قضايا إسلامية: لماذا تأخر رد “حماس” الانتقامي؟ حسابُ الحقل وحسابُ البيدر


استشهاد الرمزين الكبيرين والقائدين المؤسسين، الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، كان ضربة موجعة للأمة كلها وليس لحماس فحسب. ولكنه لم يكن مفاجئا للحركة التي كان أفرادها يحملون أرواحهم على أكفهم ويُمعنون في ملاحقة شرف الشهادة بقدر ما يُمْعن الكيان الصهيوني وعملاؤُه في اقتفاء آثارهم. فقد تعلمت الحركة وقادتها وأبناؤها أن الضربة التي لا تقتلها تزيدها قوة وحنكة في مواجهة العدو.

إدمان التفاوض إلى حد

لإفلاس السياسي

وإذا كان شارون الذي يوصف بالحمق، كلّ ما أقدم على تجاوز الخطوط الحمراء، صار أحمقاً بالفعل من وجهة نظرنا على الأقل، فإنه وبالنظر إلى منطقه الدموي الاستئصالي كان وفيا لمشروعه المبارك من طرف المفتي الأمريكي،والهادف إلى الإستغناء عن “الشريك” الفلسطيني الذي أدْمن التفاوض إلى حدّ الإفلاس السياسي، وذلك بتنفيذ انسحابه الفردي من قطاع غزة التي طالما تمنى الصهاينة أن يبتلعها البحر، وهذا الانسحاب، سماه بـ”خطة فك الارتباط” كبديل لخطة  خارطة الطريق المؤودة رغم أنف البيت الأبيض. من هنا كان “تنظيف” غزة من رموز المقاومة وقادتها في تصور شارون الوحشي مقدمة ضرورية لهذا الإنسحاب. ومعلوم أن صمت بوش وإدارته عن هذه الخطة الهمجية كانت مقابل دعم اللوبي الصهيوني الأمريكي له في الانتخابات الرئاسية القادمة. وقد تعلمنا، كما شرح ذلك الأستاذ محمد حسنين هيكل في إحدى محاضراته على قناة “دريم” المصرية، أن شارون يملك دائما أن يؤثر على بوش كلما زار واشنطن مقابل زيارات الحكام العرب لها، لأن شارون يذهب إليها حاملا مشاريع لدعم بوش في معاركه السياسية، بينما يذهب العرب بلائحة من المطالب. في ضوء ذلك نفهم كيف بلغ بوش في تصديقه لوعود شارون حد إهدائه ما سمي بـ”وعد بلفور الثاني” القاضي بعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وبتشريع إقامة مستوطنات في الضفة الغربية إثر زيارة شارون الأخيرة لواشنطن والتي تميزت أيضا بزيارتين لكل من الملك عبد الله والرئيس مبارك. عادا على إثرها كما سجل المراقبون مخذولين.

في سياق هذا المشهد السياسي المتميز دوليا : بفرض أمريكا لأجندتها على المنطقة العربية بعد احتلالها للعراق من جهة، وحرصها على تكريس مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي سيجعل الدول العربية مجرد هامش للمركز الصهيوني، وعلى فرض نوع من الإصلاح على أنظمتها. المتميز بإدراج المجموعة الأوربية لحماس ضمن لائحة المنظمات الإرهابية من جهة أخرى. وفي ظل وضع إقليمي تعرف فيه الدول العربية انهياراً شاملاً لإرادتها السياسية وتفككا في علاقاتها، المتوج بالعجز عن عقد قمة تونس الأخيرة. في سياق هذا المشهد العام تبدو خيارات حركة المقاومة الإسلامية حماس في رد العدوان الصهيونيوجرائمه مشوبةً بكثير من المحاذير والمطبات.

حماس ومبدئية المقاومة

على أن التسليم بهذه الحقيقة لا يُحِلُّ لنا التشكيك في مبدئية خيار المقاومة كاستراتيجية سياسية وعسكرية لدى حماس تتبناها بشكل غير قابل للمساومة، مقابل ما يسمى “السلام كخيار استرايجي”، هذه البدعة السياسية التي انفرد بها العرب في التاريخ السياسي المعاصر دون غيرهم من الأمم! رغم مسلسل التقتيل والاستيطان والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة التي أقرتها مجموعة من قرارات الأمم المتحدة، ورغم نجاح المقاومة الإسلامية في لبنان في تأكيد نجاح خيار المقاومة ورضوخ الصهاينة لمنطق القوة الذي لا يفهمون غيره.

