الكاتب الصحفي الروسي “سيرجي جنات” يحكي رحلته إلى الإسلام


سيرجي جنات ماركوس، أحد الوجوه المعروفة في الساحة الروسية عامة، والإسلامية خاصة، صحفي يكتب في العديد من الصحف والمجلات، يهتم بالفن والثقافة ويسعى أن يكون لهما دورهما الإيجابي في المجتمع، يشارك في العديد من النشاطات الثقافية، وله نشاط في العديد من الجمعيات. يعتقد سيرجي، أن للمسلم من أصل روسي دوراً كبيراً في إيصال الفكرة عن الدين الإسلامي، لقرب أبناء القومية الروسية منه، منحدر من أسرة ارتبط تاريخها بالجيش السوفييتي” حيث شارك والده في الحرب الوطنية ضد الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي. < في البداية” هلا أطلعت قراءنا الكرام على رحلتك للبحث عن الإسلام؟ >> الرحلة بدأت منذ الصغر، حيث آمنت بالإله العظيم، دون أن أعطيه تسمية معينة، التعليم الإلحادي لم يكن حاجزاً أمام فطرتي لأتعرف عليه، لكن مع الوقت كان لا بد من تحديد الوجهة، فتعرفت من خلال معارفي على الأب “ألكسندرمين” من الكنيسة الأرثوذكسية، وبدأت رحلتي مع المسيحية، لكن نشاطي الديني حينها غَيْرُ قانوني فتم إيقافي، والحكم عليَّ عام 1982م بثلاث سنوات سجناً، قضيتها في جمهورية توفا، الواقعة جنوب سيبيريا، على الحدود مع منغوليا والصين. بعدها عدت إلى موسكو عام 1985م، يوم أن بدأت تغيرات جذرية تعلقت بإعلان “جورباتشوف” عن “البيريسترويكا”، وإعطاء حرية النشاط للمجموعات الدينية. مرت الأيام ودعيت في عام 1990م للمشاركة في راديو روسيا للإشراف على برنامج ديني. كان همي ليس التغيرات السياسية التي حصلت آنذاك ولكن مدى الحرية التي أتمتع بها داخل برنامجي والحديث دون قيود عما اعتقده. ومع هذه التحولات الكبيرة في البلاد، وانتهاء الحقبة الشيوعية، تحولت تلك الإذاعة الصغيرة إلى إذاعة حكومية، يصل بثها إلى غالبية المناطق الروسية، فطُلِبَ مني التوسع في البرنامج، ووضع هيكلية كاملة للبرامج الدينية في الإذاعة، وهو ما جعلنا نفكر في تقديم برنامج ديني يشمل الأديان الأخرى المنتشرة في روسيا، وكنت مؤسساً لأول برنامج ديني في روسيا كلها في إذاعة حكومية. كنت مقدماً لبرنامج المسيحية، وبدأت البحث عن مقدمين لبرامج حول الكاثوليكية والبروتستانتية والبوذية. ولكن المشكلة الرئيسة كانت مع البرنامج المتعلق بالإسلام. المشكلة حينها تمثلت في عدم وجود متخصصين يجمعون بين المهنية الإعلامية والمعرفة بالدين الإسلامي. ومع ذلك استطعنا بعد مرور ست سنوات على بداية البث، إيجاد فريق عمل بقيادة ليلى حسينوفا، يشرف على بث متواصل لبرنامج حول الإسلام والمسلمين في روسيا. وهكذا وللمرة الأولى في تاريخ روسيا يبث برنامج كل يوم جمعة عن الإسلام أسميناه “صوت الإسلام”. وقد كان هذا البرنامج فرصة حقيقية للتواصل مع شخصيات مهمة في الساحة الإسلامية، من فلاسفة ورجال فكر ومفتين، وبداية التعرف عن قرب على ممثلي أحد أكبر الأديان في روسيا. < هل يمكن أن نقول: إن القدر وحده هو الذي ساقك نحو هذا الطريق؟ >> هذا ما حصل بالفعل، فقد كنت في ذلك الحين مقدماًً لبرنامج عن المسيحية، ورئيس تحرير البرامج الدينية، وكنت مع تحضيري لبرنامجي أستمع لما يقال عن الديانات الأخرى، وتحديداً عن الإسلام” حيث بدأت أستشعر تأثير ذلك المباشر عليّ، ثم حصل أمر قلب الموازين كلها، حيث انسحبت ليلى حسينوفا من البرنامج على أساس أنها تعبت من عملها لست سنوات متواصلة، وتوقفت فقرة البث عن الإسلام. واتصل رئيس الوزراء “فيكتور تشيرنميردين” بمدير الإذاعة سيرجي دافيدوف مطالباً إياه بضرورة عودة الفقرة الإسلامية، على اعتبار أن ذلك له تأثير سلبي على سياسة روسيا الداخلية، التي يقطن فيها قرابة العشرين مليونا من المسلمين. وطُلب مني أن أقوم بتقديم البرنامج الإسلامي مع أخذ اسم مستعار، وتغيير طفيف للصوت. ومع اعتراضي عن فعل ذلك نظراً لأنني كنت مشهوراً لدى الجماهير المسيحية الأرثوذكسية. إلا أن رحلتي مع الدين الإسلامي بدأت بالفعل وانتقلت إلى البرنامج تحت اسم أندري حسانوف. اختيار الاسم لم يكن اعتباطياًً، فكان مهماًً بالنسبة لي أن أكون جسراًً بين الإسلام من ناحية والثقافة الروسية من ناحية أخرى. كل ذلك تطلب مني الغوص أكثر في الثقافة الإسلامية، والتعرف على الموسيقى العربية والإسلامية لاستعمالها في البرنامج، وتعرفت أكثر فأكثر على الشخصيات الإسلامية، وهكذا أصبحت شبه متخصص في الثقافة الإسلامية. لكن الصوت كما تعلمون لا يمكن إخفاؤه عن الجميع، فقد بادرني عدد من أصدقائي بقولهم: إننا نعتقد أنك قد اعتنقت الإسلام، فأنكرت ذلك تماماً، لأنه لم يكن يدور في وجداني ذلك الأمر وقتها، وشرحت لهم بأنني أقوم بواجبي كأي شخص متخصص في التاريخ. لكن التغيير حصل بالفعل عام 2000م، حيث شعرت في إحدى الليالي بصداع شديد جراء تدفق الأفكار على عقلي، والسؤال المتكرر: هل بالفعل سأعتنق الإسلام؟ < هل هذا يعني أن اعتناقك للإسلام لم يكن سببه البحث عن الحقيقة؟ >> أنا ذكرت سابقاً أن تجهيزي لمادة البرنامج جعلني أتعمق نوعاً ما في الدين، ووجدت الكثير من الإجابات عن أسئلة كثيرة كانت تؤرقني في المسيحية، مثل العلاقة بين الرب والعبد، وفكرة الثالوث، وأسئلة تتعلق بالمسيح \، فمع حبي له لكنني لم أكن أفهم لماذا يعتبره الناس إلهاً؟! إن مسألة التوحيد والعلاقة بعيسى \ أرقتني، كما تؤرق الكثير من المسيحيين. كل هذه الأمور وجدتها سهلة وغير معقدة في الدين الإسلامي، ووجدت الإجابة واضحة عنها، ولا تعوق أي نوع من العبادات. الأمر الآخر الذي أحببته جداً في الإسلام هي طريقة العبادة وخاصة السجود، الذي كنت اعتبره قمة العبودية لله، حين تنزل على ركبتيك لتضع جبهتك أمام الله على الأرض وتسلم له نفسك بين يديه فهذا شيء رائع. أعود لأقول: مع هذه الصراعات الوجدانية الداخلية، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هل بالفعل أنني سأعتنق الإسلام؟ نمت.. وإذا بهاتف يناديني في المنام يقول لي: غلط أن تضع السؤال بهذا النحو، فأنت لا تستطيع أن تعتنق الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي اعتنقك وقَبِلَك. على هذا أفقت، وقلت: إذا أنا مسلم، وفهمت أن الله هو الوحيد الذي يشرح الصدر للإسلام. < وهل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ >> لا.. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد كنت فزعاً من النتائج على الجانب الاجتماعي، فأنا شخصية معروفة على النطاق المسيحي الأرثوذكسي، ولي علاقات مباشرة ببطريرك عموم روسيا ألكسي الثاني، بل بدأت البرنامج بمباركة شخصية منه. هكذا تزاحمت عليّ أسئلة كثيرة، فحسمت في قرارة نفسي الأمر بأن الجانب الروحي هو الأولَى، أما القضايا الأخرى فأتركها للزمن وبيد الخالق. فقررت التوجه لأخذ النصيحة من “علي بالوسين” الذي اعتنق الإسلام قبلي، وكان رجل دين معروفاً، وقسيساً داخل الكنيسة الأرثوذكسية، وفيلسوفاً وحالته تشبه حالتي، لكنه أعلن اعتناقه للإسلام لأمور خاصة به! نصحني بالوسين ألا أشهر إسلامي، وأن أتريث إلى أن يحين الوقت المناسب. بدأت حينها في القيام بواجباتي الدينية، وكان التحول سلساً بالرغم من أن غالبية أصدقائي المقربين تركوني. لكن السفر إلى الحج الذي جاء بغير ترتيب مني، ترك أثره العميق على نفسيتي، حيث التقيت بالعديد من الشخصيات، ومن بينهم من اعتنق الإسلام، وكان ذلك توفيقاً من الله، ورسالة منه أنني لست وحدي في هذا الطريق. < لكن.. كيف وأنت الشاعر والكاتب والباحث المتعمق بجذور الثقافة الروسية تحولت إلى الانتماء لثقافة أخرى؟ >> في الحقيقة كان من الصعب عليّ اعتناق الإسلام من الناحية الاجتماعية والشخصية، فأنا روسي الأصل، وشاعر، وأحب اللغة الروسية واكتب بها، وأحب وطني، فكان من الصعب عليّ نفسياً أن أتخلى عن ذلك في لحظة، لأجد نفسي متعلقاً بثقافة أخرى غير التي عرفتها وعشقتها. من ناحية أخرى، لست أنا من اختار الإسلام إنما هو الذي اختارني، ففهمت من هذا أنني مطالب بالموازنة بين هذا وذاك. فأنا مسلم، وفي نفس الوقت روسي، بقوميتي وبطبعي وبثقافتي، واقتنعت أنني غير مطالب بالتخلي عن ثقافتي التي نشأت فيها، فكما كان هناك صحابة من العرب، كان هناك صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي، وكل واحد منهم جاء من ثقافة مختلفة. مطلوب من المسلم أن يتعمق في دينه ليتمكن من نشر ذلك بين أبناء قومه باللغة التي يفهمونها.
————
(ü)حوار أجراه د. أحمد عبد الله لـمجلة “المجتمع” عدد 2067 ربيع الأول 1435

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>