الشباب والإصلاح


الخطبة الأولى:
إن الأمة في أشد الحاجة إلى إحداث إصلاح في كثير من جوانب الحياة والذي أوجب هذا الإصلاح واقتضى ذلك التجديد هو تغيُّر كثير من أساليب الحياة تغيُّرا كبيرا؛ فطريقة التفكير تغيرت، ووجوه المعاملات وإنشاء العلاقات تبدلت، وأصبح كثير ممن ألفوا الماضي يشعرون بضيق وغربة وهم بين ذويهم وعشيرتهم يشتكون من كل شيء جديد ويذمون كل جديد وينسبون الخير كله إلى الماضي، والشر كله إلى الحاضر والمستقبل، وهؤلاء ليسوا مخطئين في كل شيء كما أنهم ليسوا على صواب في كل ما يقولون، فهناك أمور ماضية يجب التمسك بها كما تمسّك بها رسول الله قال تعالى والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (الأعراف: 170)، وهناك أشياء يجب تجديدها، لكن من طرف أهلها وهم العلماء العاملون بعلمهم، وهناك أخرى يجب طرحها وتركها، وقد أخبر أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، عن أبي هريرة عنه أن رَسُولِ اللَّهِ قال : «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»
(رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” رقم/599)
وقد فسر أهل العلم هذا الحديث التفسير الصحيح، فقالوا : إن كلمة ( مَن ) ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق، فيحتمل أن يكون المجدد فردا، ويحتمل أن يكون طائفة من الناس، وبناء عليه فلا يلزم تتبع أسماء أفراد من العلماء في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المجدِّد فيهم، فقد يكون كلهم أسهموا في تجديد هذا الدين وبعثه في الأمة .
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله : “الذي أعتقده من الحديث أن لفظ ( مَن يُجَدِّدُ ) للجمع لا للمفرد ” انتهى من ” تاريخ الإسلام ” (23/180) “معنى قوله : «يجدد لها دينها» أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينًا – بعث إليهم علماء أو عالمًا بصيرًا بالإسلام، وداعيةً رشيدًا، يبصّر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع، ويحذرهم محدثات الأمور، ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله ، فسمى ذلك : تجديدًا بالنسبة للأمة، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله المبينة له، قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر 9)
فعلى يد من نرتجي حصول هذا التجديد؟ أعلى يد الشيوخ الهرمين الذين سئموا الحاضر وذموه وتعلقت قلوبهم فقط بالماضي؟ أم على يد الأطفال والغلمان والفتيان الذين لا هم لهم إلا إشباع حاجاتهم المادية وتلبية رغباتهم النفسية، وهم لم يتصفوا بعد بعلم ولا حلم، ولا رأي ولا تجربة، لم يطّلعوا على ماضي أمتهم ولم يتطلّعوا إلى غدهم ومستقبلهم .
إن ما نلاحظه في عصرنا الحاضر وما يتعرض إليه الشباب المسلم من حرب شعواء ليست حربًا ميدانية، بل هي حرب من أشد الحروب الفكرية والعقائدية؛ بهدف إخراج الشاب المسلم عن قيمه ومبادئه وأخلاقه تحت اسم التطور و”الموضة”؛ مما جعل الشباب يهتمون بالمظهر لا بالمخبر و”بالموضات والإكسسوارات” لا بالحياء والإيمانيات؛ مما ينذر بخطر كبير على الإيمان والأخلاق والعقيدة والعفة والحياء والفضيلة.
