أمهات المؤمنين في خدمة الدعوة الإسلامية أم سلمة رضي الله عنها نموذجا


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
إنّ مقصدنا من عرض سيرة أمهات المؤمنين هو الأخذ بالقدوة في الدعوة الى الله، والقدوة هي أفضل الوسائل جميعا وأقربها إلى النجاح، وإن مبادئ الإسلام تحظى بالقبول إذا تمثلها الداعي قبل المدعوّين. وهكذا كان رسول الله .
والقدوة أسلوب عمليٌّ في الدعوة بل هو الدعوة الصّامتة التي تفتح لها القلوب والعقول، وتأثيرها في النفس أشدّ من تأثير الخطب والمواعِظ.
وهنا سنتطرق إلى علم من أعلام الأمة الإسلامية أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها من خلال المحاور الآتية:
المحور الأول: أم سلمة ذات الهجرتين
أ – العزّة والجمال.
ب – المحنة الأولى: الهجرة إلى الحبشة.
ج – المحنة الكبرى: الهجرة الى المدينة.
المحور الثانِي: أم سلمة والعهد المدني
أ – أم سلمة الصابرة المحتسبة.
ب – أم سلمة في بيت النبوّة.
المحور الثالث: أم سلمة وصفات المرأة الدّاعية
أ – رجاحة العقل.
ب – أم سلمة الفقيهة المحدّثة.
ج – أم سلمة بين الحياء والشِدّة.
د – أم سلمة والحياة السياسية.
خاتمة: صفات الدّاعية المسلمة من خلال ام المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها.
المحور الأول: أم سلمة ذات الهجرتين
أ – أم سلمة العزة والجمال:
هي أم المؤمنين، هند بنت أبي أمية حذيفة بن المغيرة المخزومية القرشية المشهورة بكنيتها أم سلمة، إنها ضرة جديدة عزيزة عريقة المنبت ذات جمال وإباء وفطنة تزفها إلى بيت النبي أمجاد طوال، فوالدها سيّد من سادات قريشٍ المعدودين، وكان بين الناس مشهوراً بالكرم وشدّة السخاء حتى لُقّب بـ: “زادُ الراكب”، إذ كان يمنع من يرافقه في سفره أن يتزوّد لرحلته ويكفيه مؤونة ذلك. وهي بنت عم خالد بن الوليد ، وبنت عم أبي جهل بن هشام.
ب – المحنة الأولى: الهجرة إلى الحبشة
كانت أم سلمة رضي الله عنها من الجيل الأوّل الذي أسلم مبكّرا في مكة، ونالت في ذلك ما ناله المؤمنون من صنوف الأذى وألوان العذاب، حتى أذن الله للمؤمنين بالهجرة الأولى إلى الحبشة، لتنطلق هي وزوجها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مهاجريْن في سبيل الله، فارّين بدينهما من أذى قريشٍ واضطهادها، محتمين بحمى النجاشي الملك العادل.
ذكر ابن هشام في السيرة النبوية عن أم سلمة قولها: «لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار -النجاشي- أمّنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي في رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم. فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية. ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص. وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه.
ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده… بخير دار عند خير جار… فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي وقالا لكل بطريق منهم: «إنه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم. فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى بهم عيناً (2) وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت: فقالت بطارقته من حوله:
صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم. وإن كانوا غير ذلك، منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني…” السيرة النبوية لابن هشام -ج -1 ص 358 – 359.
ج – المحنة الكبرى: الهجرة إلى المدينة
ولما أرادت تلك الأسرة أن تهاجر إلى المدينة، واجهت الكثير من المصاعب والابتلاءات، فقد تسامع قومها بنو المغيرة بتأهّبها وزوجها للرحيل فقالوا لزوجها: “هذه نفسك غلبْتنا عليها، فعلام نتركك تأخذ أم سلمة وتسافر بها؟”، فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوها منه، فغضب لذلك بنو عبد الأسد قوم زوجها وقالوا: “والله لا نترك إبننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا”، فتجاذبوا الولد بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وظلّت أم سلمة عند بني المغيرة وانطلق الزوج مهاجراً لوحده.
وهكذا تفرّق شمل الأسرة، وابتليت بلاءً عظيماً، فالزوج هاجر إلى المدينة، والزوجة عند أهلها في مكة، والولد مع أهل أبيه، مما كان له عظيم الأثر على نفس أم سلمة رضي الله عنها، فكانت تخرج كل يوم إلى بطحاء مكة تبكي، وتتألم لما أصابها، وظلّت على حالها قرابة سنة، حتى مرّ بها رجل من قومها وهي تبكي، فرحمها ورقّ لحالها، فانطلق إلى قومه قائلاً لهم: “ألا تطلقون سبيل هذه المسكينة؟ فإنكم فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها”، فأجابوه لذلك وقالوا لها: “ألحقي بزوجك إن شئت”.
ولما سمع بنو عبد الأسد ذلك ردّوا عليها ولدها، فانطلقت من فورها إلى مكة، تقول أم سلمة رضي الله عنها واصفةً رحلتها: “فجهّزت راحلتي، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، وما معي أحد من خلق الله، حتى إذا كنت بالتنعيم –موضع من مكة- لقيت عثمان بن طلحة -وكان يومئذٍ مشركاً-، فقال لي: إلى أين؟، قلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد؟، فقلت: لا والله، ما معي إلا الله وابني هذا، فأخذته النخوة فقال: والله لا أتركك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أكرم منه، كان إذا نزل المنزل أناخ بي ثم تنحّى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فجهّزه، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاد حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة, فلما نظر إلى قرية بني عمر بن عوف بقباء -وكان بها منزل أبي سلمة في مهاجره- قال: إن زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت أم سلمة أول ظعينة دخلت المدينة” طبقات ابن سعد 8/87.

ذة. عفيفة غزال

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>