح آية من الآيات، أو يتحدث عن موضوع من الموضوعات، فإذا به يسمو وتشرق الفكرة، ويضيء النفوس وتسري بلا استئذان إلى جوارح السامعين.

رحم الله الشيخ أبا الحسن الندوي -الذي كان وراء كثير من النشاطات والأعمال الأدبية والفكرية والدعوية في العالم الإسلامي- ومنها رعايته وترؤسه لرابطة الأدب الإسلامي.

نسأل الله عز وجل أن يجعله عنده من المقربين، وفي أعلى عليين مع الشهداء والأنبياء والصالحين.

بقلم : محمد حسن بريغش

المجتمع ع 2000/1/18

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>