من نافلة القول إن طرق العمل الدعوي الإسلامي تعددت وتنوعت، وتنوع معها الخطاب الدعوي من مركز على التربية إلى آخر مركز على السياسة وثالث على الثقافة… وفي هذه الصفحة سنعيش ـ على مدى حلقات بحول الله ـ مع الأستاذ محمد فتح الله كولن أحد قيادات العمل الاسلامي في تركيا وأحد الناهلين من معين تراث الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله، وسنطل على التجربة التركية الغنية من خلال كتابه (طرق الإرشاد في الفكر والحياة) الذي يعتبر كتابا في (فقه المعاناة والألم من أجل الدعوة إلى الله) والذي ترجمه إلى العربية ذ. إحسان قاسم الصالحي رئيس مركز رسائل النور بتركيا.
وقد تطرق الأستاذ كولن في الأعداد الماضية إلى مهمة التبليغ التي تقلل الانحرافات في المجتمعات البشرية وتنير دروب الظلام لبناء مجتمع القيم الفاضلة، ولا يتحقق ذلك إلا بقيام الإنسان بمهمته الاستخلافية في الأرض كما تحدث عن الحاجة إلى التبليغ ومكتسباته. ونواصل في هذا العدد هذه الرحلة الممتعة مع الأستاذ كولن في الحلقة الخامسة :الحلقة الخــامسة : التـبــــليغ يتطـلـب الاستمــرار 2/1
إن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتطلب الدوام والثبات. وقد وضحت الآية الكريمة الآتية هذا الأمر بقوله تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران : 11) فإذا ما أنعمنا النظر إلى عبارات الآية الكريمة تتوضح أمامنا قرآنية ما ذكرناه من أمور.
إن كلمة “كنتم” تعني “أصبحتم” ولا تعني” أنكم سابقا” كنتم “فاختيار هذه الكلمة ذو مغزى دقيق. بمعنى هناك “كينونة”؛ أي الوجود من بعد بمعنى أصبحتم هكذا. ولستم هكذا منذ الأزل. ومن المعلوم أن الكيفية الحاصلة في الأزل لا تزول. وإنما الذي يزول هو ما يحدث ويحصل من أوضاع. بمعنى أن دوام ذلك الوضع وثباته مشروط بموجودية الظروف التي تُكسب تلك الحالة.
{كنتم خير أمة} أي أصبحتم خير أمة بين الأمم. فهذا الحدوث، كسبُ حادث عَرَضي، أي أن زواله ممكن أيضا. لأن الخير ليس نابعا من ذاتيتنا قطعا. إذ لا فرق بيننا وبين المولود في موسكو أو في غيرها من الأماكن، فكلنا مخلوقون من قطرة ماء. وليس هناك إلا عامل معنوي وتأثير عرضي يوجه كياننا المعنوي وماهيتنا نحو الخير، بحيث يجعلنا نتميز عن الناس الآخرين. والمقصود هنا من “نحن” هو” الأمة” بكاملها. فهذه الأمة ليست خير أمة من الأزل. بل وُضعت فيها هذه الخيرية. وليست مما لا تفارقها ولا تنفك عنها. فهناك حالات تحققت من قبلها فأصبحت خير أمة، أي كونها خير أمة لا تعني أنها ستبقى أبدا هكذا، فإن لم تراع هذه الأمة تلك الحالات التي جعلتها خير أمة، ستضيع تلك الخيرية.
>فالشرط الأول لتلك الخرية هو : {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. بمعنى أنكم إذا قمتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنكم تصبحون خير أمة. ولكن لنر المفهوم المخالف للآية الكريمة، وهو : أنكم إن لم تقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصبحون شر أمة. ومما يؤيد هذا المعنى أحاديث شريفة كثيرة وروايات متعلقة بالصحابة الكرام. فمثلا :
إن هذه الأمة التي كانت تتفضل على الآخرين بتقبيل ركاب افراسها، ظلت عزيزة الجانب طالما أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر. ولكن بعدما تخلت عن هذه الوظيفة المقدسة أصبحت ذليلة مهينة تتوسل بتقبيل ركاب الآخرين. ولعل السبب الأساس في الذل والهوان الذي يتجرعه العالم الإسلامي حتى لا يؤبَه له في مختلف المستويات الاجتماعية هو تقصيره في هذه المهمة الحياتية.
نعم، إن بركة الوحي تنقطع بعدم إيفاء حق هذه المهمة الجليلة. وتصبح الأفكار سائبة عقيمة، والمحاكمات العقلية ضعيفة واهية لا تأثير لها. وكل كلمة تفوه بها تصبح جافة غير مجدية، لاتترك أثرا إلا الإبهام الذي فيها، حتى لا تبقى فيها رشحة من حقيقة. وكل هذا علامة انقطاع بركة الوحي. ومتى ما ينقطع مصدر الإلهام في التفكير والتفكر يبدأ التراجع والتقهقر حتى في العلوم المادية التكنولوجية.
وقد غدا قدرا مقدورا لا يتبدل للمسلمين المحرومين من بركة الوحي، احتياجهم إلى غيرهم في كل الميادين والساحات حتى غدوا شحاذين سأَلَة في أبواب الآخرين، يرقبون ما في أيديهم. وفي الحقيقة إن بداية التقهقر والانحطاط تتزامن مع انهيارنا الداخلي.
