كثرت قضايا الناس في زماننا، وتميزت بتشابكها بين عدة مجالات (اقتصادية، واجتماعية، وسياسية،…)، الأمر الذي جعل المُفتين في اجتهاد دائم للإجابة على المسائل المطروحة عليهم عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية(1)؛ لكن ذلك التصدي -بغض النظر عن مدى نجاعته- يبقى محتاجا إلى اجتهاد آخر من طرف المستفتي لتقع الفتوى الشرعية في محلها الحقيقي.
ويُمْكِن أن نُلَخِّصَ الاجتهاد الواجب على المستفتي العامي في أمرين اثنتين-كما ذكرهما علماؤنا-؛ هما :
أولا- الاجتهاد في اختيار المُفتي :
قال ابن العربي: “فرض العامي أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده، فيسأل ويمتثل فتواه، وأن يجتهد في معرفة أهل وقته حتى يتصل له الحديث بذلك، ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس”(2).
وقال الباجي:” يجب عند مالك على العامي إذا أراد أن يستفتي ضرب من الاجتهاد، وهو أن يقصد إلى أهل ذلك العلم الذي يريد أن يسأل عنه ولا يسأل جميع من يلقاه”(3)، وبعد ذلك وضح الإمام الباجي مسألة نَسْتَشْكِلُها كثيرا؛ تتمثل في اختلاف إجابات المفتين على قضايانا المتشابهة، وبَيَّنَ أن هذا أيضا يتطلب منا نوعا من الاجتهاد يَكْمُنُ في قيامنا بعملية الترجيح بين تلك الإجابات بناء على معايير مُحَدَّدَة؛ قال:”ولكنه (العامِّي) إذا أُرْشِدَ إلى فقيه نظر إلى هيئته وحذقه وصنعته، وسأل عن مبلغ علمه وأمانته، فمن كان أعلى رتبة في ذلك استفتاه، وقبل قوله وفتواه؛ لأن هذا أوفق لدينه وأحوط لما يقدم عليه من أمر شريعته هي بمنزلة الخبرين والقياسين إذا تعارضا عند العالم، واحتاج للترجيح بينهما، وكذلك العامي في المعنيين، والله أعلم”(4).
ثانيا- تحقيق العامي لمناطه الشخصي:
والمقصود به أن يتأمل السائل حاله الذي عَرَضَهُ على المُفْتِي ويَجْتَهِدَ في مدى تَطَاُبُقِهِ مع الجواب الذي أفتاه به، ويُمْكِنُ أن نَعْتَبِر هذا الأمر هو الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لوابصة بن معبد ] حينما سأله عن البِرِّ:”استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك”(5).
وأول من قَعَّدَ هذا النوع من الاجتهاد، وسماه بهذا الاسم هو الإمام الشاطبي؛ حيث قال عنه:”هو ما يكون فيه المكلف مُحَقِّقُ مناط نفسه، فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة وإن كانت كثيرة فلا، فوقعت له في صلاته زيادة؛ فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر، فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه، وكذلك سائر تكليفاته”(6).
ومن الأمثلة المعاصرة التي توضح لنا هذه المسألة بشكل جلي؛ فتوى الشيخ القرضاوي بجواز الاقتراض من الأبناك الربوية لأهل المغرب لضرورة السَّكَن المُلجئة لتلك الرخصة؛ فقد يُسَاِرعَ الكثيرون إلى الاحتجاج بها والادعاء بأنهم ممن يدخلون تحت حكمها؛ من غير أن يتكلفوا عناء الاجتهاد في تحقيق مناطهم الشخصي المأمورين به، ويطرحوا على أنفسهم السؤال التالي؛ هل حَقّا أنَّهم ممن يدخل في حكم تلك الضرورة المُلجئة للقرض الربوي أم لا؟.
ذ. طارق زوكاغ
—–
1- مثل الفتاوى التي تُنقل عبر مختلف وسائل الإعلام ( الفضائيات، والأثير، والجرائد، الشبكة العنكبوتية…)، وعبر الهاتف.
2- أحكام القرآن لابن العربي ؛ ج:2/ ص:224.
3- الإشارة في أصول الفقه؛ ص: 17.
4- نفسه .
5- خرجه الإمام أحمد في المسند (4/228).
6- الموافقات؛ ج:4/ص:67.