نحب أن يكون مدخلنا إلى هذا الموضوع طرح السؤال التالي :
ما السبب الذي أدى إلى وجود نزعة دموية في التفكير والممارسة المسيحيين، عبر التاريخ، مع أن جوهر الدين المسيحي -كما يقترحه الإنجيل- هو السلام والمحبة والخلاص!؟ أو كيف تسرب التفكير والسلوك الكنسيين الدمويين إلى قلب المسيحية ورموزها!؟
إن الزاوية التي يجب من خلالها رصد العنف التنصيري، مشوبة بكثير من الإشكالات. إذ إنه بالرغم من أن مجمل نصوص الأناجيل تقدم صورة خيالية للتسامح عن السيد المسيح وعلى أنه الإنسان “السوبرمان” من طينة غير بشرية “ابن الله، بل هو الله الرحيم”، وأنه جاء بتعاليم، هو نفسه لم يلتزم بها-، إلا أننا وجدنا عبر التاريخ الأوربي خاصة سياسات عنيفة جدا من المؤسسات الدينية المسيحية، غير متناغمة مع الصورة الأولى المتسامحة جدا، التي نسجت للسيد المسيح!
فما هي هذه السياسات التنصيرية العنيفة؟ وكيف يتم التوفيق بينها وبين “تسامح” المنصرين؟
-لا ريب في أن ما اصطلح عليه بـ”محاكم التفتيش” أو ما اصطلح عليه بـ”الحروب الصليبية”، يلخص حِسَّ العنف التنصيري، وهما ابتداع ديني مسيحي بحت. والفرق بين المصطلحين أن الأول، يمثل إرهاب المنصرين المسيحيين الملتزمين ضد المسيحيين البسطاء والعلماء على السواء. وأن الثاني، يجسد إرهاب المنصرين ضد المسلمين. وكلا منهما يمثل ما تواطأت عليه كل الأمم والشعوب، وعلى رأسها المسيحية نفسها بعلمائها وملتزميها المنصرين، قبل أعداء الكنيسة!
سياسة “محاكم التفتيش”
إذا كان القرار العقدي ومن ثمة السياسي لكبار المنصرين، مرهونا بقوة اللوبي اليهودي، إلى درجة استطاع اليهود معها انتزاع تبرئتهم من دم المسيح من المنصرين-سواء بمقابل أو دون مقابل، وكلاهما خيانة عقدية عظمى للمسيح وما ورد في الإنجيل-، فلمن سيلجأ المنصرون لتبرئةساحتهم من محاكم التفتيش التي عقدوها لذويهم وإخوانهم المسيحين قبل غيرهم من ذوي المعتقدات المخالفة!؟
لا شك أن الذين رهنوا قرارهم العقدي حتى كذبوا الإنجيل -الذي أدان اليهود، بتعذيب المسيح “الإله” والبصق في وجه “ابن الله”، وأخيرا قتله أقبح قتلة، لا يرضاها الله حتى لأحد من خلقه، أحرى أن يرضاها “لابنه” تجاوزا طبعا، وليس له ابن جل سبحانه وتعالى عن ذلك-، وكذبوا شهادات الرسل كما دونوها هم أنفسهم، وسيأتي عليهم وقت يحرفون ويغيرون التاريخ لفائدتهم، بعدما غيروا النص المقدس نفسه؛ فبرؤوا من يجب أن يدان، وأدانوا من يجب أن يبرأ وهي الأديان التي لم تمارس محاكم التفتيش على أحد، كما هو حال الإسلام وعلمائه.
لذلك فإن “محاكم التفتيش” عار سيبقى يلاحق المنصرين، وظلم ألحقوه حتى بالأديان التي عانى علماؤها من الظلم والطغيان، مثل علماء الإسلام(1).
