فنُّ إِفْرادُ الْحَديثِ الْواحِدِ بِالتَّصْنيفِ: (حلقة 3)
إتماما للحلقة الثانية (السابقة)، نذكر نماذج أخرى منْ المؤَلَّفاتِ التي وُضعت لشرح الحديث الواحدِ؛ وعنيت بذكر ما يتضمنه من الفوائد القيمة:
1 – ِمَّا أُفْرِدَ فيهِ الْحَديثُ الْواحِدُ بِالتَّصْنيفِ «رِسالَةٌ لَطيفَةٌ في شَرْحِ حَديثِ «أَنْتَ ومالُكَ لأَبيكَ»» للإِمامِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْماعيلَ الصَّنْعانِيِّ (ت.1182)(1). و هِيَ رِسالَةٌ صَغيرَةٌ في شَرْحِ الْحَديثِ الْقَصيرِ الْمَشْهورِ: «أَنْتَ و مالُكَ لأَبيكَ» الذي أَخْرَجَهُ الْبَزّارُ، ورُوِيَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ رَسولِ اللهِ [. و أَخْرَجَهُ أَبو داوُدَ في كِتابِ الْبُيوعِ والإِجاراتِ: «بابٌ في الرَّجُلِ يَأْكُلُ مِنْ مالِ وَلَدِهِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعاصِ، أَنَّ رَجُلاً قالَ: «يا رَسولَ اللهِ إِنَّ لي مالاً ووالِدًا، و إِنَّ أَبي يَجْتاحُ مالي، قالَ: «أَنْتَ ومالُكَ لأَبيكَ، إِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلوا مِنْ كَسْبِ أَوْلادِكُمْ»»، ومَعْنى «يَجْتاحُهُ»: يَسْتَأْصِلُهُ أَخْذًا وإِنْفاقًا. وقَدِ اسْتَخْرجَ مِنْهُ الشّارِحُ اسْتِنْباطاتٍ فِقْهِيَّةً: مِنْها الْعَمَلُ بِالْحَديثِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقولُ: يأْخُذُ الأَبُ والأُمُّ مِنْ مالِ وَلَدِهِما بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ولا يَأْخُذُ الابْنُ ولا الابْنَةُ مِنْ مالِ أَبَوَيْهِما بِغَيْرِ إِذْنِهِما …
والْحَديثُ هُوَ أَيْضًا جَوابٌ لِمَنْ يُطالِبُ أَباهُ بِالدَّيْنِ. ومِنْ فَوائِدِهِ أَنَّ الْوالِدَ يَأْخُذُ مِنْ مالِ وَلَدِهِ ما يَشاءُ إِلاّ الْفَرْجَ. و مِنْها أَنَّهُ لا يُغَرَّمُ الْوالِدُ مِنْ مالِ وَلَدِهِ ما اسْتَهْلَكَ. ومِنْها أَنَّ اجْتِياحَ الأَبِ لِمالِ ابْنِهِ لا يُبيحُ لَهُ الإِسْرافَ والتَّبْذيرَ فيهِ، ولكِنْ يَأْخُذُ بِقَدْرِ الْحاجَةِ. ومِنْها مَسْأَلَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ تَصَرُّفِ الْوالِدِ في مالِ ابْنِهِ حَيًّا، و ميراثِهِ لَهُ مَيِّتًا، مَعَ الْوارِثينَ. ومِنْها أَنَّ الابْنَ لا يَتَزَوَّجُ أَمَةً وأَبوهُ حَيٌّ إِلاّ بَعْدَ أَخْذِ رَأْيِهِ وإِذْنِهِ بِذلِكَ. ومِنْها أَنَّ سِرَّ كَلامِ جابِرٍ «يَأْخُذُ الأَبُ والأُمُّ مِنْ مالِ وَلَدِهِما» كَلامٌ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، كَأَنَّهُ قاسَها عَلى الأَبِ تَحْتَ عُمومِ قَوْلِهِ [ : «إِنَّ أَوْلادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلوا مِنْ كَسْبِ أَوْلادِكُمْ»… لا يَشْملُ الأُمَّهاتِ إِلاّ تَغْليبًا، والتَّغْليبُ مَجازٌ والأَصْلُ الْحَقيقَةُ، وأَيْضًا فَالأَصْلُ عِصْمَةُ مالِ الْوَلَدِ، فَلا يُشاركُ فيهِ، ولا يَكونُ لِغَيْرِهِ إِلاّ بِدَليلٍ قاهِرٍ، كَالنَّصِّ في حَقِّ الأَبِ.