وسنسعى في الحلقات القادمة لتوضيح هذه المسألة بأمثلة متنوعة كثيرة بإذن الله تعالى.
والآن نعود إلى الموضوع لتناول القيود الموجودة في الآية واحدا واحدا :
لقد ذكرنا أن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الدوام والثبات كما تشير إليه الآية الكريمة : {كنتم خير أمة أخرجت للناس} والحديث الشريف يؤيد هذا المعنى : “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(1)..
والمنكر : هو كل ما يستقبحه الاسلام، لذا فالمسلم عندما يجابه ما يستقبحه الإسلام، فأول ما عليه أن يؤديه هو تغيير ذلك المنكر. أما كيفية التغيير فيختلف حسب وضع المنكر. والمهم في الأمر هو بذل الجهد في التغيير. ذلك لأنه يحتاج إلى الثبات والدوام. والذي يجب على المؤمن في تغييره ذلك المنكر أن يغيره أولا بيده، فإن لم يستطع باليد فبلسانه سواء بالكلام أو بالكتابة. وإن لم يستطع فبقلبه، أي ببغضه ذلك المنكر. وذلك أضعف الإيمان. وليس بعد ذلك من خردل من الإيمان. لأنه يعني الرضا بالمنكر المشاهد.
أما إنكار القلب وبغضه فيمكن أن نفهمه بالآتي:
إن الانسان إذا اغتاظ وغضب على أحد يحاول جاهدا ألا يجالسه في مجلس واحد. وألا يتبادل معه الفكر والرأي. لأن المحبة والعداء لا تجتمعان في قلب واحد وفي آن واحد، ولأنالإنسان لا يميل قلبا إلى من يبغضه. فالمؤمن الذي يغضب على منكر ما ويبغضه، يحتفظ بشده الروحي ويصون قوته المعنوية، ولكن الاكتفاء بهذا القدر من الانفعال ليس هو المطلوب من المؤمن، بل البغض القلبي هذا، لا بد وأن يعقبه عمل باللسان أو باليد. علما أن هذا النفور القلبي الجزئي من المنكر علامة على وجود الإيمان. إذ لا يستصوب مؤمن قط ما لا يستصوبه الاسلام . وحتى لو كان المؤمن يعايش من يرتكبون هذا المنكر لا يمكن إلا أن يرى هذا النقص والقصور فيهم. وبخلافه يُعد منهم. ولهذا فالمؤمن يكون دوما في شد روحي وفي قوة معنوية عالية. وفي الحقيقة تعلمنا الآية الكريمة والحديث الشريف اللذان أودناهما هذا الأمر.
نعم، قد يؤدي الانسان هذه المهمة أحيانا باليد واللسان مع زوجته وأولاده، وعندها تتكلم اليد وينطق اللسان. ولكن يجب أن تُؤدى هذه المهمة باللسان في الأماكن التي تعجز اليد عن الكلام. وعلى الأغلب تنفذ هذه الطريقة مع الأقربين. ولئن عجز المرء عن هذا أيضا فعليه أن يراجع علاقاته القلبية معهم. ويمكن أن يطلق على هذا معنى من معاني المقاطعة، لأن الذي يفعل المنكر قد قطع علاقته مع ربه، والمؤمن يأخذ سلوك المقاطع مع من قطع علاقته مع ربه ويبتعد كليا عن كل ما يومئ إلى تقديره واحترامه. حيث إنه مضطر لتنسيق علاقته مع أمثال هؤلاء على وفق ارتباطهم مع ربهم. أي يجب إعادة النظر في العلاقة والارتباط مع من قطع علاقته مع الله ورسوله.
وهكذا كان الصحابة الكرام، وكلام سيدنا عمر] نموذج لما ذكرناه عندما كانت الاستشارة مستمرة في شأن أسرى بدر عندما قال له رسول الله : “ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكنني من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها”(2).
علما أن هذا الرأي لم يُقبل في الاستشارة إلا أنه أسلوب يستحق أن نقف عنده من حيث التعبير عن سلوك المؤمن تجاه المنكر، رغم أنه لم ينفذ.
والمؤمن يتخذ مدى ارتباط من يقابله بربه مقياسا لارتباطه وعلاقته معه، فلا يكون صديقا حميما بالمعنى الحقيقي ولا يوثق علاقته مع المبتوتي الصلة بربهم. وعلامة ذلك في أدنى حدودها بغض المنكر قلبا، ودوام هذا الانفعال القلبي. ولهذا نحن مضطرون إلى أن نتحرك كالصحابة الكرام. فإن كانت محبة الله ومحبة رسوله في كفة وفي الكفة الأخرى محبة القريبين لنا ولكنهم بعيدون عن الله، فمحبة الله ورسوله لا بد أن تُستشعر بكل ثقلها في قلوبنا.
والأمر ليس مسألة محبة فحسب. بل ينبغي أن يكون الحق والحقيقة فوق كل شيء في مسلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتُستعمل اليد أو اللسان حسب الاستطاعة، فإن لم يستطع الانسان كل هذا، يقطع علاقته القلبية ويعيد النظر في علاقات الود مع المقابل. وليعلم أن العلاقة مع أي شخص إن كانت تضاد العلاقة مع الله ورسوله وتخالفها فسيقلب الأمر عليه دائما ويهلكه ويفنيه.
——-
1- مسلم : الايمان، 78 الترمذي الفتن : 11
2- مسلم، الجهاد، 58 المسند 1/30- 32