افتتاحية : الآخر مضمون الحقوق في الإسلام فلماذا يُحمَّل المسلمون أوزار  المعتدين على المسلمين؟؟!


مفهوم الآخر :

قال الله تعالى : {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مومن}(التغابن) وقال تعالى : {فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر}(الكهف)، بناء على هذا التقسيم الرباني فإن الآخر -في الحقيقة الإسلامية لا ينصرف إلاّ إلى شيء واحد هو الكفر بالإسلام، لأن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء يتعايش فيها المومنون والكافرون بعزة وكرامة، أما الآخرة فجعل فيها دارين : دار النعيم للمتقين، ودار الجحيم للمجرمين.

وهذا التقسيم -طبعا- يتفاوت في كل ملة فليس كفر فرعون وأبي جهل وأبي لهب مثل أتباعهم وإن كان المصيرُ واحداً، وكذلك ليس إيمان مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين مثل إيمان من جاء بعدهم، وإن كان المصير واحداً ولكن الدرجات متفاوتة.

وأول حقوق الإنسان الحرية في أن يختار دينه ويقرر مصيره، ولكن الله عز وجل رحمة منه بعباده أرسل للإنسان الرسل حتى لا يضلوا، مهمة هؤلاء الرسل الدعوة والإرشاد والتربية بدون أن يكون لهم حق للإرغام على الإيمان، ولهذا كان في الإسلام المبدأ الخالد {لا أكراه في الدين}(البقرة).

وكان من أوجب الواجبات على ورثة الأنبياء دعوة الناس في الحدود التي حدّها الله تعالى للرسل. حتى يستمر التدافع بين الحق والباطل على مر الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إذ بذلك التدافع تتجدد الحياة ويستمر الاستعمار للأرض، ويشعر الإنسان بلذة الحياة على حسب همته وطموحاته. وبناء على هذا التقسيم فملة المومنين يد واحدة على من سواهم {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض}(التوبة) وملة الكافرين يد واحدة على من سواهم {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}(الأنفال).

وإذا كان الله عزو جل لا يرضى لعباده الكفر، فإنه عزوجل عدلا منه ورحمة- ضمن لهم كل حقوق الكرامة الإنسانية، فلا يجوّعون بدون حق، ولا يقتلون بدون حق، ولا تنتهك أعراضهم بدون حق، ولاتُسلب أموالهم بدون حق {من كان يريد العاجلة عجّلنَا له فِيها ما نشاء لمَن نُرِيد ثم جَعَلنَا له جهَنّم يصْلاَها مَذْمُوماً مدْحُوراَ}.

وبناء على الإكرام الرباني للإنسان بصفة عامة، فإن الآخر -الكافر- إذا جعله الله تعالى تحت ولاية المسلم وشريعة الإسلام، فقد ضمِن له جميع الحقوق التي لا تتوفر له أبداً في غير شريعة الإسلام، من ذلك مثلا :

< هذا النص القرآني الخالد {لاَ يَنْهاكُمُ اللَّه عَنِ الذِين لَمْ يُقَاتِلُوكُم في الدِّين ولمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيارِكُم أنْ تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهِم إنّ اللّه يُحِبُّ المُقْسِطِين إنّما ينْهَاكُمْ الله عَنِ الذِين قَاتَلُوكُم في الدِّين وأخْرَجُوكُم من دِيَاركِم وظَاهَروا على إخْرَاجِكم أن توَلَّوْهِم ومَنْ يَتَوَلَّهُم فأُولَئِكهُم الظّالِمُون}(الممتحنة)، فهذا النص وحده كاف ليكون أعظم بند دستوري عند المسلمين في كيفية التعامل مع الآخر. فالخطوط الحمراء فيه نقطتان أساسيتان : عدم المس بالدين، وعدم الاعتداء على الأوطان الإسلامية، فإذا وقع المسُّ بإحدى هاتين النقطتين، فقد أعطى الله عز وجل الحق للمسلمين في أن يدافعوا عن دينهم وأنفسهم وأوطانهم. لأن الدين عنوان التميز وعنوان الشخصية المعنوية، والوطن عنوان المأوى الاجتماعي والحضاري، ولا قيمة لإنسان بدون دين أو وطن.

