1- ألقوا ما أنتم ملقون
هو الامتحان الرباني المتواصل العبر.. شخوص يعتلون الركح ثم يـنـزلون تباعا، فليست الوجوه كالوجوه، ولكن جوهر القصص يظل واحدا وإن تعددت الحلقات.. واللوحة هي هي على امتداد الحقب، لوحة الصراع بين الباطل الغاشم السريع الزوال، والحق الأعزل بدءا، لكنه المنصور لا محالة، والراسخ الوجود حتى تقوم الساعة كما قال الإمام علي كرم الله وجهه، انطلاقا من القاعدة الحاسمة التي جاءت في قوله سبحانه : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين}(يونس :81). وتطالعنا في السياق لوحة باهرة الأحداث من السجل الرسالي تعلو فيها وتيرة الشد والجذب بين الحق والباطل لينتهي المشهد بالغلبة للحق.. لوحة صراع نبي الله سيدنا موسى عليه السلام الرسالي الموحد والجبار فرعون مدعوما، بملئه وسحرته. وتتعدد زوايا العظات في الدرس الموسوي البليغ. وسنكتفي بإذن الله بالوقوف عند الزاوية التي تهم ورقتنا.
إن موسى في صراعه مع الطاغوت المتعدد لا يمتشق سيف الاستئصال أمام ثلة المفسدين من فرعون وآله، بل يؤثر سحر القول اللين كما أمره بذلك رب العزة، ويفضل ساحة البيان والتبيين الحضاري، حيث تقارع الحجةُ الحجةَ، والنعتُ النعتَ بكل نِدِّية، لدحض الربوبية المغشوشة لفرعون وعبيده المستضعفين.
{قد جئتكم ببينة من ربكم}(الأعراف : 105) يقول موسى عليه السلام بلسان المبلغ الواثق، ويرد فرعون بصلف المستكبر: {إني لأظنك يا موسى مسحورا}(الإسراء : 101)، ويعقب موسى عليه السلام بعزة المؤمن : {إني لأظنك يا فرعون مثبورا}(الإسراء : 102).
وبإلقاء الضوء الكاشف على الحدث الخالد تتجلى لنا ساحة النـزال، حيث تتجمع بطانة ُفرعون ومُسْتَعبَدوه ومستأجَروه من السحرة لاختبار ادعاءات موسى عليه السلام كما يروج لذلك سدنة فرعون.. ويتمخض الصراع بمقتضى السنن الربانية عن اندحار الباطل، وهو المتوسل بكل السحرة العليمين بالسحر العظيم.
يقول سبحانه في هذا المشهد العميق المعاني : {وأوحينا إلى موسى أن الق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك فانقلبوا صاغرين}(الأعراف : 117- 118- 119)، ثم يتكلل المشهد الجليل بالعقاب الرباني الأليم : {فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين}(الأعراف : 135) وتسدل الستارة على المشهد البليغ العبر، وبين البارحة واليوم تظل وشائج الكمون للمؤمنين المبلغين، وصكوك الاتهام جاهزة، فإذا وسموا ماضيا بالسحرة والكذابين، فقد ارتقوا مع تطور الإستراتيجيات العدوانية لـملفقي المعجم السياسي الجديد، إلى رتبة الإرهابيين !!، ومع ذلك ورغم ورغم فنتيجة الحرب على العقيدة أبدا محسومة لصالح قوى الخير والمحبة، وإن توسل الباطل بأحدث وأشرس وسائل الدعاية المضللة. ولنا في الحملة الجزائرية أكبر الدروس، فلسنوات خلت، ظل الإسلاميون يحملون يافطة القتلة الإرهابيين الذين يبقرون بطون الحوامل، ويغتصبون العذارى، ويدقون جماجم الرضع، ثم فجأة ظهر في المشهد السياسي، عسكريون وديبلوماسيون برتب سياسية وعسكرية متفاوتة، وهؤلاء أعلنوا بالحجة والدليل لوسائل الإعلام الدولية أن مسارح الجرائم التي كانت ترتكب في الجزائر كان أبطالها غلمان الجنرالات الذين اخترقوا التنظيمات الإسلامية ووقعوا مجازرهم الوحشية في حق الشعب الجزائري باسم الإسلام وباسمها.. وهكذا وعلى حين غرة قدم سبحانه إلى ما أشاعوا من تضليلات فجعلها هباء منثورا.
