حدثتني أديبة من المشرق قالت :
“دُعيت مرة إلى مهرجان أدبي، وبعد أن انفَضَّتِ الأمسية جاءتني فتاتان شقراوان قدمتا نفسيْهما إلي على أنهما أمريكيتان مهتمتان بدراسة الأدب النسائي العربي وهما مقيمتان ببلدي لمتابعة دراستهما العليا في الأدب العربي.. تحدتنا بلغة عربية لا بأس بها تغلب عليها لكنة أنجليزية، وذكرتا أنهما تودان التعرف إلي والاطلاع على تجربتي عن كثب، ثم طلبتا رقم هاتفي على أمل لقاء مرتقب. أضافت الأديبة : “… ولأنني كنت ممتعضة من هذا اللقاء المفاجئ فقد ترددتُ في أن أسلمهما رقم هاتفي ثم قلت في نفسي وماذا بعد؟ لِتَكُن تجربة وفرصة لأعرف ما تريدان وما تنويان.. ومر شهر ثم استأذنَتْ إحداهما هاتفيا في لقائي فضربتُ لها موعدا، وكان الوقت رمضان فزارتني بعد الظهيرة، جاءت بملامحها الدقيقة وقامتها الضئيلة تحمل علبة صغيرة بيضاء بين يديها وكيسا كبيراعلى ظهرها على شاكلة جَوَّابي الآفاق. رأيت في ملامحها سمات الجد والحزم، وظهرت عنايتها بمهمتها جلية على وجهها وكأنها تتهيأ لأمر عظيم. حدثْتُ نفسي قائلة : هل تمتلك أمريكا طاقات شابة بكل هذا الحزم والتوثب والتصميم حتى إن الفتاة لا تكاد تبتسم؟
جَلَسَتْ على مقربة مني وأنا أخالس النظر إلى وجهها الوديع لعلي أمحو بوداعتها ما علق في ذاكرتي من بشاعة أهلها بما مارسوه من أعمال القتل والتدمير والإذلال ضد أهلي، ورحت أبحث في مرايا نفسي عن شظايا صور متراقصة متناقضة للبؤة… للانسان السفاك الوديع.. فوجدت بيني وبين ترميم الصورة أنهارا من الدم وليالي من الآلام والأنين. ومسافات من المهانة والاضطهاد.
ولا أخفيك يا أختي ـ قالت الأديبة ـ أنني بدافع كَرَمِنا العربي تَوَثَّبْتُ لأقدم إليها مشروبا ثم بقيتُ بين إحجام وتردد إلى أن حسمت الأمر قائلة في نفسي إنه كرم في غير موضعه ماذا لو يصيبها مغَصٌ؟ إن وراءها لوبيات بكاملها. ثم أخرجت الفتاة آلة صغيرة وراحت تتهيأ لتسجيل الحوار المفترض لبلادتي المفترَضة.. فَصَدَّها اعتراضي وطلبي أن يكون الحوار مكتوبا. وعلى الفور سحبَتْ من محفظتها ثلاث صفحات من الحجم الكبير قد رقنت عليها كل أصناف الأسئلة وقسمتْها إلى ثلاثة محاور : الأديبة (فلانة) والماضي.. الأديبة (فلانة) والحاضر.. الأديبة (فلانة) والمستقبل. وكل محور يضم ما يزيد عن عشرين سؤالا أغلبها يخرج عن الأدب إلى الحياة الخاصة والعامة.. والمحرجة، شُدِهْتُ لفاعلية الفتاة وحزمها. ثم طلبتْ مني أن أعيد إليها الحوار بعد يومين مرفقا ببعض الأعمال الأدبية والحوارات التي أجرتها معي المنابر…!!
لقد أحسست يا أختي بأن الفتاة دارسة صَنَاعٌ، وباحثة ماهرة، وتلميذة مدربة.. وأنها في حجم المهمة التي أنيطت بها. ثم غادرتْ بيتي وعند الباب لا حظتُ أنها قد أودعَتِ العلبة البيضاء رفا صغيرا.. وحينما تفحصتُها بعد انصرافها وجدت بها حلوى تقليدية أدركتُ أنها اشترتها من أقرب محل حلويات من بيتي وحملتها إليَّ.. تأدبا وتوددا.
صمتتِ الأديبةُ برهة ثم استدركتْ مبتسمةً : “أتعلمين ما كان مصير هذه الحلوى. لقد ظلت في علبتها أربعين يوما وعجبتُ لأطفال البيت الذين لم يقربوها، وكلما أردتُ أن أمدهم بقطعة منها هربوا رافضين ومرددين في براءة “لا إنها حلوى أمريكية!!”