معاشر المسلمين على العموم ومعاشر الشباب على الخصوص إن الذين ينتظر ويرجى منهم إحداث التجديد في حياة الأمة هم الشباب، الشباب الذين وعوا الماضي وميزوا حسناته من سيئاته وعرفوا حاله وواقعه معرفة واقعية، لا رؤية خيالية، وأدركوا العلاقات والأسباب التي أدت إلى هذه الأوضاع الفاسدة ،الشباب الذين عزموا على الإصلاح والذين حملوا هم الأمة أمانة ومسؤولية في أعناقهم، وشرعوا في إعداد العدة المناسبة لليوم والغد ولم ييئسوا ولم يعيوا ولم يغفلوا عن حضور الله تعالى في قلوبهم، هؤلاء هم الذين يرجى منهم التصحيح لما أخطأ فيه الناس، وهؤلاء وحدهم من يرجي فيهم ومنهم الإصلاح، ويفترض في هذا الإصلاح أن يكون من سيء إلى حسن ومن حسن إلى أحسن، ولا يمكن أن يوجد التغيير إلا بتغيير ما في النفس قال : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد 12).
وقد يكون من الشيوخ من يتصف بصفات الشباب في نفسه وعقله وروحه رغم هرم بدنه وتقدم سنه، وقد وصف القرآن الكريم نفسية الشباب بأنها مندفعة إلى الفعل والتنفيذ بمجرد ما تطمئن إلى سلامة الفكرة ووضوح الهدف وقوة الدليل، قال  في وصف فتية أهل الكهف : إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ( الكهف 13-14) أخبر الله تعالى عن هؤلاء الفتية أنهم اختاروا الإيمان بالله وحده وهي نعمة منه سبحانه وتعالى فلما اختاروا الإيمان زادهم نعمة أخرى هي نعمة الحركة والسير بهذا الإيمان، لا الإيمان مع الجمود وليس من طبيعة الإيمان الجمود، فقال تعالى : وزدناهم هدى ولما عزموا على الشروع والمبادرة وكانت الأوضاع في زمانهم فاسدة رهيبة ربط الله على قلوبهم وثبتهم حتى لا يخافوا من بطش الظالم فيرتدوا، ولا ييئسوا بسبب استيلائه وسيطرته، ولا يذوبوا بالإغراء والترغيب، وقدم في الآية قيامهم على قولهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض، ليبرهن على صحة فهمهم لعقيدة التوحيد والثبات عليها، ثم ذكر تسفيههم لقومهم، لأن قومهم ما كانوا يستطيعوا أن يثبتوا صواب عبادتهم، واعتبروهم في أعظم مراتب الظلم والجهل.
وضرب لنا القرآن الكريم مثلا آخر في الفتية والشباب، كالذي تحدى الطاغوت وحطم الأصنام وسخر بها وبمن يعبدها، وقدم نفسه إلى نار الدنيا لينقذ نفسه وقومه من نار الله في الدنيا والآخرة هو سيدنا إبراهيم الخليل ، الذي عبر عنه القرآن الكريم بأنه فتى شاب، قال تعالى: قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (الأنبياء 59-60).
وكذلك الذي تحدى السلطان والمال والجمال والوعيد والإنذار وفضل السجن على معصية الرحمن، هو سيدنا يوسف الذي قال فيه القرآن الكريم على لسانه رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ( يوسف 33).
وكذلك مصعب بن عمير تخلى عن النعيم الذي يغرق في الشرك والوثنية ورضي بشظف العيش واطمأن بحلاوة الإيمان وتزين بزينة الإسلام.