وإذا كان سبحانه عاجلا أو آجلا -مدمرا كيد- الحاطبين بليل، فإن الجهد الإنساني يظل مفصليا في معركة دحر الباطل. وقد رأينا كيف قال موسى قولته البليغة ألقوا ما أنتم ملقون وانبرى لعرض سلعته الربانية.. وحسبنا هذه الكلمات نستعين بها ونحن نتوقف عند زماننا الراهن، حيث تتبدى نفس حكاية الصراع مع فلول الظالمين المفسدين المجمعين أمرهم أكثر من أي وقت مضى لمحاربة المجرى الرسالي وفدائييه المحاصرين..
2-كن كشجرة الصندل تعطر الفأس التي تقطعها
وصلا لما جاء في حلقتنا الماضية من حديث عن النبوءة الإستشرافية للشيخ الجليل ” سعيد النورسي” التي قال فيها إن أوربا حبلى بجنين الإسلام، وإشارتنا في آخر فقرة منها للدور المنشود لأبنائنا بالمهجر في اتجاه أجرأة هذه النبوءة، واستعانة بالقولة البليغة لسيدنا موسى : {ألقوا ما أنتم ملقون}، نعتبر أن الوظيفة التبليغية لفدائيي المحبة، كما نعتهم بجمالية أخاذة الأستاذ “فتح الله كولن” في الأعداد الأخيرة من جريدة المحجة، تقتضي العرض الجيد والراشد لبضاعة الإسلام على أنظار الحيارى والتائهين من الغربيين أسوة بالمستكبرين الذين لم يفتأوا يروجون لسلعتهم المفلسة..وهكذا وعلى سبيل المثال، تقابل سلعتهم المدعوة بمشروع إصلاح الشرق الأوسط الكبير سلعة فرسان الدعوة المسلمين تحت عنوان :
“المشروع الإسلامي لإصلاح الغرب الكبير”!!.. دون أن ننسى المسالك الأخرى للدعوة، وهي أكثر من أن تحصى.
وقبل ذلك فالتوفيق في المهمة التبليغية يستلزم مجموعة من المواصفات لخصها ذ “كولن ” بقوله : (إن من ينهض بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كائنا من كان، يكون ضمن الثناء الرباني إذ يقول تعالى : {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}(آل عمران : 113 – 114) كما اعتبر أن على المضطلعين بمهمة التبليغ “البقاء دوما في دائرة مفاهيم الصحابة الكرام ” .. وهم الأصحاب الذين قال فيهم سبحانه : {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود}( الفتح : 29 ).
وبالتالي وبالنظر إلى هذه المواصفات، فإن التهالك على المطامع الدنيوية والانتصار للخلاص الذاتي المتمثل في “الحريك ” إلى الفردوس الغربي الوهمي، لا يمكن أن يصنع فدائيي المحبة المنتظرين، وحسبه إنتاج مجموعة غثائية من العبيد لأهوائهم التي تجعلهم والضالين سواء، ألا تقول الحكمة العربية السديدة : (العبد حر إذا قنع والحر عبد إذا طمع). ولنعتبر بقصة العالم الإسرائيلي باعوراء الذي أرسله نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين لنشر الدعوة، فاستهواه المفسدون فلم ينكر عليهم انحرافهم وانخرط في فسوقهم، فكان من الغاوين، فجاء فيه قوله سبحانه : {واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}(الأعراف : 176).
وختاما، ما أجمل قول الشيرازي : (كن كشجرة الصندل تعطر الفأس التي تقطعها)وعطر فدائيي المحبة :الإسلام.