نشرنا في العدد الماضي النقطة الثالثة من المحاضرة، المتعلقة ب : “مفهوم السلام في القرآن الكريم”. وفي العدد الذي قبله نشرنا مدخلا إلى المحاضرة الذي تضمن نقطتين:
أولاهما: مقدمة في حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم،
وثانيهما: مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي.
وننشر في هذا العدد، النقطتين الأخيرتين المتبقيتين؛ الرابعة، وتتضمن: “شروط تحقق السلام الاجتماعي في القرآن الكريم”، والخامسة، وتتضمن: “خاتمة في {قل إن هدى الله هو الهدى}”.
1 – تحقق السلام الاجتماعي في القرآن الكريم : هذه النقطة فيها مستويات ثلاثة: أولها: مستوى من السلام الاجتماعي يحققه الإسلام، الإسلام الذي أشار إليه القرآن الكريم في قول الله تعالى : {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}. ولتوضيح ذلك يمكن أن نستحضر أمامنا حديث جبريل عليه السلام الذي يُصنِّف مراتب الدين، الذي جاء في آخره: ((… فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم))، هذا الدين فيه مستوى الإسلام، وفيه مستوى الإيمان، وفيه مستوى الإحسان. بمستوى الإسلام يتحقق ما يمكن (تسميته بخمسين في المائة من السلام الاجتماعي)، حتى ولو كان الناس ليسوا جميعاً قد صاروا مؤمنين بمفهوم الآية السابقة {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، لكنهم أسلموا أمرَهم بحكم الشرع، فالشرع ينظِّم حياتَهم تلقائياً، يسهَرُ على فعل الأوامر أو امتثالها، ويسهر على اجتناب النواهي، هذا مستوى الإسلام، مستوى النظام الإسلامي العام، أي إذا حكمت الشريعة فإنها تَضبِط أفعال الناس بصفة عامة حتى ولو كان الإيمان لما يدخل في قلوبهم. وثانيها: هو مستوى السلام الاجتماعي الذي يحققه الإيمان، هذا المستوى يتميز عن المستوى الآخر بأن المكوِّنِين لهذا المجتمع قد انضبطوا من الداخل ولم يُضبَطوا من الخارج، إذ صار لهم الواعظ من أنفسهم، فامتثلوا وانتهوا بسبب الإيمان الذي دخل في قلوبهم. وهذا المستوى هو المشار إليه في قوله تعالى من الآية: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. هؤلاء يكوِّنون سلاما اجتماعيا من مستوى رفيع. وثالثها: تُنشئه مرتبة الإحسان؛ ومرتبة الإحسان هي مرتبة أعلى من مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان، لأنها هي عبارة عن إتقان في ممارسة الإيمان وممارسة الإسلام بهذا المعنى الموجود في حديث جبريل، وهي إتقان في العمل لذلك، ففي درجتيها ((أن تعبد الله كأنك تراه)) والتي يُعبّرون عنها بالمشاهدة، وكأن الحديث فيه ما يُشبِه المشاهدة، أقول ما يشبه المشاهدة، أما المشاهدة فلا وجود لها، ((كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). وهذا صحيح، عُبر عنه بالمراقبة، هو يراك إن لم تكن أنت تراه، فأنت مراقَب؛ فلو وضعت في حسابك أنه الآن يراك فإنك ستمتثل امتثالا رفيعاً، فلا يزني الزاني حين يزني وهو مومن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مومن، إنما يحدث الإثم وتحدث المعصية في وقت الغفلة، لا في وقت المشاهدة أو المراقبة، أبداً، فهذا المستوى درجته رفيعة. ما الذي يميز تقريباً كل مستوى؟ يمكن أن نقول : إن المستوى الأول الذي هو مرتبة السلام الاجتماعي الذي تحققه مرتبة الإسلام، هذا يمتاز أساساً بإقامة القسط، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، بعد ذلك لمن اعوجّ، فهذا مستوى الإقامة، إقامة القسط بين الناس. والمستوى الثاني الذي هو مستوى الإيمان يقابله عملياً مجتمع المتقين، الذين يتقون الله عز وجل، الناس عادة يظنون أن التقوى صفة يمكن ألا يكتسبها الإنسان، أو يكون مسلما ولا يكون متقياً. لا! التقوى تبتدئ من عشرة في المائة إلى عشرين في المائة، والإحسان فرع في التقوى، أو درجة عليا في التقوى، عشرة في المائة التي فيها القيام بالواجبات والفرائض والابتعاد عن المحرمات، هذه الدرجة هي الدرجة الدنيا من التقوى، وبدونها، لا نجاة لا نجاة، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، الأعمال نفسها مع عدم وجود التقوى لا تُقبَل؛ فلذلك الامتثال لا بد منه، الامتثال الداخلي التلقائي، فمجتمع المتقين غير مجتمع الفجار، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار}. وأما المستوى الثالث فهو الرتبة العليا، وأبرز صفاتها فيما قلت – في النظر الذي يقبل النظر- هو الإيثار بدل الاستئثار، السلام الاجتماعي يمنع من وجود الأثرةُ والاستئثارُ. لأنه إذا ظهرت صفة الإيثار، على قدر اتساع دائرتها