إن الإسلام كما يدعو الإنسان إلى أداء حق الله فإنه يدعوه كذلك إلى أداء حق أخيه الإنسان. ولابد أن يقوم بناء أي مجتمع على التكافل والتعاون؛ حتى لا يكون المال متداولا بين فئة الأغنياء بينما يحرم الفقراء ضرورات الحياة لقوله تعالى : {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}(الحشر : جزء من آية 7). فالمال مال الله والناس شركاء فيه إذ لم يكن بالتساوي فعلى الأقل بما يعين الفقير على أعباء الحياة ويشدّ به أزره في حياته الدنيا.
وقد أثبتت الزكاة نجاحها كعلاج عملي للمشاكل الاجتماعية وكوسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع، ففي العصور التي طبق فيها نظام الزكاة على وجهه الصحيح لم تكن المجتمعات الاسلامية تعرف هذه الصور المفزعةمن الفقر المذقع بجوار الثراء الفاحش، بل كانت الزكاة تقرب بين الطبقات وتحقق التوازن والعدل الاجتماعي كما عبر عن ذلك د. عماد الدين خليل في كتابه العدل الاجتماعي(1).
ومن المشاكل الاجتماعية التي يمكن للزكاة أن تعالجها : مشكلة الفقر، مشكلة التسول، مشكلة الحقد والعداوة وفساد ذات البين، مشكلة الكوارث، مشكلة العزوبة، مشكلة العزوف عن التعلم.
مشكلة الفقر
لقد تفاقمت مشكلة الفقر في مجتمعاتنا الإسلامية، وأصبحت العقبة الأساس في طريق التنمية الشاملة. وقد أوجد الإسلام حلولا لعلاج هذه المشكلة وفي مقدمتها فريضة الزكاة الغائبة اليوم عن كثير من مجتمعاتنا. فالزكاة وحدها تكفي لحل مشكلة الفقر وتوفير فرص عمل للعاطلين وما أكثرهم اليوم في مجتمعاتنا.
وإذا رجعنا إلى تاريخنا الإسلامي الطويل فإننا سنجد أن نظام الزكاة قام بمحاربة الفاقة والفقر مرات ومرات. ففي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولّى معاذ بن جبل على اليمن فبعث في السنة الأولى بثلث صدقة الناس؛ فأنكرذلك عمر رضي الله عنه، وقال له : لمْ أبعثك جابياً ولا آخذاً جزية، ولكني بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس؛ فتردها على الفقراء. فقال معاذ : ما بعثتُ إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني. فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر ما جمعه من أموال الزكاة؛ فتراجعا بمثل ما تراجعا به أولا. فلما كان العام الثالث بعث إليه بكل ما جمعه من زكاة فراجعه عمر رضي الله عنه بمثل ما راجعه قبل ذلك؛ فقال معاذ : ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئاً(2).
وقال يحيى بن سعيد : بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً فأعتقتهم(3).
فالهدف من الزكاة إذن هو إغناء الفقير لا إعطاؤه معونة مؤقتة وذلك “لتوسيع قاعدة التملك وتكثير عدد الملاك وتحويل أكبر عدد مستطاع من الفقراء المعوزين إلى أغنياء مالكين لما يكفيهم طوال العمر”(4).
ويظهر هذا الهدف من خلال مصارف الزكاة وخاصة مصرف “الفقراء”، ومصرف “المساكين”. فهما يعتبران أهم مصارف الزكاة وذلك للبدء بهما في آية المصارف : {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها…}(التوبة : 60)، والاقتصار عليهما في عدد من الأحاديث، والفصل بينهما وبين بقية المصارف بمصرف العاملين عليها”، وهم الذين يقومون على جمع أموال الزكاة وإنفاقها في مصارفها.
وللقضاء على الفقر ينبغي تمليك كل محتاج ما يناسبه ويغنيه حيث يقول الإمام النووي رحمه الله -عند حديثه عن القدر المصروف إلى الفقير والمسكين- >قال أصحابنا العراقيون وكثيرون من الخراسانيين : يُعْطَيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى؛ وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه الله، واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق -الصحابي رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجلٍ أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش -أو قال سِداداً من عيش(5)-، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَى(6) من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقةٌ فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش -أو قال سداداً من عيش- فما سواهن من المسألة يا قَبِيصة سُحْت يأكلها صاحبها سحتاً<(7).
قال أصحابنا : فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه.
قالوا : فإن كانت عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته، أو آلات حرفته، قلت قيمة ذلك أو كثرت، ويكون قدره بحيث يجعل له من ربحه ما يفي بكفايته تقريباً، ويختلف ذلك باختلاف الحِرَف والبلاد والأزمان والأشخاص..
فإن لم يكن محترفاً، ولا يحسن صنعة أصلا، ولا تجارة ولا شيئاً من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة<(8).
وليس المراد بإعطاء من لا يحسن الكسب أو من لا يقدر على العمل لمرض أو زمانة، أو شيخوخة اعطاءه نقداً يكفيه بقية عمره المعتاد. بل يتم العطاء في صورة شراء عقارات أو منقولات، تدر دخلا دائماً على هذا الشخص يكفيه كفاية متوسطة بقية حياته”(9).
مشكلة التسول
إن الإسلام يحارب التسول ويغرس في نفس المسلم كراهة السؤال تربية له على علو الهمة وعزة النفس، والترفع عن الدنيا “واليد العليا خير من اليد السفلى”(10). ولا يقرر الزكاة للأصناف المذكورة في الآية الكريمة : {إنما الصدقات..} إلا بعد أن تستنفد هي وسائلها الخاصة في الارتزاق؛ حرصاً على الكرامة الإنسانية ومن ثم فهو حريص -أي الإسلام- على أن يكون لكل فرد مورد رزق يملكه، ولا يخضع فيه حتى للجماعة.
لذلك حث على الاستغناء عن طريق العمل، وجعل واجبالجماعة الأول أن تهيء العمل لكل فرد فيها. فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه : >أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال : أما في بيتك شيء؟ قال : بلى، حِلْسٌ(11) نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ(12) نشرب به من الماء. قال ائتني بهما. فأتاه بهما؛ فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؛ وقال : من يشري هذين؟ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهم، قال : من يزيد على درهم؟ مرتين، أو ثلاثا، فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين؛ فأعطاهما إياه.
وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري، وقال : اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً(13)، فائتني به؛ فأتاه به؛ فشد فيه رسول الله عوداً بيده؛ ثم قال له : اذهب فاحتطب، وبع، ولا أريَنَّك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع؛ فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتةً في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع(14)، أو لذي غرم مفظع(15)، أو لذي دم موجع(16)<(17).
فمن معاني هذا الحديث :
1- أن العمل هو المصدر العادي للرزق، والدولة ملزمة بالبحث عن العمل للمواطنين القادرين بكل الوسائل الممكنة كما فعل رسولنا وقدوتنا مع هذا الأنصاري.
2- أن الكسب من غير العمل لا يباح إلا في حالة الضرورة أو في حالة العجز. ففي هذه الحال تتدخل الزكاة لحل هذا المشكل وذلك بإعطاء القادر العاطل مايمكنه من العمل في حرفته من أدوات أو رأس مال، أو بتدريبه على عمل مهني يحترفه ويعيش منه، أو بإقامة مشاريع جماعية ليشتغل فيها العاطلون. هذا بالنسبة للقادر على الاكتساب وأما بالنسبة للعاجز عن الاكتساب فالزكاة تضمن له المعيشة الملائمة حتى لا يلجأ إلى التسول.
< ذ. عمر داود
————–
1- هذا الكتاب تحدث فيه عن المسألة الاجتماعية وأهميتها في الإسلام، انطلاقا من مبادئ في كتاب الله، ومن تعاليم في مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- الأموال، لأبي عبيد، ص : 710.
3- سيرة عمر بن عبد العزيز، لابن عبد الحكم، ص : 59، نقلا عن فقه الزكاة : 620/2.
4- فقه الزكاة، د يوسف القرضاوي : 888/2.
5- القِوام والسِّداد؛ وهما بمعنى واحد؛ وهو ما يغني من الشيء، وما تسد به الحاجة.
6- الحِجَى مقصور هوالعقل،وإنما شرط الحِجَى تنبيها على أنه يشترط في الشاهد التيقظ فلا تقبل من مغفل (صحيح مسلم بشرح النووي : 133/7/4، 134).
7- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب : “من تحل له المسألة”.
8- المجموع شرح المهذب، للنووي : 181/6.
9- الزكاة وتطبيقاتها المغربية حتى عام 1319هـ، للدكتور محمد الحبيب التجكاني، ص : 147، 148.
10- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب : “بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى”.
11- حِلْسٌ : ما يُفرش في البيت.
12- قَعْبٌ : آنية فخمة يسقى بها الماء.
13- القَدُوم : آلة للقطع والنحر.
14- الفقر المدقع : الشديد.
15- الغرم الفظع : حاجة لازمة من غرامة مثقلة.
16- الدم الموجع : كناية عن الدية يتحملها، فترهقه، وتوجعه، فتحل له المسألة فيها.
17- الحديث أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الزكاة، قم : 1641.