قد يقود الوثاق بسلاسل الذنوب والإسراف على النفس في الحياة الدنيا إلى التقييد بوثاق الذل والمهانة في الآخرة: وهو الإسار في السلاسل والأغلال؛ والسحب على الوجوه في النار.
فالصورة لها وجهان: وجه يظهر في الدنيا لأصحاب القلوب الوجلة ويغيب عن غيرهم.
ووجه سيكشف عنه لجميع الخلق في يوم سترفع فيه الحجب، ويصير فيه البصر حديدا.
فما أوثقنا به أنفسنا من شهوات وملذات في الحياة الدنيا ستتغير ماهيته وينجلي قبحه وإن زينته النفوس في العاجلة بألوان الغواية، وسيصير أشد ضراوة تحقيقا لوعيد الله تعالى في سورة الفجر في قوله: يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد .
والوثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربط ويجعل للأسير والمَقُود إلى القتل، فيجعل لأهل النار، قال تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم .
إن ما أوثقنا به أنفسنا أسر القلوب والجوارح عن الاستجابة لربها، فوثاق العجز والكسل أدخلنا سجن القنوط والسلبية، ورفض كل تغيير بان، فأضحى الجسد معه كَلاًّ لا يقوى على الإقدام بل يتهيبه، فتجره القيود ليهوي في دركات لا نهاية لها ولا مستقر، فيهوى العيش في حيز اللا شيء.
ووثاق الحسد وإيثار الذات وسم معاملاتنا بالخصومات والتباغض والشحناء، فقضينا على روح الإخاء والمناصرة والتناصح، ورسمت على الوجوه ابتسامات خداعات، تحاول إخفاء ضغائن القلوب. وأنى لها ذلك؟
ووثاق حب المال، وحب الخير الشديد جعلنا نركض خلف متاع الحياة الدنيا ركض الوحوش في البرية وتعالى لهاثنا على الفتات الفاني، فما أدركنا غير السراب.
ووثاق حب المظاهر بل حب الظهور وسم أقوالنا وأفعالنا بتكلف لا يصبر عليه إلا من يرنو علو ذكره بين الخلق ومدحهم له، وينتشي بذلك… وغيرها من الوثق كثير.
إنها أغلال تأسرنا عن النهوض بذواتنا، وتحقيق مراد الله جل وعلا من خلقنا، فتتغير المفاهيم وتضيع الحقائق. وحري بنا أن نتخذ وثاقا يأسرنا عن المعصية لا عن الطاعة، عن الشر لا عن الخير، عن الغفلة لا عن اليقظة، ففي لجام النفس تزكيتها وصلاحها، ولا استقامة لها إلا بذلك.
فحاجتنا ماسة إلى وثاق يغلنا عن الاسترسال مع هوى الطبع لتربح تجارتنا مع الله، ونفي بعقد إن الله اشترى من المومنين أنفسهم .
نريد وثاقا يغل القلب بسلاسل الرغبة والرهبة ليطير به طائر الشوق بجناحي الخوف والرجاء فيتحرك سحاب الاطمئنان لينزل صلاحا وتقوى، فنكون ممن قال فيهم المولى : أولئك الذين سبقت لهم منا الحسنى .
نريد وثاقا للسان فلا ينطق إلا طيبا، فتغل البذاءة والفحش وقول الزور والكذب والتجريح والشتم والسباب… فنكون ممن هُدوا إلى الطيب من القول.
نريد وثاقا يغل كِبْر إبليس فينا «وحسد قابيل وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة نمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان، وهوى بلعام، وحيل أهل السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل».
نريد وثاقا يغل طباعنا عن «حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراشة، ونوم الضبع».
نريد وثاقا آسرا لنكون عبادا لله جل وعلا حقا لا لغيره، فيحاج وثاق الدنيا عنا وثاق الآخرة، ويشهد إذا عزم الأمر أننا شددناه فما انصرم، وأننا اصطففنا مع عباده الذين قال فيهم المولى: التائبون العابدون وأننا سعينا في الخير والصلاح وما توفيقنا إلا به سبحانه.
ذة. رجاء عبيد