وعلى قدر حضورها، يبتدئ ظهور السلام الاجتماعي على أعلى المستويات، مستويات رفيعة جدّاً، لأن الإنسان يتجاوز ذاتَه ليقدّم غيره على ذاته، بينما الحاصِل الغالِب الشائع بين الناس هو حب الذّات، أي: الاستئثار، يحبّ الإنسان أن يأخذ الأشياء لنفسه ويمتاز بها عن غيره بدل أن يعطيها. فهذه المراتب الثلاثة أشرت إليها هذه الإشارات لأدل على أن أبسط تطبيقات الإسلام بالمعنى العام لا بالمعنى الموجود في حديث جبريل، لأن الإسلام إذا أُطلِق دخل فيه الإسلام والإيمان والإحسان، كل ذلك داخل في الإسلام، ذاك هو الدين {إن الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، سواء بالمعنى الاصطلاحي أو بالمعنى اللغوي، أقول: الإسلام متى طُبِّق، على أي مستوى من التطبيق بدأ ظهور السلام الاجتماعي. إذا لم نجد السلام الاجتماعي حاضراً فاعلم عِلم اليقين أن الإسلام غير مُطبَّق، لا تحتاج إلى فلسفة، لا تحتاج إلى إحصائيات، لا تحتاج إلى تتبع، إذا وجدت الجرائم فاشية، ووجدت المناكير، إذا وجدت العجائب والغرائب فاعلم أن المجتمع بعيد عن شرع الله، والحياة إنما هي في العودة إلى شرع الله.
2 – خاتمة في {قل إن هدى الله هو الهدى} : النقطة الأخيرة، الخاتمة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} فما سوى القرآن وما سوى الشرع هو أهواء، كائنة ما كانت، جاءتنا من أنفسنا أو جاءتنا من غيرنا، جاءتنا من الغرب أو جاءتنا من الشرق، من أي جهة جاءت هي مجرد أهواء، لأن الحياد غير متيسر لبني آدم، فلذلك كان المشَرِّع خارج دائرة الآدميين؛ هو الله جل جلاله، لا مصلحة له عند أحد، {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. الله تعالى ليس بحاجة إلينا، والإسلام ليس بحاجة إلينا، نحن الذين هم بحاجة إلى الإسلام، ونحن الذين هم بحاجة إلى الله جل جلاله، فلذلك هدى الله تعالى هو الهدى بالحصر لا سواه، يجب أن تستقر هذه الحقيقة استقراراً تاماً على المستوى الفردي، على مستوى الأسرة، على مستوى الحياة الاجتماعية، على مستوى الدولة، على مستوى الأمة، هدى الله هو الهدى لا هدى سواه. إنه ضياع للوقت أن نأتي بهدى من كندا، أو بهدى من فرنسا، أو بهدى من إيطاليا، أو بهدى من الهند، أو من أي جهة كانت، إنما الهدى هدى الله سبحانه وتعالى، فمتى اتّبعناه سعِدنا، سَعِدنا وسَلِمنا، ومتى أعرضنا شقينا وضلِلْنا، فنسأل الله حسن الخاتمة. فلذلك لا سلام إلا بالإسلام {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}، قاعدة كلية مُحكَمة لا تقبل نقداً ولا تأويلا، ولا سلام ولا أمان إلا بالتقوى {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} هنا وهناك، وخصوصا هناك، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، من هم؟ {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، {وكانوا يتقون}، إذا لم تكن تقوى فدعوى الإيمان مجرد دعوى، تدعي بأنك مؤمن ولا نرى تقواك! لا يمكن! تكذب، وتكذب على من؟ على الله جل جلاله الذي خلقك فَسَوَّاكَ فَعَدلَكَ، ويعلم كل شيء، {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور}، {لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الارْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}، ليس الإيمان إلا بالتقوى، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، الرحمة هنا تشمَل البرّ والفاجر، تشمل المؤمن والكافر في هذه الدنيا، ولكن هناك -يوم القيامة- لا يتمتع بها إلا المتقون، {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، فمن شاء أن تُكتَب له الرحمة يوم القيامة، وهي تساوي تسعة وتسعين رحمة مثل هذه الرحمة الموجودة في الكون كلّه، إن الله قسم رحمته مائة قسمة وأنزل منها قسمة واحدة إلى هذه الدنيا، والباقي كله تركه ليوم القيامة، للآخرة، للجنة، رحمته هناك تسعة وتسعين مكتوبة ومرصودة وموقوفة، فقط، على الذين يتقون، ولا تقوى إلا بعلم الله جل جلاله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، والعلم بالله لا يؤخذ من أي مكان، وإنما يؤخذ من كتاب الله فهو العلم كما تقدم، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تعلِّمُونَ الْكِتَابَ}، كتاب الله، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، كتاب الله، فالربانية في المؤمنين لا تتحقق بغير العلم بكتاب الله ودراسة كتاب الله.
أ.د. الشاهد البوشيخي
————-
(ü) من محاضرة ألقيت بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أعدتها للنشر: “المحجة”.