حماس التي تعرف كيف جذر العمل المسلح وجودها السياسي وطنيا وإقليميا، سارعت بعد الجريمتين إلى التلويح بالرد المزلزل، كما أن الجماهير الغفيرة التي خرجت لتشييع الجنازتين، حمّلتْها ثقل مسؤولية الانتقام. فلماذا تأخر الرد حتى قال بعضُ المحللين : إن تأخره هو ما شجع شارون على ارتكاب الجريمة الثانية ضد الرنتيسي؟

من المؤكد ونحن نحاول الإجابة عن هذا السؤال أن الأمر لا يتعلق بـ”واقعية سياسية” طالما احترقت ورقتها في يد السلطة الفلسطينية ومتفاوضيها. كما لا يتعلق بدور الجدار الفاصل في الحد من فاعلية ضربات الجناح العسكري “كتائب القسام”. ولا بارتباك تنظيمي أثر عليها.

بل الردود العسكرية لحماس كانت قبل الهدنة التي التزمت بها عهد حكومة أبي مازن سريعة وقوية عموما. لكنها أصبحت بعد الهدنة وفي ظل متغيرات الوضع الدولي والاقليمي المشار إليه سابقا، تمثل “مشكلة”. وليس مجرد مسألة وقت أو تكتيك ميداني.

إن حركة حماس باعتبار إرثها السياسي وتاريخها المدجج بالخبرات الميدانية والسياسية في الصراع مع العدو ومع شروط المقاومة، تزن الأمور بمقياس أكثر  رشداً، وتعرف كيف تُنضج حساباتها على نار هادئة. وذلكحتى لا يُكلفها الرد المزلزل فقدان مكتسبات ثمينة من العلاقات السياسية الحساسة مع الداخل الوطني ومع الخارج القومي والإسلامي.

عوائق الرد المشروع

وفي ما يلي عرض لأهم العوائق التي كبحت جماح حقها المشروع في الرد، نقدمها مرتبة رغْم أنها تتشابك وتتداخل إلى حد يجعل ترتيبها يكاد يكون مجرد ضرورة منهجية :

1- يرتبط العائق الأول بالسياق الدولي والإقليمي، حيث تقلصت كل هوامش المناورة حتى أضحت تقريبا لا تتجاوز الهامش الوطني، مع استثناء المؤازرة المبدئية والإعلامية لحزب الله في لبنان. فأمام حيثيات الوضع الدولي التي عرضناها سابقا والتي كان من نتائجها فرض الرقابة على اللجان والجمعيات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني العربي الداعمة للمقاومة الفلسطينية ماديا ومعنويا، وأمام تشديد القبضة الأمنية على الشارع العربي ونزوعه إلى تفضيل الهامش الضيق للاحتجاج بدل الاصطدام مع قوانين وبيانات منع التظاهر والاحتجاج. أصبحت حماس، وربما أيضا غيرها من حركات المقاومة الفلسطينية، تدرك ضرورة تجديد استراتيجياتها وتغيير أساليبها بما يتلاءم مع هذا الوضع الجديد الذي ترْجَحُ فيه كفةُ العدو الصهيوني الذي عرف كيف يستغل بخبثه المعهود موضوع الإرهاب.

2- أما العائق الثاني وهو الأهم فيتمثل في وعي حركة حماس بما ستجلبه أية عملية انتقام كبيرة من تداعيات أمنية وسياسية غير محتملة، ليس بالنسبة لها فقط ولكن بالنظر إلى التهديدات التي يُمكن أن تتعرض لها أجهزة السلطة الفلسطينية ورموزها بما فيهم عرفات نفسه، وذلك بعد أن أصبح شارون لايعرف حدوداً لبطشه وغطرسته. ولا تملك حتى واشنطن الغارقة في المستنقع العراقي سوى الانصياع لمنطقه وأطماعه التي لا حد لها في إذلال الشعب الفلسطيني وتركيع قياداته، ومعلوم أن الصهاينة في موضوع تهديد عرفات لهم سوابق؛ فكلما نفذت حركة حماس أو الجهاد عملية عسكرية، كانت حكومة العدو تصب جام غضبها على عرفات وتهدده بالتصفية. وقد اعتُبِر تصريحُ شارون الأخير بتحلله من وعده لبوش بعدم مس عرفات إنذاراً أخيرا له، ومرحلة خطيرة في مسلسل تهديداته.