2 – ومِنْ نَماذِجِ إفْرادِ الحَديثِ الواحِدِ بالتَّصْنيفِ كِتابُ «قَطْر الوَلِيِّ عَلى حَديثِ الوَلِيّ» للإمامِ الشّوكانِيّ (ت.1250). قالَ المؤلِّفُ في خُطْبَتِه عنْ حَديثِ «مَنْ عادى لي وَلِيّاً» لَمّا «اشْتَمَلَ على فَوائِدَ كَثيرَةِ النَّفْعِ جَليلَةِ القَدْرِ لِمَنْ فَهِمَها حَقَّ فَهْمِها، وتَدَبَّرَها كَما يَنْبَغي، أحْبَبْتُ أنْ أُفْرِدَ هذا الحديثَ الجَليلَ بِمُؤَلَّفٍ مُسْتَقِلٍّ، أنْشُرُ مِن فَوائِدِه ما تَبْلُغُ إليهِ الطّاقَةُ ويَصِلُ إليه الفَهمُ، وما أحَقَّه بأنْ يُفْرَدَ بالتّأليفِ، فإنّه قدِ اشْتَمَلَ عَلى كَلِماتٍ كُلُّها دُرَرٌ، الواحِدَةُ مِنْها تَحْتَها مِنَ الفَوائِدِ ما سَتَقِفُ عَلى «البَعْضِ» مِنْه. وكيفَ لا يَكونُ كذلِكَ وقدْ حَكاه عَنِ الرَّبِّ سُبْحانَه مَنْ أوتِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ، ومَنْ هو أفْصحُ مَنْ نَطَقَ بالضّادِ… ».
ونَصُّ الحَديثِ في صَحيحِ البُخاري: (إنَّ الله قالَ: مَنْ عادى لي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُه بِالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدي بْشَيءٍ أحَبّ إلَيَّ مِمّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه، وما يَزالُ عَبْدي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتّى أحِبَّه، فإذا أحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الذي يَسْمَعُ بِه وبَصَرَه الذي يُبْصِرُ بِه ويَدَه التي يَبْطِشُ بِها ورِجْلَه التي يَمْشي بِها، وإنْ سَألَني لأُعْطِيَنَّه، ولَئِن اسْتَعاذَني لأُعيذَنَّه، وما تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيءٍ أنا فاعِلُه تَرَدُّدي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَه المَوْتَ وأنا أكْرَه مَساءَتَه)(2).
وقدْ أفاضَ الشّوكانِيّ في شَرْحِ ألْفاظِ الحَديثِ واسْتِخْراجِ فوائِد كُلِّ لَفْظٍ، بِما يَزيدُ عَلى ثَلاثِمائَةِ صَفْحَةٍ، وانْتَقَدَ شُرّاحَ الحَديثِ إذْ لَمْ يَسْتَوْفوا ما يَسْتَحِقُّه هذا الحَديثُ من الشَّرْحِ، ومنهُمْ ابْنُ حَجَرٍ رَحمَه الله في «فَتْحِ الباري».