أما في غير المس بهاتين النقطتين فالتعامل قائم بين المسلمين وغيرهم على أساس التعايش الكريم، فلا ظلم للآخر، ولا اكراه له على دين، ولا مس بماله أو نفسه أو نسبه وعرضه إلا بحق.

وإذا كان الإسلام غنيا بالنصوص الحافظة لحقوق الآخر، فإن التطبيقات التاريخية أيضا غنيةٌ بحُسن العدْل والإقساط والبرور بالآخر، وحُسن إكرامه ومعاملته.

ومن أمثلة ذلك :

1) وثيقة المدينة التي نصت بتفصيل دقيق على حقوق الآخر ولم يثبت أن الرسول  نقضها ولو مرة واحدة، بل كان النقض يأتي من الآخر.

2) الفتوحات الإسلامية بمختلف البلاد شرقا وغربا، فلم يُثْبت التاريخ المنصف أن المسلمين تجاوزُوا الحدود التي حددها لهم الإسلام، ولذلك كانت الشّعوب تُسرع بالدخول في الإسلام.

3) المقارنة بين دخول المسلمين للأندلس وتأسيس حضارة كانت هي أساس نهضة أوروبا، وبين انتصار الصليبيين على المسلمين هناك. وكيف أرغموهم على التَّنصُّر وأسسوا محاكم التفتيش السوداء في تاريخ الإنسانية البربرية بصفة عامة.

4) المقارنة بين دخول الصليبيين لبيت المقدس وما فعلوا من سفك الدماء، وبين دخول صلاح الدين إليه وكيف  أعان كل الضعفاء والفقراء ليوصلهم إلى بلادهم في أمان.

5) المقارنة بين سماح المسلمين لليهود والنصارى بتأسيس مدارسهم وتعليم دينهم ولبس شاراتهم، وبين الحملات المشنونة مند أواخر القرن الماضي وإلى الآن على خرقة تلبسها المرأة أو الفتاة على رأسها لتتصَوَّن وتسْتُر مفاتنها عن السفهاء.

إذن، فالإسلام لا مشكلة لديه مع الآخر، فلماذا تُشْحَذ الأقلام،وأَسِنَّةُ الإعلام الحاقدة لإبراز الإسلام على أنه عنوان للإرهاب وكُرْهِ الآخر ومطاردتِه والعمل على اجْتِثَاثِه، فلماذا هذا التواطؤ من الداخل والخارج على تشويه صورة الإسلام؟؟ إن ذلك لا يعني إلا شيئا واحداً،وحقيقة واحدة ذكرها القرآن مراراً وتكراراً هي {إنْ يَظْهَرُوا عليكم يرجُموكم أو يعيدُوكم في ملتهم ولن تُفلحوا إذن أبداً}(الكهف).

ولقد برز هذا الحقد في :

1) تكوين الجيوش الجرارة من المستشرقين،والمنصّرين،والعلمانيّين،والإلحاد وتسليطهم على نُخب العالم الإسلامي ومفكريه ومثقفيه وحكامه لقيادة الشعوب بالقهر والفكر إلى هاوية عبادة المال وتقديس الدنيا.

2) في التدخل المباشر لاحتلال منابع الثروة في البلاد الإسلامية ليتمكنوا من جعل الحكام مديرين منفذين.

3) التدخل المباشر لعزل المسلمين عن العمل بشريعتهم، بل التدخل المباشر لعزل آلاف الخطباء عن منابرهم، بل أكثر من ذلك محاسبة البعض ممن يدعو على الكفار والمجرمين والظالمين، والأدهى من ذلك أن يتصدَّر كاتب إسلامي معروف بتحليلاته العميقة الرزينة… يتصدّر ليكتب مقالا يُقَعِّدُ فيه للخطباء والمسلمين أن الدّعاء على هؤلاء المفسدين ليس من سنة الرسول ، وإنما من سنته الدعاء لهم وليس عليهم، مع أنه فعل هذا وذلك، وإلا ما معنى >اللهم فوعدك الذي وعدتني< أي الوعْد بالنصر على الكفار في بدر، وكذلك ما معنى  >شاهت الوجُوه في غزوة بدر<، أيضا >واللهم عَمِّ أخْبارَنَا عنْهُم< في الخروج لفتح مكة، وما قول الرسول  في غزوة الخندق >شَغَلَنَا المُشْرِكُون عن صلاةِ العَصْر ملأَ اللَّهُ أجْوافَهُم وقُلُوبَهم نَاراَ< وماذا نقول في النصوص القرآنية التي ورد فيها {ألا لعْنة الله على الظالمِين الذين يصدّون عن سَبِيل الله ويبغُونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون}(هود : 19) وفي الأعراف الآية 44 : {فأذن مؤذن بَيْنَهم أن لَعْنة اللَّه على الظّالمِين الذين يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرةِ كافرون}، وجاء في سورة إبراهيم الآية 3 : {وويْل للكَافِرين من عَذَابٍ شديد}، وفي سورة الهُمزة الآية 2 : {ويْل لكل هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الذِي جَمع مالاً وعَدَّدَهُ..} والويْل هو الدعاء بالهلاك.