وهكذا في كل زمان ومكان نجد شبابا كالنجوم اللوامع في الآفاق يؤمنون ويتذوقون الإيمان ويقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قدر المستطاع وتجديد الحياة بتصحيح ما انحرف الناس فيه وإليه، وإصلاح ما فسد من أحوالهم وإنتاج ثمار يانعة لتهصرها الأمة بدون مشقة ولا عناء، ولتعيش عيشة السعداء بدلا من عيشة الأشقياء، شبابا لا يتعلقون بمنصب ولا كرسي، ولا يطربون لثناء ولا مدح، ويعلقون أفئدتهم بالله جل وعلا رب العباد، ويتمسكون بحبل الله المتين الذي من حاد عنه هلك ويتوكلون على رب العزة والجلال
و قد قال الشاعر :
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا تكون له في الأرض آثار
فالقوة الأولى في المجتمع المسلم وفي أي مجتمع،هم شبابها الصالح الذين عليهم الاعتماد في نهضة الأمم، بعزيمتهم، وأخلاقهم، وتضحيتهم بالغالي والنفيس لتحقيق الازدهار والريادة، وهم رمانة ميزان الصلاح والهدى، على أكتافهم تُبنى الدول، وبهم تزدهر الحضارات، وبهم يُدحض الباطل، ويعلو الحق، وتُقتلع شوكة الفساد، وتُغرس نبتة الخير، وهم صانعو الأفكار البانية، ومشيدو معالم العمران العالية، تتضاءل إلى جانب همتهم كلُّ همة وتنكشف بهم كل غمة ..
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين وانتبهوا إلى ما يستهدف شبابنا ونحن غافلون، فمن رعى غنمًا في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد”.
أسأل الله جل وعلا أن يصلح شباب المسلمين، وأن يهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء، إنه سميع الدعاء…
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة المسلمون، إن روح الشباب تتميز بصفات متنوعة بعضها جميل محمود، ينبغي تشجيعه وصيانته، وبعضها قبيح مذموم، يجب ترشيده وتوجيهه برفق وحكمة؛
فمن الصفات المحمودة في الشباب: الفتوة وقوة التحمل وروح المغامرة والاقتحام وشدة التأثر والانفعال والرغبة الجامحة في التجديد والتغييرو الإصلاح وحب البحث والاكتشاف والإبداع وتحقيق البطولات.
ومن الصفات المذمومة في الشباب: سرعة التغيُّر في المواقف والآراء واستعجال النتائج وقلة التجربة وسطحية التقدير والقصور في تفسير العلاقات والأسباب وغلبة التفاؤل أو التشاؤم على المستقبل
والشباب الصالح هو الذي يتأثر كثيرا بالمواقف البطولية الإيمانية، فهو عندما يقرأ قول الله تعالى على لسان يوسف اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (يوسف: 55) تشرئب نفسه لأن يكون قويا أمينا ويزداد عزمه للأخذ بأسباب ذلك، وعندما يقرأ قول الله تعالى في وصف سيدنا موسى على لسان المرأة: إن خير من استأجرت القوي الأمين يحب ويشتاق أن تتمثل فيه مثل هذه القوة وتلك الأمانة ليكون وسيلة خير وسببا فيه .
عباد الله : ليس عيبًا أن يبحث الشباب عن التجديد، ولكن في إطار التعاليم الإسلامية والأخلاق والسلوك الحسن، ولكن العيب – أيها الإخوة- أن يحدث تقليدًا وتبعية مختلفة تمامًا عن تعاليم أهل الإسلام بحيث تصبح العادات الغربية عادة وتقليدا لشبابنا وفتياتنا ومؤشرًا خطيرًا يعود بالضرر على الأسرة والفرد والمجتمع، روي عن الحبيب أنه قال: “لا تكونوا إمعة؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي. الحديث يصح وقفه على عبد الله بن مسعود).
ثم إن الإسلام -أيها الإخوة الكرام- يدعو إلى أن يكون للمسلم شخصية متميزة لا أن يكون تابعًا للغير، بل يتخير من الغير ما ينفعه ولا يضره، والأصل في المسلم أن يكون متّبَعا لا متّبِعا، متّبَعا بعلمه وأخلاقه وتفكيره وصنعه وإبداعه واكتشافه وإنتاجه .
فيا أيها الشباب، تمسّكوا بدينكم، فوالله لا عز لكم إلا بالإسلام، ولا كرامة لكم إلا بأخلاق وتعاليم أهل الإسلام.
واللهَ أسأل أن يصلح أحوال الشباب، وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق والصواب، إنه خير مسؤول وأكرم مأمول في الجواب.

ذ. نجيب الهداجي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>