فَقَدْ عَقَدَ الفَصْلَ الأوّلَ لِشَرْحِ المَفْهومِ من كَلِمةِ الوَلِيِّ في اللُّغةِ وعِنْدَ جُمْهورِ المُسْلِمينَ، والفصْلَ الثّاني للطَّريقِ إلى ولايةِ الله، وهُو الإيمانُ باللهِ وأداءُ الفَرائضِ والتّقَرُّبُ بالنَّوافِلِ والأذْكارِ، والفَصْلَ الثّالِثَ لأثَرِ مَحَبَّةِ الله في حَياةِ الوَلِيّ، والفَصْلَ الرّابِعَ لِقيمةِ هذا الحَديثِ في بابِ السُّلوكِ والأخْلاقِ.
و لكنَّ الشّوكاني رَحِمَه الله، لمْ يَتَعَرَّضْ لشيْءٍ منْ لُغَةِ الحَديثِ أو بَلاغَتِه، بل الْتَزَمَ بشَرْحِ مَعانيه وما يَدْخُلُ فيها من فُروعٍ و فَوائِدَ مُحْتَمَلَةٍ، مِمّا يَتَحَقَّقُ بِه صِفَةُ «الجَمْعِ والإيجازِ» في الحَديثِ الشَّريفِ.
3 – ومِنْ نَماذِجِ إفْرادِ الحَديثِ الواحِدِ بالتَّصْنيفِ: كِتابُ «الفَوائِد المُنْتَقاة مِنْ حَديثِ «مَثَلُ القائِمِ عَلى حُدودِ الله» . تَناوَلَ الكاتِبُ بالشَّرْحِ والبَيانِ حَديثَ النُّعْمانِ بنِ بَشيرٍ «مَثَلُ القائِمِ عَلى حُدودِ الله»(3). و نَصُّ الحَديثِ كَما وَرَدَ في صَحيحِ البُخارِيّ: «عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ [ قَالَ: «مَثلُ الَْقائِمِ عَلى حُدودِ اللَّهِ واْلوَاقِعِ فِيها كمَثلِ َقوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلى سَفِينَةٍ فَأَصابَ بَعْضُهُمْ َأعْلاها وَبَعْضُهُمْ أسْفَلها فَكانَ الذِينَ فِي أسْفلِها إِذا اسْتَقوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلى مَنْ فوْقهُم َفَقاُلوا َلوْ أنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقا وَلمْ نُؤْذِ مَنْ َفوْقنَا فإِنْ يَتْرُكوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكوا جَمِيعًا وإنْ أخَذوا عَلى َأيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا»(4). لَمْ يَكْتَفِ الكاتِبُ في كِتابِه هذا بِما دَرَجَ عَليه عُلَماءُ فِقه الحَديثِ من بَيانِ المَعْنى واسْتِنْباطِ الفَوائدِ والأَحْكامِ، ولكنَّه اخْتَطَّ مَنْهَجاً في تَناوُلِ السُّنَّةِ عَمَدَ فيه إلى ذكْرِ ما يَتَعَلَّقُ بِهذا الحَديثِ منْ عُلومِ العصْرِ ومُسْتَجدّاتِ الحَياةِ كَعُلومِ الاجْتِماعِ والقانونِ والتَّرْبِيّةِ، فَرَبَطَ بَيْنَها وبَيْنَ الحَديثِ من غيرِ تَكَلُّفٍ ولا تَحْميلٍ لألْفاظِ الحَديثِ ما لا تَحْتَمِلُ .
