مقالة مختارة مات وحيداً ودفع ثمن جرأته : الفيلسوف عبد الرحمن بدوي .. تحول إلى الإسلام فانْفَضَّ من حوله الجميع


توفي بمستشفى معهد ناصر المقام على كورنيش النيل بالقاهرة الفيلسوف العربي الكبير عبد الرحمن بدوي بعد عودته من فرنسا التي عاش فيها أكثر من ربع قرن بعد أن عانى من الاكتئاب وأمراض الشيخوخة.

وعبد الرحمن بدوي كان عقلية عربية أثرت المكتبة العربية بإنتاج متميز في معظم مجالات المعرفة والثقافة والترجمة والفكر، وهو أول من نال جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية عام 1999 بترشيح من أكاديمية الفنون.

ولد عبد الرحمن بدوي في 4 فبراير 1917 بقرية شرباص التابعة آنذاك لمديرية الدقهلية وحصل علي الشهادة الابتدائية من مدرسة فارسكور 1929 وشهادة الكفاءة عام 1932 والبكالوريا 1934 من مدرسة السعيدية ثم التحق بآداب القاهرة وحصل على الليسانس الممتازةمن قسم الفلسفة عام 1938 ثم عين معيدا وحصل بعد ذلك على درجتي الماجستير والدكتوراه من جامعة القاهرة عن مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي، وفي عام 1950 أنشأ قسم الفلسفة في آداب عين شمس واستمر رئيسه حتى عام 1971 وقد عمل أستاذا في جامعات ليبيا وطهران والكويت ليستقر بعد ذلك في باريس، وله ما يقرب من 200 كتاب حسب آخر إحصاء ذكره المفكر محمود أمين العالم، بينما قال أحد ناشريه قبل خمس سنوات إن كتبه تجاوزت 150 كتابا منذ كتابه الأول عن نيتشه الذي صدر عام 1939.

المثقفون تجاهلوا عودته

وقد عاد الفيلسوف الكبير إلي أرض مصر بعد أزمة صحية في باريس ليعالج في القاهرة، ولم تكن عودته بمثابة الحدث الثقافي الكبير الذي كان ينبغي لها أن تكونه ، صحيح أن الصحف المصرية كتبت عن عودته في الصفحات الأولى وأفردت له بضعة مقالات ترحيبية، لكن هذه العودة لم تثر حماسة المثقفين المصريين والكتاب والقراء الذين أدمنوا قراءة مؤلفاته الوفيرة ولم تحملهم كذلك على استقباله كما يليق به كفيلسوف رائد ومفكر وكاتب ومثقف.

مما جعل الدهشة تعترينا فهذا الفيلسوف ملأ الدنيا وشغل الناس في مصر والعالم العربي.

التحول إلي الإسلام

في السنوات العشر الأخيرة انقطع عبد الرحمن بدوي للدفاع عن الإسلام في مواجهة الحملات المسعورة في الغرب ضده فكتب “دفاع عن القرآن ضد منتقديه” و”دفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره” كما ترجم السيرة النبوية إلى الفرنسية مصحوبة بتعليقات وشروح.

وفي كتبه الإسلامية يفند الدكتور بدوي افتراءات المستشرقين التي وصفها بأنها ناتجة عن الجهل والحقد والتعصب.

