شرح الأربعين الأدبية [35] في استنشاد الشعر


روى الإمام مسلم «عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: رَدفتُ رسولَ الله  يوما فقال: هل معك مِن شِعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه. فأنشدتُه بيتا، فقال: هيه. ثم أنشدتُه بيتا. فقال: هيه. حتى أنشدتُه مائة بيت»(1).

وقد وقعت زيادة في بعض الروايات، ففي رواية أخرى عند الإمام مسلم أن النبي قال بعد ذلك: «… فلقد كاد يسلم في شعره»(2)، وعند الإمام أحمد: «إن كاد ليسلم »(3)، وفي رواية أخرى عنده: «كاد أن يسلم»(4).
وحديث الباب من أحاديث استنشاد النبي الشعر، وسماعه إياه، وهو من الأحاديث الجامعة بين القول والعمل، وفيه ثلاثة أمور: استنشاد النبي شعر أمية بن أبي الصلت، وإنشاد الشريد إياه، وتعليق النبي .
أما الأمر الأول ففيه مسائل:
منها أن الرسول سألَ الشريد عما إذا كان معه شيء من شِعر أمية، والظاهر أنه كان يَعلم أن لرديفه روايةً للشعر وعنايةً به؛ إذ لا معنى لحمل السؤال على غير ذلك.
ومنها أن مناسبةَ السؤال إردافُ النبيِّ الشريدَ، ومن المحتمل أن يَكون ذلك في سَفَر، فقد طال الاستنشاد والإنشاد.
ومنها أنه استنشده شعرَ أمية دُون سِواه، ومعلوم أن شِعر هذا الشاعر كانت له خصوصية، فقد كان «كثير العجائب، يَذْكُر في شعره خلْق السماوات والأرض، ويَذْكر الملائكة، ويَذْكر مِن ذلك ما لم يَذْكُره أحدٌ من الشعراء، وكان قد شامّ أهل الكتاب»(5)، و«قد طلب الدين في الجاهلية هو وورقة بن نوفل»(6)، و«نظر الكتب وقرأها، ولبس المسوح، وتعبّد أولا بذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرَّم الخمر، وتجنَّب الأوثان، وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يُبعث في الحجاز، فرجا أن يَكون هو، فلما بُعث النبي حسده فلم يسلم»(7).
وأما الأمر الثاني وهو إنشادُ الشريدِ النبي ، ففيه أيضا مسائل:
منها أنه كان يُنشده البيتَ ثم يسكت، وأن النبي كان يَستزيده، فكان أن أنشده مائة بيت بهذه الطريقة.
ومنْها حِرْصُ النبي على سماع ذلك الشعر، وعنايته به.
ومنْها تأدّب الشريد مع النبي استجابةً لطلبه، وإنشادًا على قدْر الحاجة.
ومنْها تأكد كوْنِ الشريدِ راويةً للشعر.
ومنها أنه لم يَذكر لنا ما أنشده إياه، والراجح أن يَكون أبياتا كان يتخيَّرُها مِنْ شعر أمية.
ومنها أن النبي لم يكن له أي اعتراض على ما كان يَسمعه.
وأما الأمر الثالث وهو تعليق النبي بقوله: « فلقد كاد يسلم في شعره»، فالثابت في رواياته لفظ «كاد» ولفظ «يسلم»، وفي ذلك مسائل:
منها دلالة التعليق على أن الرسول أحسّ مِن شعر الرجل أنه اقترب مِن الإسلام جِدا.
ومنها أنّ حُكمه ذاك قد يَكون مبنيا على الشعر الذي أسمعه الشريد إياه، فيكون دالا على حُسن الاختيار والإنصات، أو يكون مبنيا عليه وعلى غيره مما سَبَق للنبي أنْ سَمِعه، فيكون دالا على معرفةٍ بشعر هذا الشاعر، وفي جَمِيع الأحوال فالتعليق النبوي مُرتبطٌ بعقيدة أمية في شِعره، وقد يُفِيد هذا أن الاستنشاد كان بَعْد وفاته.
ومنها أن التعليق النبوي اتَّجه نحو الإسلام في الشعر، أي نحو المعنى لا المبنى؛ لأن غَرَض النبي هو بيان وجوه الخيْر في هذا الشعر.
ومنها أن ذلك التعليق يفيد بأن كُفْر الشاعر لا يقتضي بالضرورة كُفْر شِعْره.
ومنها أن جميع روايات الحديث تُستعمَل لفظ «يسلم»، لا لفظ «يؤمن»، ومعنى ذلك أن ذلك الشعر دال على أن الخطوة الأولى لم تَتِم، ولو تمت لكان لها ما بَعْدها، وقد يكون هذا مرتبطا بحياة أُمية، وأنّ شِعْرَه شَديدَ الصلة بحياته، فإذا كان قد دَنا في شِعْره من الإسلام، فإنه قد قارب الإعلان عن إسلامه، وقرّر اللحاق بالنبي بالمدينة، لكن حال بيْنَه وبيْنَ ذلك ما قيل له عن قتلى بدر من المشركين، فذهب إلى الطائف، ومات هناك كافرا.
ومنها أن الناس يستفيدون مما في شعر الشاعر مِن خيْر، ولا يضيرهم ما كان عليه في حياته من انحراف.
ومنها أن الشاعر قد يُفيد الناس ويَحْرِمُ نفسَه، فيَسْعَدون بشعره، ويشقى هو؛ لأنه يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، ويَدُلُّهم على الخير وينصرف عنه، ويفيدهم الحِكَم، ولا يستفيد منها.

د. الحسين زروق
———————-
(1)- صحيح مسلم، 15/11، حديث رقم 2255، ك.الشعر.
(2) – م.س، حديث رقم 2255/2.
(3) – مسند أحمد، 14/464، حديث رقم 19349، بإسناد صحيح.
(4) – م.س، 14/465، حديث رقم 19356، بإسناد صحيح.
(5) – طبقات فحول الشعراء، 1/262-263.
(6) – م.س، 1/263.
(7) – الإصابة، 1/385.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>