أبو إسحاق الجبنياني، فقيه مالكي جمع الله له العلم والعمل، نسجل هنا محطات من حياته الحافلة بالمواقف المرضية، والأحوال السنية، راجين النفع بذلك،
شهادة كبار الأئمة فيه:
أبو إسحاق الجبنياني -كما قال عياض- أحد أئمة المسلمين، وأبدال أولياء الله الصالحين، وهو -كما قال- أبو الحسن القابسي إمام يقتدى به، وكان أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله يعظّم من شأنه. ويقول: طريق أبي إسحاق، خالية لا يسلكها أحد في الوقت!! ويقول: لئن لم يكن أمر أَوَيْس القرني صحيحاً، فالجبنياني أويس هذه الأمة. ويقول: لو فاخرَنا بنو إسرائيل بعبادها، لفاخرناهم بالجبنياني. ويقول: من محبتي فيه، وكثرة ذكري له، أني أراه في المنام. ولقد قوّى قلبي أنه يدعو لي. وأنه رأى جامع مختصر المدونة، الذي ألفته، فأعجبه. وكان أبو محمد التبّان يثني عليه، وكان مسرة بن سالم إذا ذكره، يبكي بكاء عظيماً، ويقول: كان والله مقدّماً علينا في صغره، وفي كبره. قال أحمد بن حبيب: قال أبو القاسم اللبيدي: وكان من أهل العلم.
رسالة لكل أجير:
ذكر أنه أول أمره استأجر نفسه عند رجل، بجهة سوسة، يرعى له بقرة. فأتاه يوماً بفأس فقال: اقطع خشبة من هذه الشجرة. فقال له أبو إسحاق: ليست لك، إنما هي لأخيك. فقال له: صرت لي ضداً؟ إنما عليك أن تسمع ما آمرك به، فتعمله. فقال له: بلى، على أن أتقي الله. فانصرف عنه، فلحقه بأجرته. فقال له: من أين تدفعها لي؟ وأنت لم تزع عن قطع شجرة أخيك في غيبته، فمن أين تدفع لي؟ فذهب ولم يأخذ منه شيئاً.
وقال أبو بكر السيوطي: صحبته قديماً فكنا ربما استأجرنا أنفسنا في جمع الزيتون، فإذا دُفِعَت إلينا أجرتنا يحط منها، ويقول: نخشى أنا لم نوفِ، فكيف نستوفي؟
عندما يختلط الحلال بالحرام
وحضر طعام رجل من أصحابه، فلم يأكل منه، فعتب فيه. فقال: رأيته ترك حلاله، وأَكْلُ ذلك أوجب عندي التنزه عن طعامه.
ولما رحل الى القيروان، ليسمع من أبي بكر ابن اللباد، جاء بجراديق من شعير، فكان يفطر كل ليلة على واحدة. ويشرب من بئر بروطة. فلما فرغ جرادقه، انصرف، ولم يشتر بها شيئاً يأكله.
ولما جاءت فتنة أبي يزيد، واختلطت أملاك الناس في الغنم، ترك شراءَ الرّق، فلم يكتب فيه.
ورع العلماء
قال بعض أصحابه: سرت معه يوماً، وأنا أسوق دابة. فأخذت عوداً من الطريق أضربها به. فقال لي، أهو لك؟ قلت: لا. قال: أَلْقِهِ. قلت: إنه عود ملقى. فقال: كان أصحابنا يزعون عن أخذ الحجر من أرضهم، قلت له: إن مالكاً سئل عن الحبل والعصا؟ وما لا بال له؟ فقال: صدقة ولم يقل مالك: أخذه خير من تركه. وأقل ما يُتّقى من ذلك، أنها تصير عادة، هو أكثر من ذلك.
خوف على النفس :
وقال بعض أصحابه: رأيت في المنام رجلاً مشهوراً بالفسوق، يرجم بحجارة من السماء. فذكرت ذلك لأبي إسحاق. فأقبل عليّ، وهو مذعور. فقال: سألتك بالله أنا هو؟ يكررها عليّ، حتى حلفت له بالله، أنه إنما هو إلا فلان. فقال: والله ما أعلم أحداً أحقّ بذلك مني.
قال أبو القاسم: وكان أبو إسحاق ظاهر الحزن، كثير الدمعة، يسرد الصيام. قال ابنه أبو الطاهر: إنه ما رآه مفطراً قطّ. قال: وقال لي أبي: إن إنساناً أقام في آية سنة، لم يتجاوزها، وهي قوله تعالى: ” وقفوهُم إنهم مسؤولون ” فقلت له: أنت هو؟ فسكت. فعلمت أنه هو.
صلاة الخاشعين:
وكان إذا دخل في الصلاة، لو سقط البيت الذي هو فيه، ما التفت. إقبالاً على صلاته. واشتغالاً بمناجاة ربه. ولقد جمع أولاده يوماً، لزيارة أمهم، وجاءوا بلحم، فطبخته لهم في ركن البيت، وتعشّوا، والشيخ في الركن الآخر يصلي، فبعد مدة قال لأمهم: ما لكم لم تعملوا عشاءً – لشدة إقباله على صلاته.
وكانت صلاته -رحمه الله- صلاة العلماء، تامة موجزة.
ذ. امحمد العمراوي
من علماء القرويين
amraui@yahoo.fr
———–
- كل ما ذكرناه هنا انتقيناه من ترجمة أبي إسحاق في ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله، وقد ذكر له ترجمة حافلة، يحسن بالقارئ أن يطالعها لما فيها من الفوائد التربوية، والنفحات الإيمانية .