تعد العولمة آخر تجليات الحضارة الغربية التي تعتبر القوة مبدأها الأساسي والروح التي تسري في كل أجزاء جسمها، هذه ا لروح حعلت وتجعل هذه الحضارة تتوسل بأدوات ووسائل العنف والقهر والتدمير والإكراه ، للتوسع والانتشار والهيمنة حتى في حالات السلم مع الآخر، إنها لذلك حضارة هيمنة وإقصاء بامتياز.
وبروز تلك الروح، بصورة أكثر وضوحا في العولمة ونظا مها الجديد، هو الذي يدفعنا في هذا المقام إلى إثارة الانتباه إلى وضعية الأسلام والثقافة الإسلامية في ظل النظام العولمي وهو نظام غربي عموما، وأمريكي تحديداً.
لقد أضحى معلوما أن النظام العولمي يتحدد بمحددين أساسيين، وهما محدد سياسي اقتصادي، ومحدد ثقافي اجتماعي،مدخل الأول الخوصصة ونظام السوق وثقافته، ومدخل الثاني المرأة والأسرة والطفولةوالتعليم والأقليات..
كما أضحى معلوما أيضا أن المحدد الأول يستعمل أداة لفرض المحدد الثاني والتمكين له، بواسطة التمويل تارة ومثاله ما يسمى “خطة إدماج المرأة في التنمية”، أو بواسطة الإملاءات الواجبة التنفيد تارة ومثاله ما يسمى الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أو بواسطة الحصار تارة أخرى ونموذجه الحصار المضروب على العراق وإيران، وبواسطة التدمير والحرب عندما لاتجدي الوسائل السابقة ونموذجه ما يجري بأفغانستان وما جرى قبله بالعراق والسودان.
ثم إنه يتضح يوما بعد يوم أن القيم الثقافية التي تحملها العولمة كرسالة إلى العالم كله، هي قيم ما بعد تحالف الصهيونية والمسيحية المحرفة الغربية بأبعادها التفسخية والانحلالية والعلمانية.
وما سبق هوالذي يفسر ما تتعرض له الثقافة الإسلامية من تضييق وحصار وحرب معلنة، بدأت معالمها تتشكل مع بداية عقد التسعينات، وستزداد شراستها في العقدين الحالي والذي يليه لسببين بارزين على الأقل في الوقت الراهن أولهما العولمة بطبيعتها العدوانية والإقتصادية، التي تحلم بتعميم نظام قيم معين على العالم والبشرية كلها، وثانيهما تبني الدولة بالمغرب لمشاريع النظام العولمي، واعتمادها آليات الفوقية الإكراهية في فرض تلك المشاريع تحت شعارات كاذبة وخادعة كالتنمية والحداثة..
إن تحول الدولة في هذا البلد إلى أداة تدمير الثقافة والقيم الإسلامية، يحتم ضرورة تحمل المجتمع المدني والأهلي مسؤولية في الدفاع عن الإسلام وحمايته ، فالمجتمع الشعبي والأهلي يجب أن يتقوى دوره في القيام بهذه الوظيفة الحضارية في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الشعب المغربي، خاصة والأمة الإسلامية عامة’ فهذه فترة حرجة فعلا، لأنه لأول مرة في التاريخ تتواطأ الدولة مع العدو الخارجي لضرب الإسلام وتدميره، وهو الأمر الذي يحتم أن يكون دور المجتمع المدني أيضا استثنائيا ومضاعفا.
وهذا الدور المطلوب منه بإلحاح كبير، ليس بجديد ولا بغريب فتاريخيا المجتمع المدني هو الذي احتضن الإسلام منذ اليوم الذي حاولت فيه الدولة فرض نفسها مرجعية وسلطة عليا على الأمة وعلى الإسلام معا، فحماه ونصره مما حفظ له مكانته مرجعية عليا للأمة وللدولة لايعلي عليها، فأسس لذاك المدارس والجوامع وحبس وأوقف من أمواله الشئ الكثير، فكثرت حركة الأحباس والأوقاف والتبرعات والصدقات، فكانت المورد الرئيسي الذي يوفر لتلك المؤسسات حاجياتها المادية والمالية، الأمر الذي منحها الأساس اللازم لأداء رسالتها، وكذلك استقلالها عن الدولة وهيمنتها، تمويلا وبرامج وأهداف 100%
وتنوعت مؤسسات المجتمع الإسلامي لاهلي بين مدارس وجوامع وكتاتيب ورباطات وزوايا بعد ذلك وجامعات، فشكلت القلاع الحقيقيةالتي حمت الإسلام وقيمه من بطش السلطان وسياسته التفسخية، ومن هجمات الأعداء الحاضرين والخارجيينأيضا.
وبفضل استقلالية هذه المؤسسات كانت انظمتها التربوية والتعليمية أقوى من حيث إشعاعها وتأثيرها في الأمة من النظام ا لتربوي الذي تشرف عليه الدولة وتهيمن عليه، ولهذا ليس غريبا أن تكون أول جامعة ظهرت بالمغرب- وهي للتذكير من أقدم الجامعات في العالم – من تأسيس المجتمع المدني وهي جامعة القرويين التي افرغت من محتواها وسرقت منها وظيفتها.
ولازال التاريح يشهد على هذه الحقيقة من خلال ما أصبح يصطلح عليه في اللغة الرسمية بالمدارس العتيقة، وبلغة المجتمع الشعبي ( المدارس العلمية) وهي مدارس لازال بعضها يقوم بدوره- ولو بشكل تقليدي- في الريف الشمالي والجنوبي من بلدنا.
والآن وبعد أن أصبحت الدولة أداة ينفذ بها ا لنظام العولمي مؤسساته، ومشاريعه لفرض النموذج الواحد في الثقافة والاقتصاد وهو ما لا يتحقق إلا عبر تدمير القيم الثقافية للشعب المغربي، فهل سيقوم المجتمع المدني بدورهالحضاري مرة أخرى؟
إنه لاخيار أمام القوى الشعبية التي يهمها أمر بقاء هذا البلد مسلما وموحدا، سوى استغلال كل ماهو متاح لحماية الإسلام مما يتعرض له من قوى سلطوية وشعبوية تتقدم الخطوط الأمامية لهجوم النظام العولمي على أمتنا وقيمها الثقافية.
إن مسار الأحداث ينبئ على المدى القريب- إن لم تقم القوى الشعبية والحركات الإسلامية والحمعيات الوطنية المخلصة- بواجبها في المقاومة والدفاع بكوارث إنسانية بهذا البلد وأكبر مؤشر على هذا ما وقع السنة الماضية مستهدفا قيم الأسرة المغربية المسلمة، وهو التوجه الذي يتقوى بشكل أكثر خطورة مع ما يسمى ( ميثاق التربية والتكوين) إذ يكفي عقد من الزمن على التنفيذ الفعلي لهذا الميثاق لنكون أمام وضع جديد بهذا البلد على الصعيدين البشري والثقافي لاقدر الله.
حسن العلوي