3- العائق الثالث يتمثل في الرصيد السياسي الذي اكتسبته حماس، باستهداف رموزها وقادتها محليا وإقليميا ودوليا وتعاطف الداخل والخارج معها خصوصا في مقتل الشيخ المقعد أحمد ياسين. لقد كان خروج عشرات الآلاف من الفلسطينيين في جنازة الشهيدين على المستوى الداخلي استفتاءً شعبيا لصالح خط المقاومة وتعبيراً عن الولاء لقادة حماس مقابل الهبوط المستمر لأسهم السلطة الفلسطينية خصوصا بعد وعد بوش لشارون الذي اعتبره بعض المحسوبين عليها بكونه إقباراً لأسلو ولمسلسل السلام. إن هذا الرصيد السياسي المتنامي لحماس والذي جعل كثيراً من المراقبين يتحدثون عن عزم السلطة الفلسطينية بسببه على تطعيم وفدها إلى مؤتمر القمة العربي بتونس بممثلين من حماس والجهاد، يفرض عليها (أي حماس) أن تُدقق حساباتها وتتجنب كل ما يُمكن أن يعرضها لخسائر سياسية في هذه الظرفية الدقيقة وعلى رأسها الرد المزلزل على جرائم شارون.

4-أما العائق الرابع فقد عبر عنه الدكتور محمود الزهار أحد أكابر قادةحماس في غزة والذي لمع نجمه رفقة الشهيد الرنتيسي بعدما كانا من مبعدي “مرج الزهور” في بداية عقد التسعينيات.

إذ صرح في الأسبوع ما قبل الأخير من شهر أبريل الماضي لقناة العربية أن تأخر الرد ناجم عن خلو شوارع العدو من المارة بعد ما حَمَل “الاسرائيليون” تهديدات حماس مَحْمَل الجد فأصبحوا لا يغادرون بيوتهم إلا للضرورة. وهو ما يُعد، إذا استمر تأخر تنفيذ حماس لتهديداتها، استنزافا للإقتصاد الصهيوني الذي يعاني أصلا من تبعات الانتفاضة. وتقويضا لوعود شارون لمواطنيه بالأمن وذلك عملا بقاعدة اللهم الوقوع في البلاء ولا انتظار وقوعه، كما يقول لسان حال “الاسرائيليين” المذعورين. وتتطلب هذه العوائق مجتمعة وغيرها مما يظل سراً من أسرار الحركة خاصة ما يتعلق بالجوانب الميدانية التكتيكية، والحركية التنظيمية، براعة سياسية وحسن إدارة للصراع حتى تنجح حماس في تحقيق المعادلة الصعبة التي تضمن لها حقها في الرد على جرائم شارون، وفي المحافظة على علاقتها الفاعلة بالداخل الفلسطيني بما يضمن دعم مشروعها التحريري والتمكين لخطها الجهادي بأقل حد من الخسائر السياسية. ومن استعداء الخارج الأوروبي.

إن حماس اليوم تدرك أكثر من أي وقت مضى، أن مقولة “الجيش الاسرائيلي خير مفسر للتوراة” مقولة محورية في سياسة العدو الصهيوني. وأن حسابات البَيْدَرْ أصبحت مفروضة عليها. وأن حِساب الحقل الذي كانت تعمل فيه قد غابت شروطه. لكنها بالمقابل تعي جيدا أن كل هذه المتغيرات لا تَفُتّ في عضدها، ولا تدفعها إلى رفع الراية البيضاء أو الركون إلى شعارات الواقعية السياسية بمعانيها الاستسلامية، بل على العكس من ذلك هي مدعوة إلى ممارسة لعبة العض على الأصابع بصبر وثقة في النصر، وإيمانٍ بأن الشروط التي صَنَعَتْ عُلو الصهاينة لن تدوم. وها هي ذي أحداث العراق تثبت قدرة المقاومة على إرباك كل المعادلات وقلب الطاولة في الوقت المناسب. من هنا نفهم حرص حماس الصامت على تنفيذ عمليات محدودة تستهدف المستوطنات وعناصر جيش العدو وتتحاشى ضرب المدنيين إلى إشعار آخر. وتعد العملية الاستشهادية التي نفذها أحد عناصرها يوم الأربعاء 28 أبريل الماضي ضد حاجز صهيوني عنوان خيارات حماس في المرحلة الراهنة إلى حين تحول الأحداث على الصعيدين الاقليمي والدولي لصالحها.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>