سياسة “الحروب الصليبية”
تعتبر الحملات الصليبية حركة عسكرية اتجاه الشرق، حدثت تحت الراية الدينية، راية تحرير المقدسات المسيحية، في القدس وغيرها من الأماكن المقدسة، من حكم المسلمين. وقد كانت الكنيسة الكاثوليكية ملهمة الحملات الصليبية(2). لقد بارك التنصير الحملات الصليبية، وغطت الكنيسة الإرهاب الدموي دينيا، حتى لكأن المسيح يسوع نفسه، مثل “يهوه” “Jehovah” اليهودي تماما، وسط الجيوش التي تجتث روح الإنسان من جسده وتسفك الدم، يعبؤها ويسدد رميها ويقودها إلى النصر. فتم إتلاف الزرع والضرع وإهلاك الأرض والعرض وإزهاق الأرواح. وهو المعطى التاريخي الذي لا يحتاج إلى دليل، ولا يصمد قبالته حديث عن يسوع السلام والمحبة، وما يستحيل معه سماع إنكار أي منصر مهما بلغ سمته وخلقه وجماله وغناه. وهو أيضا الأمر الميسور الرجوع فيه إلى المصادر الغربية الأوربية قبل العربية. عند هذه المصادر يغدو وجه التنصير عاريا عن الدليل على المحبة والخلاص والسلام؛ الذي بدأه المسيح “الرب” بوجه مثالي غير قابل للتأسي والاقتداء، وانتهى على أيدي البشر المنصرين إلى ما يشهد به تاريخ أوربا الإرهابي الطويل. إن الكنيسة التي لم ترحم حتى أبناءها، يمكن أن تفعل بغيرهم فوق ما يتسع له التصور البشري من الاضطهاد والاستئصال! حتى ليمكن الجزم اليوم بأن الخسف والقصف الدمويين والإجرام والإقصاء في الفكر والسلوك العلمانيين الذين أديا إلى هيروشيما وناكازاكي مرورا بمخلفات الاستعمار في دول المعمور وعلى رأسها الفيتنام والجزائر والعراق وفلسطين، إنما هو سليل الدوحة الكنسية التنصيرية!
سياسة “من أجل لبنان مسيحي”
يُعَدُ كتاب “الصليب الأسود أو ملف المؤامرة على لبنان”(3)، وثيقة تاريخية مصورة، أنجزها حزب الاتحاد الاشتراكي العربي التنظيم الناصري، يكشف فيها الدمار والتقتيل والتنكيل والتشويه الذي أحدثه التفكير الصليبي التنصيري في لبنان أيام التمزق الطائفي “من أجل لبنان مسيحي”. مجرد نموذج واحد فقط، وإلا فالدول الأوربية المسيحية، حينما دخلت في مرحلة استعمار دول العالم واستغلالها ثم بعد ذلك تدميرها، كانت متشبعة بهذه الروح التنصيرية. وهو النهج الذي ما تزال تسلكه العديد من الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، في سياساتها تجاه الشرق الإسلامي. حيث تعيث فسادا ودمارا بغية تدمير القوة الحقيقية الضاربة للشعوب الإسلامية، وهي: الثروة البشرية والمادية والعقدية، كي يجد التنصير طريقه بل مكانه ومكانته بسهولة ويسر شديدين. وخير دليل يلوح في هذا المقام “من أجل لبنان مسيحي” هو إذن وزير الدفاع في حكومة ريكان لبيغين باجتياح لبنان من أجل تأسيس حكومة مسيحية في بيروت، كما سنعيد ذكره في النقطة التالية:
سياسة “المسيحية الصهيونية”
-ما كان للمنصرين من كل الطوائف المسيحية، أن يقبلوا بما تصنعه آلة الدمار اليهودية في الأرض الفلسطينية وبالمعالم المقدسة خاصة -أو حتى أن يزوروا الكيان الصهيوني رسميا، مثل ما فعل البابا يوحنا الثاني، ومثل ما فعل من هم أقل منه مرتبة في السلك المسيحي، أو يبرؤوا ساحة اليهود من دم المسيح الذي يشهد الإنجيل بنقيضه-، لو كان السلام والمحبة والرحمة والخلاص التي يتحدث عنها المنصرون، هي التي تحكم الفكر والسلوك التنصيري. ولكن بما أن العكس هو الحاصل، فإنه من اللازم القول: إن ما صنعه اليهود في فلسطين، ما كان ليحدث لولا الحماية والرعاية والدعم والمباركة التنصيرية المسيحية الأوربية والأمريكية خاصة.
-إن “المسيحية الصهيونية”، وجه تنصيري يخدم “القضية اليهودية” أكثر مما يخدم يسوع المسيح نفسه. إن اليهود في العالم لا يشكلون شيئا يذكر، أمام المسيحيين الذين تدير دولهم العظمى دفة تسيير العالم كله. ولكن امتدادهم العقدي في الفكر التنصيري المسيحي(4) يضمن بقاءهم ويعطي وجودهم وكيانهم معنى.