وكتبه التي دافع فيها عن الإسلام لم تنل حظها من التعريف والشهرة فكتاب دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد المنتقصين من قدره لم يكتب عنه أحد سوى سطور في مجلة المنار الجديد، وهذا الكتاب يناقش الدراسات الغربية المسماة بالعلمية والمخصصة لحياة النبي محمد صلي الله عليه وسلم والتي قام بها مستشرقون بدءا من الثلث الثاني للقرن التاسع عشر وحتى السنوات التالية من عصرنا، وذلك حسب الموضوعات المعالجة وليس حسب الترتيب التاريخي للكتاب والأعمال المختلفة التي ستتم مناقشتها، وذلك جعل الدكتور بدوي يتغاضى عن الأعمال التي كتبت لأهداف دفاعية خاصة بإثبات عقائد النصارى، وفي هذا الكتاب الرائع يتصدى الدكتور بدوي للأكاذيب التي صاغها البيزنطيون والأوروبيون منذ اثنى عشر قرنا في موضوع النبي صلي الله عليه وسلم الذي أصبح أكبر أعداء الأوروبيين، كما كان الهجوم عليه هدفاً للإمبراطورية البيزنطية وأوروبا سواء علي الصعيد الأيدلوجي أو الصعيد الدعائي من جانب المؤرخين الأوروبيين المدعومين بعلماء الدين المسيحي في البلاد الخاضعة لسيطرة المسلمين أمثال “يوحنا الدمشقي وتيودورأبو قرة واليانس وعبد المسيح الكندي وغيرهم” وكانت هذه الدعاية هي ما اصطلح علي تسميته منذ ثلاثة قرون في أوروبا باسم أسطورة محمد.

سيرته الذاتية.. قاصمة الظهر

تجدر الإشارة إلي أن سيرة عبد الرحمن بدوي الذاتية التي نشرها منذ عامين أثارت زوبعة في الأوساط الثقافية العربية حيث هاجم فيها بدوي عددا كبيرا من الكتاب والمفكرين والأدباء العرب حتى الرواد منهم مثل طه حسين والعقاد وفؤاد زكريا وغيرهم متهما هذا بالعمالة وذاك مشكوك في وطنيته وثالث شيوعي ورابع انتهازي وخامس منافق وسادس مدع تافه.

ولم يتردد بدوي في توجيه اتهاماته للعقاد الذي رحل عن دنيانا في مارس 1964 فهو في رأيه رجل هامشي عاش ومات دون ان يشعر به أحد في دنيا الأدب والفكر، ولم يكن في يوم من الأيام مفكرا أو شاعرا بل إن أقصى ما يمكن أن نقوله عنه والكلام لبدوي هو ما سبق أن قاله صادق الرافعي :إن العقاد كان يكتب حسب البريد الأدبي الوارد من إنجلترا، بمعنى أن ثقافته القشرية لم تكن تسمح له بأكثر من التعليق على بعض المقالات التي تتضمنها صفحات الملاحق الأدبية الإنجليزية .

كما كال بدوي اتهامات بالجملة لمحمد اركون الذي أمطره بسيل من الاتهامات التي تنال من مستواه الفكري ونزاهته العلمية، وفي رأي بدوي أنه ليس أكثر من تلميذ في مدرسة الاستشراق “الاستعمارية” الكبرى التي تضع نصب عينيها كهدف ثابت تشويه الإسلام والإساءة إلي نبيه والطعن في قرآنه المجيد ثم هو يحيط نفسه بمزاعم معرفية لا أساس لها ناهيك عن أنه جنى علي الفكر العربي خيانة لا تغتفر.

أما محمد آركون فهو يعترف صراحة بالخوف والارتعاد من بطش بدوي فهو مغرور إلى أبعد حدود الغرور وكريه وهذا معروف عنه في الأوساط الأكاديمية، كما أنه لم يتقيد في أعماله بالقواعد العلمية التي يحترفها العلماء في تحقيق النصوص بل أنه توقف عند القرن التاسع عشر حيث العلم الفيلولوجي الألماني والمناهج التاريخية في أوروبا ولم يبرح ذلك العصر لأنه تقوقع داخل تحقيق النصوص.

وقد أقامت سيرته الذاتية الدنيا ولم تقعدها بينما يرى حسونة المصباحي في مقال له في الشرق الأوسط بعنوان دفاعا عن الدكتور الفيلسوف نشره يوم 24/1/2001 أن استنتاجات الذين رأوا في ناقدي سيرة الدكتور بدوي سخيفة وسطحية وخالية تماما من الصحة وبعيدة كل البعد عن الأهداف الحقيقية التي رسمها صاحب السيرة عندما شرع في كتابتها،

يؤكد المصباحي أن بدوي أحد أعلام الثقافة العربية خلال القرن العشرين وراهبا حقيقيا في عالم العلم والمعرفة وأنه أدرك مبكرا النتائج الكارثية التي أفضى إليها نظام عبد الناصر معتقدين أنه يرفع رأس العرب عاليا وأنه سيحقق أمانيهم في العزة والكرامة والحرية وسيعيد الفلسطينيين المشردين إلى أراضيهم .

