إن اللغة العربية وسائر اللغات كلها تؤدي وظيفة التخاطب والتواصل، بل حتى لغة الطيور والحشرات تؤدي هذه الوظيفة، اللغة دائما يراد منها التفاهم والتواصل، ولكن حينما تكون هناك لغة خُدمت منذ خمسة عشر قرنا – أي منذ نزول القرآن ومن قبل ذلك – خدمات جليلة، خُدمت في نحوها ودُرست في صرفها، ودُرست في بلاغتها واكتشف عروضها، واكتشفت المجازات فيها، وألفت في حروفها، كيف ترون أن لغة من هذا القبيل يمكن أن تُسوّى بها لغة أخرى ؟
إن الكتب التي وضعت في علوم العربية كثيرة جدا، لا يعرفها من يخوض اليوم في الحديث عن العربية مدعيا أنها «ليست أفضل اللغات حتى وإن كان القرآن الكريم قد نزل بها»… فكتب معاني الحروف مثلا عديدة جدا، ككتاب ابن هشام في الحروف، وكتاب المرادي في معاني الحروف «الجنى الداني في حروف المعاني»، وكتاب الرماني في معاني الحروف؛ فالحروف العربية الواصلة درست وفُرع عليها وأسس عليها فقه، وأسست عليها عقائد بحيث أن الخلاف بين المعتزلة والسنة في حرف مثلا، عند قوله تعالى {قَالَ لَنْ تَرَانِي} (سورة الأعراف:148) فحرف «لن» يقول فيه المعتزلة: هي للنفي ولتأبيد النفي، ويقول فيه أهل السنة: هي للنفي ولكن ليست فيها دلالة التأبيد، ونشأ فقه كبير في الإسلام بين قوله تعالى {أرجلكم} بقراءتي كسر وفتح اللام ، وكل قراءة نشأ عليه فقه خاص بها) .
فهؤلاء الذين تحدثوا عن الحروف في الحقيقة كتبوا شيئا لا نحلم الآن أن نفهمه أو ندركه ، فهناك كتاب من الكتب اشتغل به صاحبه رحمه الله أربعين سنة وهو كتاب «دراسات لأسلوب القرآن الكريم» لعبد الخالق عضيمة ، وهو عالم أصم اعتكف على القرآن فأخرج نحو ثلاثة عشر كتابا من أحسن ما كتب فيه، بحيث لم يند ولم يشرد عنه حرف واحد من القرآن الكريم إلا وذكر أحكامه وما يتعلق به، ووضع أجزاء في الحروف وأجزاء في النحو وأجزاء في الصرف، في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان: «دراسات لأسلوب القرآن الكريم»، فلو كانت هناك لغة حظيت فقط بهذا الجهد الوحيد لكان شيئا كبيرا. أما الجهود الأخرى التي بذلت في خدمة اللغة العربية نحوها وصرفها وتركيبها وبيانها فلا يستطيع حصره إنسان .
إن جزءا من اللغة العربية هو كلام إلهي من كلام الله سبحانه، وتتجلى بشكل واضح في كتابه العزيز، وإن لغة هذه شأنها لا بد أن تكون أفضل لغة على الإطلاق. وأما قول من يقول إن ارتباطها بالوحي لا يجعل لها أي خصوصية أو أي فرادة، وأنها تستوي مع جميع اللغات، فهو قول يدل على خطأ كبير .
إن الهنود اشتغلوا قديما بعلم الطب وبرعوا فيه فسلمنا لهم في ذلك، واليونان برعوا في الفلسفة وسلمنا لهم في ذلك، والصينيون اشتغلوا بصناعة الخزف والحرير وبرعوا فيه فسلمنا لهم في ذلك، والعرب كذلك لم يكن لهم علم أكبر من علم اللغة فاشتغلوا بالعربية وبرعوا في ذلك، فلابد أن يُسلم لها في ذلك. فليس للأمم الأخرى ما يعرف بالمذهبات لأنه لم تكن تكتب الشعر بالذهب وتضعه على جدار الكعبة، ولم يكن لشاعر من شعراء الأمم الأخرى هذا الاهتمام السنوي في سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز، إلى غير ذلك من الأشياء التي تدل على أن هذه اللغة فعلا حظيت بما لم تحظ به لغة أخرى، وبالتالي فميزتُها وخصوصيتها ودقتها لا يمكن حصرها بتاتا، أتحدث هنا حديثا عاما، ولو فصلنا القول فقط في كلمات العربية لطال الكلام… مثلا، هناك كلمات في اللغة العربية لا نظائر لها في أي لغة أخرى فلا يعبر عنها شيء، وتعبر عنها اللغة العربية فقط، مثال ذلك كلمة «أغبطك» فلا نظير لها في أي لغة كانت، ولا تستطيع أي لغة أن تعبر بدقة عن معنى الغبطة الذي ليس هو الحسد، لأن الغبطة هي أن تتمنى أن يكون لديك ما عند الغير ولكن من غير أن يزول ما عنده ، فهي غير الحسد وغير الغيرة تماما فلا نظير لها ، ولو بحث الإنسان في كلمات العربية لوجد من قبيل هذا الكثير كـ»التقوى» فلا مقابل لها بما تعنيه في اللغة العربية، هي ليست الخوف… ومثل ذلك «التقي» و»الأتقياء» و»الكسْب»، في قوله تعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)، فما الفرق بين «كَسبت» و»اكتسبت»، وما الذي يقابلهما في اللغات الأخرى. ولذلك فحتى الذين يترجمون معاني القرآن الكريم يقع لهم عسر كبير في ذلك، فيلاحظون أن اللغات الأخرى لا تعبر عن العبارات القرآنية ولا تستطيع ذلك، بسبب أن أهل اللغات الأخرى لم يهتموا بلغاتهم كما اهتم أهل العربية بلغتهم .
إن القول بأن «نزول القرآن بلسان عربي بليغ لا يعني أن العربية أفضل اللغات»، لا يقول به إنسان عاقل، فالناس اليوم أصبحت لهم موضة بأن يتقربوا إلى الناس بتحطيم اللغة العربية، فيقولون إن اللغة العربية كباقي اللغات الأخرى، وهذا خطأ كبير. صحيح أن اللغة العربية اليوم هي مهيضة الجناح ولكن لا أحد يشك في عبقريتها وقدرتها وشساعتها، وهذا الذي قال هذا القول لو تكلمتَ معه في أوزان العربية لوجد ما لا يعرفه ولا يقدر على حصره وفهمه، فالأوزان تعطي ما لا يعد من التراكيب التي لا يمكنك أن تتصورها، ولا أوزان في لغات الآخرين، فمثلا وزن «أفعل» فهي تدل على عشرة معاني ويمكنك أن تصوغ منها الكثير: فأفعل بمعنى نزل في المكان كـ «أنجد» أي نزل نجد، و»أتهم» أي نزل تهامة، وتسمى الهمزة همزة النزول، فيمكنك أن تخرج من هذا الوزن الكثير، ووزن «فعلل» كذلك، فاللغة العربية غنية ثرية. ولذلك ما قال أحد بأن اللغة العربية كباقي اللغات إلا رجل لا يعرف هذه اللغة، وحقه أن يسكت على كل حال.
أ.د. مصطفى بنحمزة
—————
* تفريغ الأستاذ امحمد رحماني.
والمقال في أصله جواب عن أحد الأسئلة التي طرحت على فضيلة الدكتور العلامة مصطفى بن حمزة في درس السبت بمسجد الأمة بوجدة حول مقال بعنوان:»نزول القرآن بلسان عربي فصيح لا يعني أن العربية أفضل اللغات».