إن هذا التصور العقدي، إنما يؤطر ويفسر إيمان العديد من المسيحيين بالحق التاريخي لليهود في فلسطين، إذ يجعلون ذلك مبنيا على أسس لاهوتية وكتابية. وهو المذهب الذي اصطلح على تسميته ب”الصهيونية المسيحية”. وقد تضافرت عوامل عدة منذ انتخاب بيغين، على تنمية قوة “الصهيونية المسيحية” كمذهب ديني مُسَيَّس جدا، وملتزم تأييد الجناح التصحيحي من الحركة الصهيونية، وتعزيز سيطرة إسرائيل على الأراضي المحتلة(5). يقول الرئيس الأمريكي الأسبق “جيمي كارتر” لليهود: (إنني أعبد نفس الرب مثلكم. ونحن المعمدانيين ندرس نفس التوراة مثلكم) ويقول أيضا: (إن بقاء إسرائيل على قيد الحياة لا ينهض على السياسة، ولكنه واجب أخلاقي)(6).
-إن هذا الاعتقاد المسيحي المتبادل المصالح مع اليهود، هو الذي سمح للجنرال “هيج” وزير الدفاع الأمريكي في عهد “ريكان”، أن يعطي الضوء الأخضر لاجتياح بيغين للبنان عام 1982م. هذا الغزو الذي كان يهدف إلى إقامة حكومة مسيحية في بيروت(7). إن هذا التناغم في السياسات الاستعمارية، وهذا التحليق في عالم ذي ألوان وتطلعات موحدة، إنما أملته اعتبارات وشروط عقدية مشتركة أيضا.
-ولقد كانت قبل هذا، طوائف مسيحية كثيرة، على نفس النهج وما تزال. ومنها طائفة “شهود يهوه” التي لم تختر هذه التسمية سوى بعد انعقاد مؤتمرها العام سنة 1931م، إذ كانت تسمى قبل ذلك ب”جمعية تلاميذ التوراة”. وقد كتب أحد زعمائهم وهو “رذر فورد” الذي قاد الطائفة أكثر من ربع قرن (1916-1942م)، كتابا بعنوان: (ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبدا). وهو كتاب يدين “شهود يهوه” ويكشف النقاب عن حقيقة علاقتهم الروحية باليهود(8). إذ يرى فيه مؤلفه أن موافقة الدول الكبرى على أن يكون لليهود وطن، إنما هو إشارة ونبوءة توراتية واضحة(9).
-وقد كان موقف الكنيسة من اليهود يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. فإيطاليا كانت تحمي اليهود بوصفهم “حراس الشريعة” الواردة في العهد القديم وبوصفهم شاهدوا أحياء على صحة الكتاب المقدس من الوجهة التاريخية وعلى “غضب الله”(10).
-لابد أن يكون واضحا، إذن، أن المسيحيين مطالبون بالتبرئ من هذه العقائد اليهودية المادية والدموية العنيفة التي تتقاطع تماما مع سماحة يسوع. وإلا فليعلنوا صراحة اشتراكهم مع اليهود في النظرة المادية عامة والصدامية خاصة. ويؤكدوا أن ماضيهم الدموي كان طبيعيا جدا يوم ملكت الكنيسة زمام الأمور في أوربا، إذ لم يكن أمامها من نهج تسلكه غير المنهج التصفوي اليهودي القائم على الإلغاء والملاحقة -كما تبين-، وأن هذه السماحة الإنجيلية المتمثلة في أقوال المسيح ما قيلت سوى للاستقطاب وللمواعظ وللاستهلاك الخطابي.
——————-
1- يرجع إلى شهادة “ديورانت” و”المسيري”، لتفصيل بعض صور “محاكم التفتيش”.
2- “رسائل مختارة 1844-1895″، ماركس وإنجلز، ترجمة: إلياس شاهين، دار التقدم موسكو 1982. ص406.
3- المطبوع في بيروت لبنان، سنة: 1976م.
4- ذلك ما سنكشفه في فقرة: “وجوب الإيمان بثنائية مرجعية”.
5- مجلة: “الدراسات الفلسطينية”، العدد3 صيف 1990م، ص130.
6- “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، روجيه جارودي، الطبعة الثالثة يناير 2000م، تقديم: المهدي المنجرة، ترجمة: قسم الترجمة بجريدة “الزمن”، بإشراف محمد سبيلا، ص177.
7- “الأساطير”، جارودي، ص:212.
8- “شهود يهوه”، زهير جلول، قدم له فضيلة الأستاذ: محمد حسين فضل الله، دار الملاك، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1416هـ- 1995م، ص:223.
9- “شهود يهوه”: 227-228.
10- “قصة الحضارة”، الجزء الثالث من المجلد الرابع (14)، ترجمة: محمد بدران، ص:81.