كان بدوي ملتزما الصمت لا خوفا وإنما لأنه كان على يقين أن الكارثة وشيكة وأن الخطب الرنانة هي لإعماء العقول لا إلى تنويرها وأن الحماس الذي لا يستند إلى قاعدة مادية ومعنوية حقيقية لا يمكن أن يؤدي بصاحبه في النهاية إلا إلى السقوط والهزيمة، ولأنه كان يعلن أن المواجهة خاسرة مع نظام عبد الناصر.

ولعل أقسى انتقادات لجمال عبد الناصر وردت على لسان عبد الرحمن بدوي، الذي وصف عبد الناصر “بالاحمق الاخرق المندفع الجاهل الاهوج المستبد الغشوم”، وإن تأميم القناة وبناء السد العالي والتصدي للعدوان الثلاثي وعدوان 1967 ومساندة الثورات العربية مجرد مغامرات دخلها عبد الناصر لتحقيق مجد شخصي على حساب مستقبل مصر وأمنها واقتصادها.

وساق بدوي عشرات القصص عن التعذيب في السجون والمعتقلات معتبرا انها تفوق اهوال ما حدث حتى في حرب 1967، غير أن الناصريين اعتبروا هجومه على عبد الناصر وثورة يوليو بأنها ثأر شخصي، لأنها صادرت أراضي عائلته الإقطاعية في محافظة دمياط شمال مصر.

وعندما سئل د. بدوي العام الماضي عن تلاميذه في مصر قال: انهم اسوا من عرفت من التلاميذ، لكنه بعد عودته الى مصر استثنى انيس منصور من احكامه القاسية، وله قصة طريفة مع مجلة “المجلة” التي تصدر في لندن، حين اشترط قبل سنوات أن يتقاضى مبلغ 350 جنيهاً استرلينياً قبل الموافقة على اجراء حوار للمجلة، كما اشترط ان يقبض الفلوس قبل اجراء الحديث، وبعد ان قبضها كتب ايصالاً بتسلمه لها، وخلال 5 ساعات مدة الحديث اخرج النقود وقذف بها في وجه محاوره طالباً منه ان يخرج لانه “لن يشتريه بهذه القروش” على حد قوله، ثم بعد تدخل صديق وافق على الاستمرار في الحديث، وفي آخر الساعات الخمس طلب من محاوره الايصال الذي كتبه ثم اخذه، وألقى في وجهه بالنقود قائلاً له ولصديقه : “مش عاوز اشوف خلقتكم تاني”.

يبقى في النهاية القول بأن بدوي الذي كتب ذات يوم عن “شخصيات قلقة في الإسلام”، لم يكن أقل قلقاً من هؤلاء، إذ عاش حياة طويلة عريضة مفعمة بالمتناقضات والابداعات والعطاء، فقد كان كبيراً في حياته ومماته ومعاركه.

والجدير بالذكر أن هيئة قصور الثقافة أقامت له احتفالية في عام 1997 بمناسبة بلوغه الثمانين وأصدرت كتابا تذكاريا عنه بأقلام تلاميذه.

فهل تقوم الهيئات الإسلامية بالتعريف بفكر الرجل الإسلامي بعد أن تنصل منه أقرب المقربين إليه من تلامذته في حياته وأظن أنهم سيهملوا فكره بعد أن رحل عن عالمنا يوم الخميس الموافق 25 يوليو 2002 في زخم الاحتفالات بالذكرى الخمسين لثورة يوليو؟!

القاهرة : مـحـمـد بــركـة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>