وقَدْ أَفْرَدَ الكاتِبُ لِبَيانِ الحَديثِ وشَرْحِه فُصولاً تَتَعَلَّقُ بِفَوائِدِه اللّغويّةِ والبَلاغِيّةِ وبالفَوائِدِ الفقهيّةِ، ومن الفَوائِدِ اللّغوِيّةِ بَيانُ مَعاني المُفْرَداتِ اللُّغَوِيّةِ كَـ»حُدود الله» و»المُدْهِن»(في رِوايةٍ أخْرى) و«اسْتَهَموا» و«خَرَقْنا في نَصيبِنا خَرقًا» و«أخَذوا عَلى أيْديهِم»، وبَيانُ المَعاني النّحْوِيّةِ، مِنْها أسلوبُ الشَّرْطِ الذي حُذِفَ جَوابُه في قَوْلِه «لَوْ أنّا خَرَقْنا» وأسْلوبِ الشّرْطِ في قَولِه «فإنْ يَتْركوهُم»، ومِنْها مَعاني الأدَواتِ في الحَديثِ، وبَيانُ المَعاني البَلاغِيّةِ التي يَثْبُتُ بِها أنّ النّبِيَّ [ كانَ أفْصَحَ البشرِ لِساناً وأبْلَغَهم بيانًا ولا ينطِقُ إلاّ بِجَوامِعِ الكَلِمِ. وقَدْ قسّمَ الحَديثَ عن بَلاغةِ الحَديثِ إلى الفُروعِ الثَّلاثَةِ المَعْروفةِ، وهيَ المَعاني والبَيانُ والبَديعُ؛ فأمّا الفَوائِدُ المَعْنَوِيّةُ فَمِنْها أنّ الأسلوبَ في هذا الحَديثِ أسلوبٌ خَبَري ويشبِّه فيها الرَّسولُ [ القائِمَ عَلى حُدودِ الله والواقِعَ فيها بِراكِبي سَفينةٍ غَيرَ أن هذا الأسلوبَ الخَبَريَّ قَد خَرَجَ عَلى خِلافِ مُقتضى اللَّفْظِ الظّاهِرِ، فَليسَ المُرادُ مِن الخَبرِ هُنا مُجردَ إفادَةِ السّامعِ بالخَبَرِ، ولا إفادَته أنّ المُتَكَلِّم عالِمٌ بالخَبَرِ، وإنَّما الغَرَضُ مِنْه الحَثُّ وتَحْريكُ الهِمَّةِ نَحْوَ القِيامِ بِواجِبِ الأمْرِ والنَّهيِ. وأمّا الفَوائِدُ البَديعِيّةُ ففيها من المُحَسِّناتِ المَعْنَويةِ: الطِّباقُ في جَمْعِه بَين «القائِمِ» و«الواقِعِ»، وبَيْنَ «أعْلاها» و»أسْفَلها»، و بَيْنَ «هلكوا» و«نَجَوْا». ولَيسَ مِن شَكٍّ في أنّ هذا الطِّباقَ قد أبْرَزَ المَعنى وزادَه وُضوحًا، فإنَّ الضّدَّ كَما يُقالُ – يُظْهِرُ حُسْنَه الضِّدُّ، و يَزيدُ من حُسْنِه أنّه أتى في كَلامِه عَفْوًا لا يُحِسُّ المَرءُ فيه شيئًا مِنَ التَّكَلُّفِ المَذمومِ، فإنَّ تَكَلُّفَ المُحَسِّناتِ البَديعِيّةِ وتَعَمُّدَها مِمّا يُفْقِدُ الكَلامَ سَلاسَتَه. و أمّا عنِ الفَوائِدِ البَيانِيّةِ فقد اشْتَمَلَ الحَديثُ عَلى صُوَرٍ بَيانيّةٍ مِنْها الاستِعارَةُ في قَولِه «القائم عَلى حُدودِ الله»، وهي اسْتِعارَة مَكْنِيةٌ شُبِّهَت فيها المَعاصي بِوَهْدَةٍ مِنَ الأرضِ مَحْدودَةٍ بِحُدودٍ وحَوْلَها رِجالٌ يَحْرُسونَها، ويَمْنَعونَ النّاسَ منَ الوُقوعِ فيها، ثمّ حذفَ المُشَبَّه بِه وأتى بِلازِمٍ مِنْ لَوازِمِه وهي الحُدودُ. والأمْرُ نَفْسُه يُقالُ في «الواقِع فيها». ومِن الصُّوَرِ البَيانِيّةِ الكِنايَةُ في قَولِه: «أخَذوا عَلى أيْديهِم»؛ فإنّ الأخْذَ عَلى اليَد كِنايةٌ عَن اسْتِعْمالِ القُوّةِ. ومِن الصُّوَرِ أيضاً التَّشبيه التَّمثيليّ في قَولِه: «مَثَلُ القائِمِ عَلى حُدودِ الله…»، وهُوَ تَشبيهُ مَعقولٍ بِمَحسوسٍ؛ شُبِّهتْ فيه الهَيئةُ الحاصِلَةُ مِنْ قِيامِ المُسْلِمينَ بِواجِبِهِم في تَغييرِ المُنكرِ بِالهَيئةِ الحاصِلَةِ مِنْ قِيام أهلِ السَّفينَةِ بِمَنْعِ مَنْ يُريدُ خَرقَها مِنَ الإقدامِ عَلى ما يُريدُ، كَما شُبّهت الهَيئةُ الحاصِلَةُ مِن التَّقاعُس عَن تَغييرِ المُنكَرِ بِحالِ أهلِ السّفينَةِ إنْ تَرَكوا مَن يُريدُ خَرقَها يَفعلُ ما يَشاءُ. ووَجْه الشَّبَه هُنا صورَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ مُتَعَدِّدٍ؛ وهي مُنتزَعَة في الحالَةِ الأولى مِنْ هَيئَةِ النَّجاةِ المُتَرتِّبةِ عَلى قِيامِ قَومٍ بِما يَجبُ عَليهم، وفي الحالَةِ الثانِيَةِ مِنْ هَيئةِ الهَلاكِ النّاجمِ عَن تَقصيرِهِم في ما يَجبُ عَليهِم؛ فَكَما أنّ أهلَ السَّفينَةِ سَيَنْجَوْنَ إنْ أخَذوا عَلى يَدِ مَن يُريدُ خَرْقَها، فإنَّ النَّجاةَ سَتَكونُ مَصيرَ الجَميعِ في مُجْتَمَعٍ يَأخُذُ أهْلُه عَلى يَد العابِثينَ، وكَما أنَّ الغَرَقَ سَيكونُ مَصيرَ أهْلِ السَّفينَةِ إنْ تَرَكوا مُريدَ الخَرْقِ يَفعلُ ما يُريدُ فإنَّ مُجْتَمَعَ المُداهِنينَ السّاكِتينَ عَنْ أهْلِ المُنْكرِ سَيؤولُ إلى هَلاكٍ مُحَتّمٍ .
ومِنْ مَلامِحِ البَلاغةِ النّبويّةِ، القيمَةُ الجَماليةُ لِهذا المَثَلِ؛ إذ زادَ هذا التَّشْبيهُ المَعْنى المُرادَ وُضوحًا وجَمالاً؛ فَقد شبّه الأمْر المَعْقول وهو حالُ النّاسِ في اﻟمُجْتَمَعاتِ بأمْرٍ مَحْسوسٍ، وهُوَ حالُ قَومٍ رَكِبوا سَفينَةً، وهو أمْرٌ يُمْكِنُ إدْراكُه بالحِسِّ. ثمَّ إنّ الحَديثَ لم يَكتفِ بإعْطاءِ السّامعِ تَشبيهًا مُجَرَّدًا، و لكنَّه جاءَ به في قالَبٍ أقْرَب ما يَكونُ إلى هيئةِ القِصّةِ التَّمثيليّةِ، وإنّ النّاظرَ إلى هذا المَثَلِ يَجِدُه مَليئاً بالحَرَكةِ والمَشاهدِ المُتَتابِعةِ…
ومن مَلامِحِ البَلاغةِ النّبويّةِ في هذا الحَديثِ أيضاً اتِّساقُ التّشبيهِ مَعَ الغَرَضِ الذي سيقَ لَه؛ فإنّ تَشبيه اﻟمُجْتَمَعِ بالسَّفينَةِ يَتّفقُ غايَةَ الاتِّفاقِ والغَرَضَ الذي سيق له التّشبيهُ وهو بَيانُ أهمّيّةِ الأمرِ بِالمَعروفِ والنَّهيِ عَن المُنكَرِ وخُطورَةِ التَّغاضي عَن أصْحابِ المَعاصي والمنكرات .
