عبادته
لقد ازدحمت الأخبار بتقواه ونسكه وتقشفه، وما ظنك برجل واظب على حضور الجماعة أربعين سنة لا يشذ عنها وقتا واحدا، واعْتَلَّتْ عينه يوما، فقيل له : لو خرجت إلى العقيق ونظرت إلى الخضرة لنفع ذاك. فقال : وكيف أصنع بشهود العتمة والصبح! وقد كان يتابع الصوم ويسرده سردا، أما الحج فقد أكثر منه على تقدم السن، وضعف البنية، ووعورة الطريق!
وقد نقلت عنه أقوال ترسم السبيل السوي للمؤمن المناضل في الحياة، فقد قال له مولاه برد : ما رأيت أحسن مما يصنع هؤلاء فقال سعيد : وما يصنعون؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافا رجليه يصلي حتى العصر؟ فقال سعيد : ويحك يا برد، أما والله ما العبادة هذه، إنما العبادة الكف عن محارم الله، والتفكر في أمره، وإذن فالعابد التقي هو الذي يسعى إلى رزقه مجتنبا محارم ربه، ولن تنفعه عبادته وأمعاؤه تتلوى، وأطفاله يتضورون.
زهده فيما بأيدي الناس
على أن إغراق الرجل في عبادته لم يصرفه عن السعي وراء رزقه، فقد رفض عطاءه من بيت المال، واندفع يتأجر في الزيت ليعتصر طعامه من حلاله الصريح، وليتحرر من رق هذه النفوس اللئيمة التي تعطي باليمين لتأخذ بالشمال وتمنح مال الله لأربابه لتضع أغلالا من المنن في الرقاب، فتسترق الأحرار وتحني الرؤوس.
علاقته بالحكام
لقد كان العصر الاموي -لعهد سعيد- ـعصر منافع واستغلال، فالأمراء والولاة لا يسيرون على سنن الراشدين من الخلفاء، وقد بلغوا جهودهم المضنية في تدعيم الملك باجتذاب الأنصار وإغراء النفوس بالمال والمنصب والنفوذ، وقد رأوا التفاف العامة حول سعيد وتعظيمهم إياه، فأرادوا أن يجذبوه إلى ساحتهم، ليلوذوا بركن وطيد من تعضيده، وسعيد يعلم أنهم أهل جور ومظلمة، فيرفض كل رجاء يقدم منهم إليه، ويراهم دونه في كل شيء، حيث قد اعتز بتقوى الله، وذلوا بمعصيته، وهو لا يفتأ يعلن رأيه صريحا شهيرا في مناوأتهم الصريحة دون أن يأبه لعاقبة تسوء، أو طامة تعم.
سعيد يختار زوج ابنته
وقد أراد عبد الملك أن يخطب ابنة سعيد لولي عهده (الوليد) فيكسب بذلك محبة في القلوب، ويتخذ من سعيد دعامة تجذب نحوه الأنصار والأتباع، ولكن ابن المسيب يحتقر رغائب الحياة وينظر في ترفع سام إلى مقاييسها الواهنة في منطق الدهماء، فيرفض أن تكون ابنته أعظم سيدة في المملكة الاسلامية! يرفض ذلك ويستهوله لأنه ينكر أن يكون مطية لظالم، أو خديعة لشعب مرهق ذليل! ثم ماذا؟ يعجل بزفاف وليدته إلى طالب علم فقير لا يملك غير قوت يومه! فأي ملاك هذا الذي سما بإنسانيته الرفيعة فوق المقاييس الهابطة إلى أوج رحيب تضيئه العزة ويغمره الجلال.
حرصه وثباته على الحق
وقد كان النزاع بين الأمويين والزبيريين على أشده بالمدينة، وكل حزب يجتذب من الأشياع من يشد عضده ويقوى شوكته، وقد اتجهت أنظار الفريقين إلى سعيد، والرجل في قرارة نفسه لا يؤمن بهما معا، ويرى الخلافة الاسلامية قد انحرفت عن نهجها الذي عرفه أيام عمر وعلي ولكن الرسل من الجانبين يتوافدون عليه وكلمة الحق تصرخ في فمه فتدمغ الباطل فينحدر، وقد أرق أولو الأمر لمخالفة سعيد، وامتحن امتحانا رهيبا من الطائفتين، فما تراجع عن رأي أو نكص عن حق، بل ظل كالطود الشامخ ناهضا يندد بالطغاة، ويرى الملأ كيف يقف الحق الأعزل في وجه الباطل المدجج، وكيف يحرص المسلم الأبي على كلمة الحق، وإن حال دونه الباطل بسياطه وحرابه، فلن يصيب إلا جلدا وعظما، أما النفس المؤمنة فمطمئنة بإيمانها،ملتذة بعذابها، منتظرة مثوبة الله لأصفيائه ونكال الآخرة والأولى لذوي البهتان الآثم والطغيان الرهيب.