أما الدعاء بالهداية للكفار فقد ثبت أيضا عن رسول الله  ولكن لمن يُرجى منه الخيرُ، كثقيف، ودَوْس، وكأبناء قريش الذين كان يعلم رسول الله  أنهم سيسلمون إذا أذْهَب الله عنْهُم عتاة الكفر الذين كانوا سدا منيعا بين وصول نور الإسلام إلى قلوب الشباب، وكذلك الشأن اليوم في كل الشعوب المظلومة، فهي مستعدّة لتقبُّل الإسلام إذاوُجد الدعاة وطُهِّرتْ الأرض من عتاة الظلم والكُفْر.

وماذا نقول في دعاء أبي الأنبياء نوح عليه السلام الذي قال : {وقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلى الاَرْضِ مِن الكَافِرِين دَيَّاراً إنَّك إنْ تَذَرْهُم يُضِلُّوا عِبَادَك ولا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراًً كَفَّاراً}(نوح : 29). وماذا نقول في دعاء موسى على فرعون وأتباعه {ربَّنَا اطْمِسْ علَى أمْوَالِهِم واشْدُدْ على قُلُوبِهِم فلاَ يُومِنُوا حَتّى يَرَوْا العَذَاب الاَلِيم}(يونس : 88).

معنى هذا : أن الكيان الإسلامي في صورة دولة مسلمة تَتَبَنَّى الإسلام دينا وشريعة ودعوة وجهاداً عن الدين والوطن علانية بدون خوف من أحد إلا من الله؟ كيان بهذا الشكل معدوم. ومعنى هذا أن أمة إسلامية مُوحَّدَة الكلمة، وهي كلها يد على من سواها، هذه أيضا معدومة حِسّاً، أما معنويّاً فهي موجودة في أذهان الطائفة التي لا تزال على الحق قائمة، وموجودة في أذهان الآخر الذي يبذل كل جهده كي لا تقوم وتخرج للواقع.

إذن فالمعركة غير متكافئة بين أمة غير موجودة واقعا، وبين الآخر الموجود قوة وواقعا وتحكما في الصغيرة والكبيرة من شؤون المسلمين.

وقد تجلت هيمنة الآخر على شؤون المسلمين في عدة ميادين منها :

> تنصيب الحكام على الشعوب لينفذوا سياسية الآخر.

> إبطال المرجعية الإسلامية والاحتكام للمرجعية البشرية.

> فرض برامج التعليم، وحذف ما لايتلاءم مع الآخر من النصوص الدينية والدروس الأخلاقية.

>فرض برامج الاقتصاد المرتبط  بعجلة الآخر.

> إرهاب كل من أظهر مقاومة لهذا الابتلاع بكل أنواع الإرهاب.

والخلاصة أن الآخر هو المتحكم المهيمن فلم يُحَمَّلُ المُسْلِمُون أوزار المجرمين المعتدين على المسلمين حاضرا وماضيا، وفكراً وتاريخاً، وقتلا وإرهاباً، إن تاريخ المسلمين فيه ما يعاب عليه، ولكن ليس فيه مما يمكن أن يساوي عشر أعشار الإجرام الذي اقترفهُ الآخر في حق المسلمين، يُسلِّينا عن ظلم الآخر قول الله تعالى : {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمّ نُتْبِعُهُم الآخَرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمُجْرِمِين ويْلٌ يََوْمَئِذٍ للمُكَذِّبِين}(المرسلات : 19).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>