ومِنْ مَلامِحِ البَلاغةِ النَّبويّةِ في الحَديثِ الدِّقَّةُ في اخْتيارِ الألفاظِ؛ و ذلِكَ أنّه لَمّا كانَ الرَّسولُ [ لا يَنطِقُ عَن الهَوى، و قدْ أوتِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ، فإنَّ مِن سِماتِ حَديثِه اخْتيارَ اللّفظِ المُناسِبِ في مَوضِعِه بحيثُ لا تَرى في كَلامِه حَرفًا مُضْطَرِبًا ولا لَفْظاً مُسْتَكْرَهاً عَلى مَعْناه ولا كَلِمَةً غَيْرُها أتمُّ منْها أداءً للمَعْنى، ولا لَفظةً مُسْتَدَعاةً لمَعناها أو مُسْتَكْرَهَةً عَليه، ولا كَلِمَةً غَيرُها أتَمُّ مِنْها أداءً للمَعْنى.
ومِنْ مَلامِحِ البَلاغةِ النّبوِيّةِ صِفةُ العُمومِ في هذا التَّشْبيه؛ وذلِكَ أنَّ الدّارسَ للتَّشبيهاتِ التي توجَدُ في أمْثلةِ الشُّعوبِ وآدابِها، سَيَجِدُها ولاشَكَّ مُعبِّرةً عَن زَمانِها وبيئتها التي قيلَت فيها، بَيْنَما نَجدُ الأمرَ عَلى خِلافِ ذلكَ في تَشبيهات القُرآنِ الكَريمِ والسّنّةِ المُطهَّرةِ، فَهيَ تَتَّسمُ بالعُمومِ؛ حيثُ لا يجِدُ السّامعُ في أيّ عَصْرٍ ولا مِصْرٍ كَبيرَ عَناءٍ في فَهمِ المَثَلِ ومَعْرِفَةِ المَقصودِ مِنه. ذلِكَ أنّ حديثَ النّبيّ [ هوَ حديثُ رَسولٍ بُعِثَ إلى النّاسِ كافَّةً، ورِسالَته هِيَ الرّسالَة الخاتِمَة؛ فانْبَنى عَلى ذلكَ أنْ يَكونَ الخِطابُ فيها مُتّصِفاً بصِفَةِ العُمومِ لِيَفْهَمَه جَميعُ النّاسِ، وصفةُ العُمومِ فيه تَتَجَلّى في اختيارِ الألفاظِ العامّةِ كالماءِ والسّفينَةِ وأهلِ السَّفينةِ، وهِيَ عَناصِرُ يَسْتَوي في إدْراكِها النّاسُ كافَّةً(5).
أ.د. عبد الرحمن بودرع
—————-
1 – الْحَديثُ أَخْرَجَهُ أَبو حاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حِبّان في صَحيحِهِ : 2/142 ، 10/74 رَقْم:[410و4262]
2 – الحَديثُ رَواهُ محمد بن عثمان بن كرامة عن خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة : [صَحيح البُخارِيّ: 5/2384] .
3 – لِعَبْدِ الآخِرِ حَمّاد الغنيمي، ط. دار البيارِق، عمّان، الأردن، ط.1 / 1419-1999 .
4 – رَواه البُخارِيّ في كِتابِ الشّركَة، باب «هَلْ يُقْرَعُ في القِسْمَةِ و الاسْتِهام فيه» [صَحيح البُخارِيّ: 2/882] عَن النُّعْمانِ بْنِ بَشيرٍ
5 – انظُرْ كِتابَ [«الفَوائِد المُنْتَقاة مِنْ حَديثِ «مَثَلُ القائِمِ عَلى حُدودِ الله»] .