تقدم الحديث في العدد السابق عن بعض الملامح من سيرة الصحابي الجليل زيد بن ثابت ، ويتواصل الحديث عن هذا العملاق في هذا العدد للوقوف على ملامح أخرى من شخصيته جعلته يخلد خلود الدهر، ويتسلق مراتب سامية في سماء المجد، وهو الرجل الذي كان أنموذج العصامية والتحدي، وأنموذج العالم الموسوعي المتعدد الفنون والاختصاصات، وأنموذج الشاب الذي تحمل مسؤوليات جساما على عاتقه، شاب تحمل ما تنوء بحمله الجبال، فكان في مستوى ما تحمله من التكاليف الثقال.
وفيما يلي بحول الله بيان -قدر الإمكان- لقصة جمعه وكتبه القرآن الكريم، وما في ذلك من تكاليف شاقة، وللصفات التي أهلته من بين سائر الأصحاب رضي الله عنهم ليتولى جمعه بمفرده في عهد الصديق ، وليكون مرة أخرى أحد أعضاء اللجنة الرباعية في الجمع النهائي في عهد عثمان .
إن من أول ما يمكن أن يقف الباحث عنده وهو بصدد النبش في سيرة سيدنا زيد لإدراك نقط قوته، وأسرار تفوقه؛ هو قول الصديق له: “إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ” (صحيح البخاري، رقم: 4679).
فهنا يكمن السر، رجل شاب عاقل، لا يتهمه الصديق -ومعه الفاروق عمر – في أخلاقه، فهذا سر استئثاره بهذه الميزة، ونيله هذه الحظوة التي لم تتوفر لغيره، صفات خِلْقية من نشاط الشباب وكمال الرجولة، وصفات خُلُقية من عدم التهمة، وهذا شرط يقرره الصديق لتولي المهمات العظام، وهو ما قرره الحق سبحانه وتعالى في كتابه حكاية عن نبيه موسى : إن خير من استأجرت القوي الأمين (القصص: 26). وقال ابن بطال رحمه الله: “قال المهلب: هذا يدل على أن العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية في عظيم الأمور؛ لأنه لم يصف زيدا بأكثر من العقل، وجعله سببا لائتمانه، ورفع التهمة عنه، لقوله: إنك شاب عاقل ولا نتهمك” (شرح صحيح البخاري لابن بطال 8/264). وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: “ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك، كونه شابا فيكون أنشط لما يطلب، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي لرسول الله فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة” (فتح الباري 9/13).
وبيانا لظروف تكليفه بجمع القرآن الكريم ورد فعله إزاء التكليف؛ يحسن إيراد حديث البخاري رحمه الله تعالى، فقد روى “أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، قَالَ: «أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ القَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ اليَمَامَةِ بِقُرَّاءِ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ بِالقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ القُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: «كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟» قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، «فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ»، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، «فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ»، قُلْتُ: «كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟»، قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، “فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ القُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ العُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ (التوبة: 128) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ ” (رقم الحديث: 4986).
وفي هذا الحديث مجموعة من الدلالات والعبر، مما لا يتسع المجال للوقوف مع كل تفاصيلها وجزئياتها، وما يستحسن لفت الأنظار إليه هو قوله : “فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن”. فكيف استثقل هذا التكليف العظيم، وتردد في تحمل هذا الأمر الجسيم، وإن دل على شيء فإنما يدل على الورع الكبير عن إقحام نفسه فيما لا يضمن لها أن تقوم به على وجهه الأكمل، وأن يبرئها من تبعاته؛ لكنه مع هذا التردد والإحجام؛ فإنه قام فيه أحسن قيام، وكان عند حسن ظن العمرين به، وقام بالمطلوب.
وفيما يخص تكليفه بالجمع النهائي للقرآن في عهد عثمان يروي البخاري عن “أَنَس بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ، وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ، قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: «أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ، ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ»، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ» فَفَعَلُوا…” (الحديث رقم: 4987).
فرضي الله تعالى عن زيد وإخوانه، وجعلنا على نهجهم إلى يوم لقائه. والحمد لله رب العالمين.
ذ. عبد الصمد احسيسن