ما أحوجنا إلى معرفة واقعنا وفِقهه حق الفقه لنتمكن من معرفة الإيجابيات والسلبيات، فنستثمر الإيجابيات ونستثني السلبيات. وإن كان واقعنا التعليمي لا يخلو، والحمد لله، من إيجابيات، رغم وضعه المر، فإن السلبيات قد طغت عليه بشكل كبير، حتى أصبحت تلك الإيجابيات استثناء. والذي يتتبع ما يُكتب ويُنشر ويُذاع ويُرى ويُسمع في هذه السنوات الأخيرة، يدرك بحق أننا نَمُر بأزمة حقيقية في مجال التعليم. غير أنه، وللأسف، هناك جوانب كثيرة من هذه الأزمة نصنعها بأنفسنا، أو نسهم فيها بشكل كبير، نحن الآباء. ولنأخذ المثال التالي على ذلك. حينما يمر أحدنا بأي مؤسسة تعليمية، وخاصة الثانويات والإعداديات، (ودعنا من الجامعات فلتلك قصة أخرى)، يمر بها، ليس في أوقات الدخول أو الخروج، ولكن خلال حصص الدروس، وخاصة الساعات الأخيرة من الحصص الصباحية والمسائية على حد سواء، التي من المفروض أن يغادر خلالها التلاميذ -الذين هم في عمر الزهور- مؤسساتهم ويتجهون إلى منازلهم، أقول من يمر بأبواب المؤسسات خلال تلك الأوقات يجدها مكتظة بالتلاميذ بشكل لافت للنظر، لكن لكون المشهد أصبح “مألوفا” عند الجميع فإنه لم يعد لافتا للنظر. ما الذي يفعله هؤلاء التلاميذ هناك ذكورا وإناثا؟ هل يمسك أحدهم بدفتر أو كتاب؟ هل يتذاكر أحدهم مع آخر في موضوع درس؟ هل يتنافسون أو يتناقشون في معلومات علمية أو ثقافية؟ طبعا لا! ومن يرد أن يعرف فيم يتذاكرون وعَمَّ يتحدثون فليمر من هناك، فالأحاديث عندهم ليست سرية. طبعا أنا لا أقصد خنق حرياتهم أو التضييق عليهم، فتلك مسألة أخرى أيضا، ولكني أقصد أمرين:
- أولهما أن ما يتعلق بالتحصيل العلمي لا يشغل بال ناشئتنا على الإطلاق، نظرا للأمور الأخرى التي تزاحم تفكيرهم وعقولهم واهتماماتهم، نتيجة ضعف التوعية، والتضليل الإعلامي، حتى غدت حصة الدرس أثقل على التلميذ من أي شيء آخر.
- وثانيهما مسؤولية الآباء الغائبة، وربما المنعدمة، مسؤوليتهم في متابعة المسيرة الدراسية لفلذات أكبادهم خارج البيت وخارج أسوار المؤسسة، لأن المسألة التعليمية لا تنحصر مهمتها داخل جدارن القسم الدراسي. هؤلاء الآباء الذين يكدحون كدحا -كما سبق الذكر في مقال سابق من هذا العمود- يكدحون من أجل إسعاد أبنائهم وتأمين سبل الدراسة لديهم وخاصة ما يتعلق منها بالجانب المادي، من ساعات إضافية وغير إضافية، حتى قيل إن كل شعرة شيب تظهر في شعر رأس الأب -إن كان له شعر- تنطق بما ينعم به الابن أو البنت من سعادة مادية ولو بشكل نسبي. ولكن هؤلاء الآباء لا ينتبهون إلى أن هذه المجهودات تذهب هدراً نتيجة عدم استثمارها، بسبب عدم متابعة السير الدراسي الرسمي لدى أبنائهم، وكأن شعارهم قولهم: “لقد أمَّنت لابني، أو لابنتي، كل ما يريد…الساعات الإضافية، اللباس المطلوب، الهاتف الذكي…”، وكأن هذه وما شابهها هي لوازم التحصيل الدراسي، وعلى التلميذ(ة) أن يحصل تلقائيا على نتائج جيدة، هذا ما يظنه جل الآباء. وهنا مربط الفرس كما يقال، فالأمور تتناسل وتتوالد، إذ أن التلميذ بتغييبه لأولوية التحصيل الدراسي، يكون قد خطا الخطوة الأولى نحو المجهول، فعدم المبالاة خارج الفصول الدراسية يؤدي إلى عدم المبالاة داخلها، وعدم المبالاة داخل الفصول يؤدي إلى الاستهانة بالأستاذ والاستخفاف به، وقد يؤدي إلى موقف عدواني تجاهه، وكلنا يعرف ما يتعرض له العديد من الأساتذة من إهانات نفسية واعتداءات جسدية، قد تجعلهم عرضة لعاهات أو إعاقات، إن لم تؤد بهم إلى العجز الدائم أو إلى الموت، وكل هذه الحلقات تتناسل لتنعكس سلبا على العملية التعليمية برمتها. إن الاعتداء على أستاذ مدرس، داخل دائرة العملية التعليمية، يحطم كل الطموحات والآمال؛ طموحات الأستاذ، أيِّ أستاذ، في بناء جيل متعلم، وآمال التلميذ، أَيِّ تلميذ، في التحصيل المثالي، لأنه بهذا السلوك تتحول المؤسسات التعليمية إلى مسرح يهدده شبح الجريمة، وليس مجالا للتربية والتعليم.
د. عبد الرحيم الرحموني