هذا جابر بن الأسود عامل عبد الله بن الزبير على المدينة، يأمره بالبيعة فيمتنع، فيضربه ستين سوطا، فما تراجع عن موقفه، ويرى ذلك هينا في سبيل الله، وهذا عامل عبد الملك على المدينة يأمره بالبيعة للوليد بن عبد الملك فيمتنع، فيهدده بضرب عنقه، فما يتراجع لحظة عن موضعه، ثم يطول الحوار والجدل، فيعرض عليه واحدة من خصال ثلاث : أن يقرأ الوالي كتاب البيعة على الجمهور فيسكت سعيد دون أن يقول لا أو نعم، أو أن يجلس في البيت فلا ينهض إلى المسجد أياما حتى تنتهي البيعة، أو أن ينتقل من مكانه بالمسجد فلا يجده الرسول إذ يأتيه.
وقد رفض سعيد هذه العروض، وكان له في العروض الأخيرة مندوحة تقيه دون أن تخدش رأيه، ولكنه وضع نفسه موضع الزعامة الكريمة للمسلم الصادق ليسد كل ثنية يلج بها الباطل مأربه، فهو أولا يخشى أن يخرج بالصمت عن لا ونعم، فيعلم الناس أنه بايع ولم يعارض، وهو ثانيا يتعاظمه أن يمكث بالبيت أياما فلا يخرج إلى الصلاة وصوت المؤذن يلهبه ويستدعيه، وهو ثالثا يربأ بنفسه أن ينتقل من مكانه حذرا من مخلوق لا يملك لنفسه ضرا أو نفعا.
وكان سعيد يعلم حقيقة ما ينتظره من عذاب أليم، فما أن أعلن مخالفته حتى جرد من ثيابه، وضرب خمسين سوطا، وطاف به الرعاع في أسواق المدينة، وهم يقولون : هذا موقف الخزي فيرد عليهم في يقين حازم : بل فررنا من الخزي يوم القيامة بما فعلتموه وفعلناه
هذه المحن السود تمر بالمؤمن فتزيده يقينا وإيمانا، ثم تنجلي غمرتها الفاشية عن روعة واستبشار، فالظالم يتخاذل ويتقهقر، حين يجد عقوبته الظالمة قد عادت على غريمه بالعزة وارتفاع الذكر وبعد الصيت!! وهذا ما استشعره بنو مروان، فقد أسفوا لما صنعوا،وهموا باسترضاء الرجل مرات، فما أبه بخليفة أو أمير.
وقد قدم عبد الملك يوما إلى المدينة ووقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلا يدعوه، فأتاه الرسول وقال : أمير المؤمنين بالباب يريد أن يكلمك فقال : مالي إليه من حاجة، وما به حاجة إلي، فرجع الرسول، فأخبره، فقال له : قل له : أجب أمير المؤمنين، فكرر سعيد ما قال : فاستعظم الرسول ما صنع، فقال له سعيد : اذهب يا بني، فإن كان يريد بي خيرا فهو لك، أو شرا فليقض ما هو قاض؟ ورجع الرسول بالاجابة إلى سيده، فطوى الضلوع على غيظ كظيم.
وقال عمرو بن عاصم : لما استخلف الوليد بن عبد الملك قدم المدينة، فدخل المسجد، ورأى شيخا قد اجتمع عليه الناس، فقال : من هذا؟ فقالوا : سعيد بن المسيب، فلما جلس أرسل إليه، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين، فقال سعيد : لعله أرسلك إلى غيري، فأتاه الرسول فأخبره، فغضب الوليد غضبا شديداً وهم به، فقال له جلساؤه : يا أمير المؤمنين، فقيه المدينة، وشيخ قريش لم يطع أباك من قبلك وأغضى عنه، ثم ما زالوا به حتى تراجع!.
وقد صلى الحجاج ذات يوم صلاة عاجلة، لم يتم ركوعها وسجودها كما يجب، فأخذ سعيد كفا من الحصى ورماه به، فاستخذى في صلاته، وأخذ يطمئن، ولم يسكت طاغية العرب عن سعيد خشية وإجلالا، ولكنه خاف غضب بني مروان إذا هم به، فهم بعد موقفهم الأول منه يتحاشون أن يشعلوا الصدور بمؤاخذته فينكئون جراحا قد اندملت على صديد، فهي تلتمس السبيل للثورة والانفجار!!
ثقته بالله
وأياً كان فقد حاول هؤلاء أن يسترضوه، فما رجعوا بطائل منه، وقد كان له في بيت المال عطاء كبير يتجاوز ثلاثين ألفا، فبعث إليه، فرفض أن يأخذ منه درهما، وقال : لا حاجة لي فيما عند الظلمة من حقوق، فقيل له : ألا تخاف على نفسك؟ فقال لمحدثه : مهلا يا أحمق فلن يضيعني الله!!
هذا الإيمان القوي، وهذا الاعتزاز بالحق، وهذا الورع الرفيع الأخاذ كل ذلك قد أضفى على الرجل حلة زهية من الهيبة والكمال، فكان في حياته قوة مرهوبة عنيدة، وبعد مماته فكرة سامية نبيلة، ومثلا تشرئب إليه النفوس الطامحة، بل حلما نادرا تتمناه القلوب، وتترقبه الأجيال.
عن كتاب علماء في وجه الطغيان للدكتور محمد رجب البيومي -بتصرف-